هذه صفحات من كتاب تاريخ افريقيا الشمالية لشارل أندرى جوليان عربناها لما وجدنا فيها من فائدة تكشف عن أصول الثقافة بهذه الديار ولعل هذا يكون حافزا للبحث في مزيد من التحليل عن أشهر كتابنا القدامى الذين ربما تزيح لنا دراستهم النقاب عن خصائص باقية فينا وفيهم وان باعد بيننا وبينهم الزمن وفرقت بيننا وبينهم اللغة
لما ألف الحضر الحياة فى المدن ذات المبانى الشامخة - وان تجلت الفخامة والعظمة فى المؤسسات العمومية خاصة - ولما اندمجوا في جماعات اتاحت لهم ان يشاركوا مشاركة ايجابية مستمرة فى الحياة العامة تأثروا برومة . ولكن تأثرهم كان سطحيا اذ بقوا أفارقة اصيلين . فكان يكفى ان تضعف قوى الامبراطورية ليزور عنها هؤلاء البربر الذين تأثروا في الظاهر بالرومان الا الطبقة الارستقراطية التى بقيت على وقائها لرومة تعاضدها في ذلك الكنيسة وقد امكن للملاكين الافارقة بفضل قوى الامن ان يستبقوا فى شبه عبودية طبقة البربر المعدمين العاملين فى اراضيهم وان يتمتعوا بثرواتهم في مأمن من نهب الناهبين . وان ما تعود به سكان المدن من حياة في كنف النظام والسلطة يبين الى حد ما ولا شك لم استقبلوا الحامي - بعد هزيمة البيزنطيين وثورة اهل الارياف - الفاتحين العرب الذين اقروا من جديد حكومة نظامية ومكنوهم من دواليب الاقتصاد ضد العدو المشترك الا وهو البدوى البربرى المناهض للنظام على دائم الابد .
اللغة اللاطينية
لم تعرف رومة الحقد العنصرى ولا التعصب الدينى ولكنها لم ترض لاسباب سياسية بان تعوض اللغة اللاطينية لغة أخرى . قال القديس أغسطينوس : " ان الدولة الرومانية التى تعرف كيف تحكم الشعوب لم تفرض على المغلوبة منها سيطرتها السياسية فحسب بل لغتها أيضا " . وقد اضطرت الحياة الحضرية عددا كبيرا من البربر الى تعلم اللغة اللاطينية المعروفة فى المحاكم والمجالس البلدية والكتائب . وبقى الكثير منهم يتخاطبون فيما بينهم باللغة الليبية ولمدة معينة باللغة البونيقية ولكنهم كانوا يستعملون اللاطينية فى علاقاتهم الرسمية او لقضاء حاجاتهم . أما فى الارياف فليس من شك فى ان القوم ظلوا دهرا طويلا يجهلون لغة المغيرين
التعليم
لقد ساهم التعليم فى نشر اللغة اللاطينية . فتسابقت البلديات والاثرياء - من دون تدخل الدولة - فى فتح المدارس حتى فى القرى . وكان على التلامذة الافريقيين ان يتعلموا كالرومان واليونان أولا القراءة والكتابة
والحساب تحت رعاية معلمlitterator , primus magister ) ثم إذا هم راموا موصلة دراساتهم كان عليهم ان يتلقوا الآداب عن نحوى يحفظهم عن ظهر قلب امهات الكتب ويشرح لهم قواعد النحو ويسهر على سلامة نطقهم ويدرسهم الآداب خاصة القديم منها ويطالبهم بالانشاء فى اللغة اللاطينية والفلسفة والرياضيات والفلك . ان هذا التعليم كان شديد الوطأة على نفوس الصبية ولقد عبر عن ذلك القديس أغسطنينوس عند الحديث عن ايام دراسته الاولى وما ناله من ضربات المعلم اثناءها فقال : " من الذى لا يروعه ان تعاد له طفولته ولا يؤثر الموت اذا هو أتيح له ان يحيا حياته من جديد " وكان هذا القديس يتذكر بمرارة ما كان يشعر به من ملل عند دراسة مغامرات انياس وديدون ويستحضر تقزز زملائه من أبيات هومروس وفيرجيليوس المحفوظة قسرا وعندما يبلغ الطالب الذكى او الثرى السابعة عشرة من عمره يترك النحو جانبا ويقصد اساتذة المدن الكبيرة وكانت البلديات تحرص شديد الحرص على جلب من ذاع صيتة من المدرسين الى مدارسهم التى نسميها تجوزا جامعة وفي هذا الصدد لمع في نوميديا نجم قرطة وتبسة . وقد واصل فى مداوروش Madure القديس اغسطينوس ( Saint Augustin فى آواخر القرن الرابع دراسته التى بداها فى سوق اهراس ( Thagaste ) وكانت سوسة وطرابلس ولبدة تجلب طلبة افريقية وليبيا . ولكن قرطاجة كانت عاصمة فكرية بقدر ما كانت عاصمة سياسية . وكان من حسن الذوق ان يظهر المرء آخذا من الآداب بطرف ولقد توجه ابليوس الى القرطاجيين الذين كانوا يهتفون به فى المسرح قائلا " اني لا ارى فى مدينتكم الا رجالا كرعوا من مناهل الثقافة وتبحروا فى جميع العلوم : أخذوا العلم صغارا وتحلوا به شبانا ودرسوه شيوخا . ان قرطاجة لهى المدرسة المقدسة فى مقاطعتنا وهى آلهة الشعر فى افريقيا وهى أخيرا ملهمة الطبقة التى تلبس الحلة "
وكان القوم ينصرفون بالخصوص الى مزاولة دروس البلاغة والشعر لقد كان الخطيب في المقام الارفع فى افريقيا " مغذية المحامين " على حد تعبير جوفينال . لقد كانت تغلب على الادب والتاريخ والفلسفة النزعة الخطابية واذا لم تجد الخطابة متنفسا لها فى الحياة العامة فانها تتجلى فى التمارين المدرسية وفى النوادى الخاصة .
