الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

التفاعل بين الغزل والحياة فى الحجاز، في القرن الأول الهجري

Share

ان الحديث عن المراة والحب فى الشعر العربى عامة كثير منذ العصر الجاهلى الى اليوم ، ولكن ليس كله من نوع واحد ، فان متتبع الغزل فى الأدب العربى سرعان ما يلاحظ ان الغزل كان فى شعر الجاهليين وسيلة اذ كان مقدمة لغاية اخرى فاصبح فى العصر الاموى مع بعض الشعراء فى الحجاز غاية فى حد ذاته فصار يكون قصيدة مستقلة قائمة بذاتها . وقال بعض نقاد الأدب (1)  بانه لم يوجد الغزل العربى الخالص مرتين وانما وجد مرة واحدة فى القرن الاول فى الحجاز ويقرر النقاد ايضا انه بلغ فى هذا العهد القمة فى الاتقان الفنى فاستحق بذلك الخلود . فى حين نسيت الجاهليين ومن نحا نحوهم لم يكن حظه من النجاح والخلود الا قليلا ... ولعل سبب امتياز الغزل الحجازى يعود الى التفاعل الذى كان بينه وبين الحياة فى الحجاز فى القرن الاول مما دفع بعض النقاد (2) أيضا الى القول : " إن المتبع لحركة الشعر فى العصر الاموي يحس ان هناك تفاعلا عميقا بين الغزل والحياة فى الحجاز " .

لذا فان هذا التفاعل بين شعر الغزل والحياة فى الحجاز فى القرن الاول جدير بالدرس والتحليل ، وهذا ما سنحاوله فى هذه الصفحات القليلة مع ايجاز كبير عامدين في كثير من الاحيان الى الاشارات السريعة لضيق المقام :

ان لفظة " تفاعل " بين شيئن تفيد ان كل واحد منهما قد تاثر بالاخر وأثر فيه ولهذا سندرس في مرحلة اولى تاثير حياة الحجاز فى الغزل ونتطرق بالتالي فى مرحلة ثانية إلى درس تاثير هذا الغزل فى حياة الحجاز فى القرن الاول مع ان هذه الطريقة لا تخلو من تكلف ولكن ذلك تقتضيه الدراسة التحليلية :

فاما تاثير الحياة الحجازية فى غزل القرن الاول فيمكن الاستدلال عليه اولا بعالوامل التى ساعدت على ظهوره وهذا دليل من القوة بمكان إذ اى مؤثر فى الغزل أقوى من العوامل التى ادت الى ظهوره ونكاد نقول : إلى خلقه ، واننا اذ نذكر هذه العوامل فانما نشير الى الثراء الذى كثر فى الحرمين نتيجة الفتوحات الاسلامية وازدهار " موارد موسم الحج " . كما نشير الى ظهور جيل جديد بالحجاز عاش فى ظلال الترف والنساء والجوارى ونشير كذلك الى التحلل من كل المشاكل المادية والسياسية نتيجة تحول مركز الخلافة الى الشام وانطواء الجزيرة على نفسها تحيا حياة الترف ، نشير الى ازدهار بعض مدارس الغناء وانتشار الغناء انتشارا كبيرا ولعله يحسن ان نقف قليلا عند مجالس الغناء فهذا شئ هام مما وجد فى الحجاز إذذاك ، وان متصفح كتاب الاغاني ليندهش لكثرة مجالس الغناء في الحجاز فى القرن الاول وكثرة المغنيين والمغنيات وكانت المجالس التى تقام بعد الحج جديرة بالذكر فحتى الشيوخ الوقورون كانوا يحضرونها وصادف ان ارادت جميلة (1) اشهر مغنيات الحجاز الاقلاع عن الغناء تقى منها فاقنعها بعض الشيوخ " ذو علم وسن وتجربة " بان تستمر في الغناء "واذا المجلس الذى اجتمع ليست توبة " جميلة " يجتمع ليسمع صوت جميلة ويفرح فرحا كبيرا بانتصار الفن والغناء " (2) . . .

