الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

الثقافة والانتماء

Share

أردت بهذا الاستقبال ( * ) البسيط الاخوى أن أعبر لكم عن مدى الشرف الذي نالني باستقبالكم  وعن مدى ارتياح لثراء الايام السنمائية بقرطاج هذه الشاهدة بحيوية وقوة السنما بل والشاهدة أيضا بتجدد السنما والتعبير السنمائى فى العالم الثالث .

ورجائى ان تسجل الايام السنمائية بقرطاج الجارية حاليا تقدما واضح الدلالة . انه ليس مما جرت به العادة ولا من المعمول به بمزيد الاسف ان يستقبل وزراء - وبالاحرى وزير أول - رجال ثقافة وأن يصغوا اليهم . والتعلة هى ان هؤلاء " الساسة " ليس لهم من الوقت " ما يضيعونه " للاهتمام بالادب والسنما أو المسرح بل لهم مشاغل أخرى تعتبر " أهم " .

أما نحن فى تونس فمقتنعون بان الثقافة تمثل أحد الابعاد الهامة للعمل السياسي . ونرى أن على السياسي أن يهتم بالثقافة اهتمامه بالشؤون الاجتماعية والصحة والتجارة والصناعة وغيرها .

ان استقبال هذه النخبة من السنمائيين والمنتجين من العالم الثالث دليل على العناية التى توليها تونس وشعبها للثقافة فى أوسع مفاهيمها وفى مختلف أنواع تعبيرها .

والحكومة التونسية تؤكد من جديد ، من خلال هذه الغاية أن الواقع الثقافي لا يقل تأثيرا وحيوية عن الواقع الاقتصادى .

ان المكانة الممتازة التى تحتلها الثقافة فى مشاغل الحكومة يبررها الدور الهام الذى تقوم به فى تحرير شعوب العالم الثالث وفى تكوين الاجيال الفتية التى عليها ان تعززها بأسباب الحصانة الذاتية ضد كل التيارات التى تدعي الثقافة وضد الاغلال المذهبية .

ولئن كان هذا مفهومي لمسؤوليتى كوزير أول فان الرجل الذى يخاطبكم قد ناضل وسيناضل دوما في خدمة الثقافة لا لان الثقافة تمثل فى نظري هواية أو تمضية للوقت وانما لانى كنت دوما أعتقد منذ أن كنت أستاذا شابا ان الثقافة تكيف كل شئ وتكيف الحياة السياسية فى المقدمة .

وكنت دوما أرى أن الكفاح الذي خاضه المجاهد الاكبر فى سبيل الاستقلال واسترجاع الشعب التونسي كرامته انطلق ابتداء من نظرة حضارية لا من وجهة نظر سياسية محض . واذا ناضلنا فلان الشعب التونسي كان مهددا بالمحق بوصفه كيانا عربيا مسلما له ثقافته الخاصة وشخصيته الذاتية وله مدد يثرى به التراث الثقافي العالمى لا يستهان به أبدا .

وقد خاض الشعب التونسى هذا الكفاح السياسي بقيادة الرئيس الحبيب بورفيبه ليطالب بهويته وشخصيته .

نحن التونسيين مسلمون عرب وأفارقة . والسياسة كانت لدينا أداة لتحقيق ذاتنا لا مجرد لعبة سياسية أو موضة .

لقد حققنا الاستقلال ودعمناه بجلاء كافة الجيوش الاجنبية وبتأميم الاراضى لقد أخذنا مصيرنا بأيدينا واستنبطنا نظاما تعليميا من شانه ان تتولد عنه اجيال توثق بين الاصالة والتفتح على العالم وعلى المحيط .

ولكن مع الاسف رأينا الانظمة السياسية التى انتصبت فى بلدان العالم الثالث بعد الاستقلال لم تول دوما الثقافة الاهمية التى تستحقها بسبب الضغوط السياسية بالخصوص وكذلك المشاكل اليومية .

وبالاضافة الى ذلك ظهرت تقنيات جديدة للهيمنة على بلدان العالم الثالث ، تقنيات اكثر نفاقا وتسترا من الاستعمار التقليدى الذى كان يفرض نفسه بحد الحراب وبوجود المعمر . وأشير هنا بالخصوص الى الايديلوجيات التى تبهر

الشباب وتستهويه : فالعالم الثالث منذ ربع قرن تقريبا يعاني الصراعات الايديلوجية والخلاف المذهبية .