وكان الطلبة ينحدرون بصفة عامة من الطبقة الارستقراطية القاطنة فى البلديات وكان بعض الاغنياء يشمل احيانا برعايته أحد الشبان البربر النجباء فيمكنه من تنمية ملكاته فى قرطاجة . ولم يكن هؤلاء الشبان جميعهم مثلا يحتذى في المواظبة والفضيلة فكانوا يرتادون المسارح والملاهى وينغمسون فيما سماه القديس اغسطينوس متندما " مرجل الاهواء التى يندى لها الجبين وكان عدد منهم مثل اغسطينوس لا يقل ولوعهم بحبيباتهم عن ولوعهم بالدروس وكان آخرون يؤلفون عصابات من المشاغبين فيهجمون على قاعات الدرس ويشاكسون الاستاذ ويشبعون الطلبة الوديعين لكما وضربا
وكان التعليم الذى يقوم به النحاة يزود افريقيا بالاداريين والمحامين البارعين وبعض الحكام الاعلام وأشهرهم سالفيوس يوليان ) Salvius Julianus أصيل حدرموت ) سوسة ( وصاحب " القانون الابدى " ( سنة 129 ) ويزودها ايضا برجال كانت ثقافتهم الى السطحية أقرب منها الى العمق
الأدب الرومانى
ان هذا التكوين تبدو آثاره فى المؤلفين الافارقة المسيحيين منهم والمشركين . ففى قرطاجة تعلموا كيف يستسيغون الافلاطونية الحديثة والتصوف الفلسفى وتأملات مدرسة الاسكندرية وفيها تحمسوا لسلسطيوس وفيها كذلك هذبوا ميلهم الطبيعي الى الخطآبة العنيفة اللاذعة المتحدية . انهم لم يكونوا بارعين فى الكتابة بقدر ما كانوا بارعين فى الجدال المرتجل ولقد نشأ عن طبعهم الذي كان يحملهم الى الاهتمام بمادة فكرية غير متنوعة ضرب طريف من التفكير والتعبير يزخران حيوية .
لقد كان الشاعر منيليوس افريقيا ولا شك وهو الذى عالج فى عهد تيبيريوس باسلوب خطابي ولكنه يتدفق حماسا موضوعا كان البربر المعروفون بالتطير مشغوفين به الا وهو معرفة الغيب بالاستناد الى الطالع وكان كرنيتيوس افريقيا ولا شك وهو الخطيب والفيلسوف الرومانى الذى أصبح شيخ مدرسة رومة فى عهد كلوديوس ونيرون . ومن الافارقة ايضا سبتيموس سواريوس الخطيب جد الامبراطور وكأن يتمتع بسمعة ثقافية كبيرة حتى في اوساط مشاهير المؤلفين . ومنهم فلوروس الذى كاد يجن عندما لم يحرز على جائزة الشعر في مهرجانات الكآبيتول ثم أصبح من أشهر خطباء العاصمة في عهد هادريانوس وتحول فجأة الى مؤرخ او بالاحرى الى مشيد يمزايا الامبراطورية فقد طاب له ان يتفلسف فى عظمة رومة عندما الف تاريخا مختصرا لكل الحروب منذ عهد الملوك . ومنهم فرونتيوس أصيل قرطة وهو " خطيب وقنصل واستاذ امبراطورين " كان له من ذيوع الصيت ما حمل انطوان على تكليفه بتلقين الاميرين الشابين مأركوس اورليوس ول . فاروس البلاغة اللاطينية ولكن فصاحته التى لا ينضب لها معين البارعة فى كثير من الاحيان المصطبغة ف بعض الحالات باللون الشعبى تناولت مادة تعوزها الطرافة
ابليوس أصيل مداوروش
كان ابليوس ( ل. المولود حوالى سنة 125 ) من أشهر الكتاب الافارقة