فهذا الولع بالغناء والحرص عليه ولد حاجة الناس الى الشعر الغزلى الصرف باعتبار ان الغناء لا يكون عادة الا فى الشعر الغزلي وهذا مما يساعد على ظهور الغزل فى الحجاز ونحن اذ نقول هذا ، لا تقرره اعتباطا وانما ننظر فى دواوين شعراء الغزل فى الحجاز فى القرن الاول فتتجلى لنا صورة الحجاز على حقيقتها وكما يثبت ذلك الكثير من الروايات الصحيحة الواردة فى كتاب الاغانى ، وشعر عمر بن ابي ربيعة قد غنى الكثير منه وان نغماته وأوزانه تكاد تنطق وحدها انه انما نظم أو قيل ليغنى ولا حاجة بنا الى الاستشهاد بالقصائد أو المقطوعات كاملة فبعض الابيات يكفينا ، قال عمر : (الرمل)

ليت هندا انجزتنا ما تعد              وشفت انفسنا مما تجد

واستبدت مرة واحدة                انما العاجز من لا يستبد ..

وهو شعر كما ترى كله رقة وخفة توافق تماما الغرض الذي انشئ من اجله ويقول الاحوص ( الرمل مجزوء )

حبها فى القلب داء          مستكين لا يريم

ويقول ابن قيس الرقيات : ( الرمل )

حب ذاك الدل والغنج                والتي فى عينها دعج

والتي ان حدثت كذبت              والتي فى وعدها خلج

خبرونى هل على رجل               عاشق فى قبلة حرج ؟

ولا بد من الاشارة هنا الى اعتناء جل القوم او اكثرهم في الحجاز فى هذا العهد بهذا النوع من الشعر والغناء الى حد ان النساء كن يرين فى مثل هذا الغزل فخرا لهن وكن يتعمدن اثارة الشعراء ليتغزلوا بهن ، وما اكثر ما يقع بين الشعراء الاباحيين والنساء من حوار ، وان فى شعر عمر بن ابي ربيعة صورة صادقه وانظر فى مغامراته تجد وصفا لنفسية النساء وحياتهن وحديثهن الرقيق :

.. فهبت تطيع الصوت نشوى من الكرى                   كمغتبق الراح المدام شمولا

فعضت على الابهام منها مخافة                             على وقالت : قد خلقت عجولا

فهلا إذا استيقنت انك داخل                               دسست إلينا في الخلاء رسولا !؟

فقلت دعاني حبكم فاجبته                                 اليك فقالت : بل خلقت عجولا

قصدت ، وقالت : ما تزال متيما                          " سك " وان كنت الصحيح قتيلا (5)

والقصيد طويل نسبيا وفيه كما ترى حوار حي بين الشاعر المغامر واحدى حبيباته وقد اتاها ليلا فنهضت خائفة تعاتبه أول الامر ثم لانت ولبت رغبته بعد ذلك بكل سرور ... وما اكثر صلة هذا الشعر بالحياة !

وموسم الحج موسم الغرام لكثير من الشعراء خصوصا عمر الذي كان ينتظره ليعرض للنساء ويرى عند طوافهن بالكعبة ما لا يراه خارج الحرم يقول عمر : ( الكامل )

ابت الروادف والثدى لقميصها                   مس البطون وان تمس ظهورا

واذا الرياح مع العشى تناوحت (6)            نبهن حاسدة وهجن غيورا

وهكذا فلولا كثرة النساء ولولا موسم الحج ولولا الترف السائد فى الحجاز لما كان لنا هذا الغزل الرقيق المرتبط شديد الارتباط بالسيئة الصادر عنها

وفى الحجاز من جهة اخرى نوع آخر من الغزل لا يقل قيمة وفنا عن الغزل الاباحى الا وهو الغزل العذرى المتفاعل هو الآخر بحياة الحجاز في ذلك العصر حسب رأينا وان كان بعض الباحثين (7) يفترض ان الغزل العذرى ليس منبعه الحجاز وانما العراق الذي صبغه خاصة بالصبغة " الكورتوازية " ( courttoise ) العذرية فى حين كل القرائن تساعد على القول بان شعور الشاعر البدوى بالحرمان من المراة ورؤيتها ادى به الى تصور المرأة على ذلك النحو المعين خاص وان البادبة تصقل العواطف وتجعل البدوى يتعلق اكثر من الحضرى بالمثل العليا ، فالعذرى لا يرى المرأة الا نادرا بسبب ترحاله واحيانا تحط القافلة رحالها قرب مورد ماء يجتمع حوله الاقوام لمدة محدودة فيشاهد الشاعر فى الجمع امراة فاتنة جميلة مرة او مرات معدودات في أيام قليلة فيبادلها بعض النظرات او بعض الكلمات وأحيانا ينشدها شعرا فيها واذا به قد تعلق بها قلبه ثم يكون الرحيل ويكون الفراق وما اشد ما يكون اثر ذلك الفراق في النفس فالفراق يذكر العاطفة ويلهب الخيال فينشا عنه ذلك الغزل العذرى وكله لوعة واسى ، يكون للمرأة فيه كل صفات الكمال ، يقول قيس في ليلاه :

فانت التى ان شئت اشقيت عيشتى                 وان شئت بعد الله انعمت باليا

ويقول جميل بن معمر : ( طويل ) .