ورأيي أنه علينا في مثل هذه الظروف أن نتروى مليا وان نرتب أفكارنا اذ من شأن أمثالكم من رجال الثقافة والسياسيين أن تكونوا روادا وان تصرحوا بأن هذا الاتجاه زقاق غير نافذ لا يؤدى بنا الا الى أحضان هذه القوة العظمى أو تلك عن طريق الايديلوجيات . ويؤدى بنا هذا الاتجاه الى حالات لا تترعرع فيها الا الخلافات الداخلية والتململ واليأس والحيرة وتتشتت خلاله الوحدة القومية . فلا ندرى بعدها ما هي مراجعنا وعلى أى شئ نستند وتنجر عن ذلك المغامرات وضروب التشرد الايديلوجى لدى الكثير من الشبان ومن غيرهم فى بلادنا وفى غيرها من بلدان العالم الثالث  وخاصة منها البلاد الاسلامية . فمنهم من يلتجئ الى المغالاة في الخمينية ظانين أن حمايتهم المثلى لا تكون الا فى الارتماء فى احضان مجتمع ينغمس فى المثالية مما يذكرنا فى صورة مزوقة من المجتمع الاسلامى قد مضت عليه أربعة عشر قرنا . ويظن غيرهم على العكس من ذلك حتى فى بلادنا أن نظام الحكم فى ألبانيا أحسن ما يرام . وبين الرفيق أنور حجة والامام الخميني مذاهب ايديلوجية عديدة . تلك هى بعض المشاكل التى يواجهها رجال الثقافة وشباننا .

وعلى رجال الثقافة والسنمائيين والفنانين أن يكونوا اذن رواد نضال غايته المطالبة بهويتنا وتحقيق ذاتيتنا . وعليهم أن يشاركوا مشاركة نشيطة فى تصور السياسة الثقافية التى تتبناها شعوب العالم الثالث انطلاقا من رؤية واضحة لحقائقهم وللصورة التى يتمنون ان تكون لهم من أنفسهم فيوفقون بين القيم الاصيلة والرغبة فى العصرية .

ولا شك ان الفن ملهاة وتسلية وتطهير للنفس وصقل للمواهب الا ان الفن والثقافة ملتزمان حتما . وعلى كل رجل ثقافة أن يفكر في أبعاده الاجتماعية. وعليه ألا ينسى انه ينتمي الى مجموعة وانه - شاء أو أبى - متضامن مع هذه المجموعة .

واذن فلا بد من النضال . ومنذ ما بين 20 و 25 سنة كافح رجال ونساء وشبان فى العالم الثالث فى سبيل حريتهم واستقلالهم . أما اليوم فعليكم أنتم أن تشرعوا فى كفاح آخر حتى تكون آفاق شعوبكم أوضح وحتى تساعدوا الشبان على التدبر وعلى أن يحتلوا مكانتهم اللائقة بهم وعلى رد الفعل السليم وعلى أن يكون لهم احساس متميز .

ان ضروب الامبراليات - واستعمالى للجمع هنا ليس من باب الصدفة - قد قهرتنا بالحراب وبالقوة الاقتصادية وهي اليوم تواجهنا على الجبهة الثقافية اذ أنها بفضل الثقافة تنفذ فى كياننا وتغتصب أرواحنا . وهناك اليوم كثير من المتناقضات فى بلداننا :

فالماء والنار يتجاوران في برامجنا الاذاعية والتلفزية وفى  فنانينا وفى أدبنا وهذا أمر خطير .

ان الشعوب الواقعة فى منطقة العالم الثالث معرضة لاخطار الامبرياليات الثقافية التى قد تكون عواقبها أخطر من الاستعمار التقليدى المتجسم فى الاحتلال العسكرى والتبعية الاقتصادية اذ أن هذه الانواع من الامبريالية خفية تتسرب الى القلوب والافكار .

وشعوب العالم الثالث مدعوة للاحتماء لتحفظ استقلالها وأصالتها وعليها ان تدرك الابعاد الحقيقية للثقافة ومداها وان تحلها المكانة اللائقة بها فى نضالها ضد تحديات التخلف .

وهكذا يتحقق أمل شعوب العالم الثالث في أن تتولد عنها أجيال قادرة على أن تأخذ مصيرها بأيديها وأن ترفع رؤوسها باعتزاز ودون مركبات ولا تكتفى بأن تكون مجرد أجيال مستهلكة بل تساهم فى اثراء الحضارة العالمية .

لكل هذه الاسباب اعتبر أن دوركم حيوى يتمثل فى اعانة السياسيين لان السياسة فى معناها النبيل ليست طريقة تتفاوت مهارة فى الوصول الى أريكة الحكم والتشبث بها بل هى فى استغلال الحكم لخدمة افضل وأجدى للشعوب والبشر وهى تترك جانبا ادعياء السياسية لألاعيبهم العادية التى يرومون من ورائها الاستحواذ على الكرسي واستغلال كل الحيل للمحافظة عليه . أما نحن فعلينا أن نناضل .