لهذا كان غريب الاطوار كثير المتناقضات فهو جدى وطأئش ، متطير وشاك معجب بنفسه طليق اللسان ، لا يطيقه الناس ويبهرهم فى نفس الوقت لقد انحدر من الطبقة الارستقراطية فى مدينة مداوروش حيث أصبح أبوه احد الحاكمين الاثنين في أوائل القرن الثاني وواصل بطبيعة الحال دراساته العالية فى قرطاجة واستكمل ثقافته اثناء رحلات قام بها فى ايطاليا واليونان واسيا الصغرى . وفي أثينا أغرم بالافلاطونية المدرسية التى ظل يدرسها طيلة حياته . وانبرى بكليته يطلب العلوم . ولاشك انه ارتاد دروس مشاهير السفسطائية وتلقن غالب الاسرار التى تضمن للمؤمنين حياة أبديه سعيدة
وصادف أثناء اقامته في طرابلس أن وقع فى مغامرة غريبة . ذلك أنه ما ان تزوج من أم احد أصدقائه ، وكانت الى ذلك الوقت ممتنعة امتناعا شديدا من التزوج ثانية ، حتى اتهم بآنة ساحر . وقد أخذ أحد المحامين على نفسه أن يقيم الدليل على انه كان يحترف السحر وأنه بذلك يقع تحت طائلة القانون . وقد حفزته هذه التهمة على ان يدافع عن نفسه دفاعا رائعا ان لم يكن كله مقنعا وانحى على خصومه باللائمة لانهم خلطوا بين الفلسفة والسحر وقد حرر خطابه بعد ذلك في صيغة ادبية فأصبح يعرف بالابولوجيا ) Apologie ولا شك ان تأثير هذه التهمة لم يكن كبيرا اذ تمكن ابليوس بسهوله من الرجوع إلى قرطاجة حيث كان نجاحه سريعا . ولم يعقه فى ذلك لا الجمال ولا الفكر ولا المال . وسرعان ما أصبح قبلة الانظار فى هذه المدينة والمحاضر المحبوب الذي يعالج جميع المواضيع وخاصة الفلسفى منها . ولقد احتفظت لنا الازاهير Florides بثلاث وعشرين قطعة من خطاباته تتفاوت طولا جمعها أحد المعجبين به " كباقة جمعت أجمل زهور بلاغته " وكان يتبجح فيها بانه يتقن الفنون على اختلافها . وكان يتوجه لمساعد القنصل فى شى من الخيلاء البريئة قائلا : " اعترف بانى اوثر من بين الآلات اليراع البسيط انظم به القصائد فى جميع الاغراض الملائمة لروح الملحمة أو فيض الوجدان لمرح الملهاة أو جلال المأساة . وكذلك لا أقصر فى الهجاء ولا في الاحاجى ولا أعجز عن مختلف الروايات والخطب يثنى عليها البلغاء والحوارات يتذوقها الفلاسفة ثم ماذا بعد هذا كله ؟ انى أنشىء فى كل شئ سواء باليونانية أم باللاطينية بنفس الامل ونفس الحماس ونفس الاسلوب
نعم انه كان يكتب القصص المتنوعة ولا شك ان احسنها المسوخ Les Metamorphoses التى كانت تسمى منذ القدم بالحمار الذهبى والتى ألفها لا فى تيه شبابه بل حوالى سنة 170 فى قرطاجة . والكتاب قصة كان رواها لوسيان فى كتابه الحمار لتحول المدعو لسيوس الى حمار يعود الى صورته الادمية الاولى بعد مغامرات عديدة تتخللها أطوار جزئية مثل قصة بسيشى وكوبيدون الرائعة ولا تزال المناقشات متواصلة لمعرفة ما إذا كان ابليوس الف كتابه باليونانية أم لا وهل كان لحمار لوسيان والمسوخ مصدر مشترك أم هل ان المرجع الاصلى هو قصة لوسيان المطولة يكون " الحمار " ملخصا لها ومهما يكن فان رواية ابليوس المتنوعة ، الطبيعية المحشوة بدقائق العادات والتى يتتابع فيها الفحش والتقوى هى من الكتب اللاطينية القلائل التى لا تزال تقرأ دون ملل
وانه يتعذر ان نعرف بالضبط هل أن كتاب افريقيا ينحدرون من معمرين رومان . وأغلب الظن ان اكثرهم كانوا من البربر المتأثرين بالحضارة الرومانية الذين عبروا فى لغة الفاتحين عما كانت اللغة الليبية وحتى البونيقية قاصرة دونه .