اعوذ بكا للهم ان تشطط النوى             ببثنة فى ادنى حياتى ولا حشرى

وجاور اذا ما مت بيني وبينها                فيا حبذا موتى اذا جاورت قبرى

ولو سالت مني حياتي بذلتها                وجدت بها ان كان ذلك من امرى

وان ما يؤكد ما نذهب اليه من ان النظرة المثالية العذرية للمراة هي الى حد كبير نتيجة الحرمان قول جميل نفسه : (طويل) .

يموت الهوى منى اذا ما لقيتها            ويحيا اذا فارقتها فيعود

وهكذا فان الحياة فى الحجاز اثرت كثيرا في الغزل سواء منه الاباحي أو العذرى .

واما تاثير الغزل ذاته فى الحياة الحجازية فمما يسهل بيانه ايضا وان ما قلناه آنفا عن تاثير الحياة فى الغزل يمكن النظر فيه من زاوية اخرى فيكون الغزل هو العامل اي المكيف للحياة بالحجاز لا هو النتيجة ، فكما ادت الحياة اللاهية بالحجاز الى الاشتغال بالغزل والى ازدهاره فان هذا الغزل هو بدوره - قد تكون وازدهر - أعان على اللهو وزاد في انتشاره : فالمغنى الذي يجد بين يديه ما شاء من المقطوعات الغزلية يحاول ان " يعمل فيها اصواتا " .

ثم إن الغزل الرقيق لا يؤثر فى سامعه فحسب بل يجعله يحاول الترنم به وغناءه . ثم إن تغزل شاعر ما بامرأة ما يرفع شأن تلك المرأة أمام صويحباتها فيكون مثلا : الحسد بينهن ويكون بينهن الحديث الصريح عن المواعيد والوصال واذا بهذا الغزل يكيف حياة النساء فيما بينهن واذا به له سلطان على نفوسهن ، قال عمر : ( الرمل )

" حسدا حملنه من اجلها                   وقديما كان فى الناس الحسد "

ومن تاثير هذا الغزل فى حياة الاشراف انهم اصبحوا يقاومون هذه الاباحية وهذا الذى يعتبرونه هدرا لكرامة نسائهم . أو ليس هذا النوع من الاحتراز فى الحياة نتيجة لهذا الغزل الذي اصبح يفهمه جل الناس ويجرى على السنتهم .

وسواء كان هذا الغزل إباحيا او عذريا فنتيجة سواء على اهل الفتاة وعلى الشاعر .. أو لم يرد فى الروايات انه صدر أمر السلطان باهدار دم جميل اذا فكر فى زيارة بثينة ؟ ! فرحل الى اليمن واصبح حديث القوم بالحجاز ؟ او ليس هذا من تاثير الغزل فى حياة الناس بالحجاز فى القرن الاول ؟

وجملة القول ان التفاعل شديد بين الغزل والحياة بالحجاز فى القرن الاول مما ادى بطه حسين الى القول : " ... تريد ان تدرس حياة الحجاز فى صدر الدولة الاموية ، فارجع الى عمر بن ابي ربيعة (8) " . . هو التفاعل الذى يبرز لنا جليا اذا قارناه بنسيب الجاهليين او بغيره من " غزل " القرن الثاني والثالث وما بعدهما ولكن كل هذا ينبغى أن لا ينسينا ان في القرن الاول ذاته بجانب هذا الغزل المتفاعل مع الحياة يستمر المذهب التقليدى فى " الغزل " ولكن سيرورة هذا الشعر لم تكن الا ضئيلة بالنسبة الى سيرورة شعر جميل وعمر مثلا وغيرهما من الذين جعلوا الغزل فنا قائما بذاته شديد الصلة بنفوسهم وبالحياة فى الحجاز .

اشترك في نشرتنا البريدية