وعندما اقترح على السيد وزير الشؤون الثقافية صديقى ورفيقى فى الميدان الثقافي منذ 28 سنة الاستاذ البشير بن سلامة أن استقبلكم لم أتردد لحظة واحدة لانى اعتبرت أن رؤيتكم تثلج فؤادى فأصافحكم وأصغى اليكم وأعبر لكم

عن مدى تضامننا اذ ان ما يربطنا رغم الابعاد والفوارق انما هو أخوة الكفاح المشترك .

وعندما كنت أستاذا شابا وكانت سنى اذذاك 25 سنة ارتميت فى خضم المغامرة الثقافية وأسست مجلة الفكر وها هي تصدر بانتظام منذ 28 سنة . وكانت أول افتتاحية حررتها فى اكتوبر 1955 تبرز أن تونس فى مفترق الطرق فى الميدان الثقافي والايديلوجى .

وكنت أقول : إن هذه المجلة لو كتب لها - بمساهمة بعض المفكرين - أن تبرز طريقة تمكننا من الانفلات من الامبرياليات الثقافية وتصفية بقايا الثقافة الاستعمارية المنقوصة لكانت بذلك جديرة بالانشاء والوجود .

وكنت أوقن أن الاستقلال ليس مجرد علم وسفارات - هي ضرورية بوصفها ابرزا خارجيا للسيادة - بل على أى بلد مستقل أن يكون أولا مستقلا ثقافيا وعليه أن يتساءل : كيف احتل مكاني بين زمرة غيرى ؟ وما هى العلاقات الجدلية التى ينبغى أن تكون لى مع اخوانى ؟ ممن يناضلون معي فى نفس الظروف ، مع من هم مستغلون - ان لم يطلق عليهم عبارة فرانزفنون ( Franz Fanon ملاعين الارض ) - لاننا سواء كنا من افريقيا او من آسيا أو من امريكا اللاطينية فنحن كلنا مستغلون مسيطر علينا فى الميدان الثقافي . ولا بد من رد الفعل لكن لا بالحقد والرفض بل رد الفعل يكون بالحوار وعلينا ان نعترف بغيرنا اذا استغلونا لا أن نوجه لهم السباب ، وعلينا أن ننتج وننتج وننتج اذ اننا لم نفرض أنفسنا الا بنوع انتاجنا لا بما فى أقوالنا من حقد .

ولم أفكر أبدا أن شرطا من شروط وجودنا ينبغى أن يكون الانكماش على النفس كالقنفد بل فكرت دوما أن شرط اثبات الذات هو النظر الى الآخر والاعتراف به ومد اليد قصد مصافحته .

وعلى العالم الثالث لتأكيد نفسه أن يتحاور مع كافة الثقافات حتى تلك التى تناوثه .

ان الرفض حل سهل والحقد هروب الى الامام واستقالة . ومنذ سقراط - ان لم نقل منذ آدم - لن يشيد الحقد بناء . فالوطنية الحق وحب الغير والتشبث بالمبادئ الانسانية هي التى شيدت ما يدوم فى هذا العالم . وأنا لا أحمل حقدا

الا على الحقد . وعندما انتبه الى أن شخصا ما يستغلنى أعتبر بوصفي من دارسي سقراط أنه ان أراد استغلالي فذلك لانه مخطئ وبإمكانى أن أثبت له أن مصلحته وكرامته ليستا فى استغلاله لى لان من يستغلنى يستغل نفسه وان من يعتدى على كرامتى انما يعتدى على كرامته .

بهذه الروح خضنا غمار كفاحنا فى سبيل الاستقلال فلم نضمر حقدا ضد فرنسا واحترمنا ومازلنا نحترم الشعب الفرنسي اذ أن ازدهارنا وانتصارنا لا ينبغي ان يتحققا على حساب الغير بمحقه وبانكاره ونكرانه بل ينبغى أن يتحقق مع الغير .

هذا ما حاولت أن أحلل فى الخطاب الذى تقدمت به فى شهر جويلية الاخير بمكسيكو بدعوة من صديقى السيد مبو المدير العام للمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة ( الينسكو) .

تلك هى بعض الافكار التى يوحى بها لى هذا الاجتماع .

اني اشعر بنفسي جد قريب منكم وفي وفاق كامل معكم . وقد تمكن وجودكم بجانبي هنا من أن يخفف عني - مدة ما - أعباء المسؤوليات السياسية . فنحن حاليا منغمسون فى مناقشة الميزانية وسأحاول أن ازيد فى ميزانية الثقافة وعلى كل حال فلن تكون مهمة سهلة فى هذا الوقت الذى يتسم بالازمة الاقتصادية العالمية ،

وانى أشكركم اذ ذكر تموني بأنى واحد منكم ان قبلتموني في حضيرتكم . وأرجو أن تتمكنوا من مواصلة كفاحكم النبيل حتى يزول الاستغلال وتقييد الحرية وحتى تنتصر الصور الاصيلة والرسالة الصادقة والجمال الحق .

اشترك في نشرتنا البريدية