الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

الجلاء

Share

مسرحية ذات فصل واحد

مهداة الى صاحب الفخامة الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية

             على الاشخاص}                محسن

محسن : وماذا فعلت ؟

على : عندما دارت على الدوائر حطت رحلى على تلك الربوة . ما كنت لاخشى العوادى . فالمغارة فيها أحلك من قلوب شعبى آنذاك . وأمامي البحر يموج ويتسع الموج فيه . كنت أستطيع فى أية لحظة أن أستتر فى المغارة . أو أذوب فى المياه كنت أسمع طلق النار . مدافع وقنابل فيتملك اذني ذعر شديد وأصرخ فى أزيز الرصاص أن لا تقتل أهلى ، أن لا تصب . ولكن رصاصهم لم يكن أعمى حتى فى الليل ، كنت أراه يومض ويلمع ، محدقا فى هدفه بعيون نهمة . كل جشع الدنيا كان مجسدا في تلك الالسنة الممتدة على مراعينا ، نارا بدلا من كلا . . . دمارا على دمار . تركت رفاقى ، يسوقونهم كالنعاج الى المسلخ وهربت يائسا . . لم أحسب أن حياتي ستطول أكثر من دقيقة . - لم أصب . أصيبت الارض حوالى والاشجار فوقى ، وسمعت أكثر من صوت للموت يزأر فى أذني . ولكنى كنت اركض . ترى لماذا مات الآخرون ؟ وهل هناك قاعدة للموت فى تلك المعارك ؟

محسن : كانت أمنا ، كلما اوقدت نار الحساء ودعتنا لنأخذ شيئا من الدفء حواليه ، لا تنسى أن تناديك . كأنك ما غادرتنا أبدا . وفي كل مرة تبتل عيناها فترفعهما الى السماء هنيهة ثم تبتسم كما لو أن السماء أجابتها .

على : ولكن السماء لا تستجيب دائما . كم مرة أطلقت علينا بنادق العدو رسل الموت وكم مرة تضمخت يداى بدم الرفاق . الوصايا التى تلقفتها على شفاه محتضرة يا أخي دروس في ما بقلب من كبرياء وعاطفة كبيرة وانا كم مرة اطلقت النار على جنود العدو . اذكر واحدا منهم صرخ عندما اصبته مناديا أمه بصوت الرضيع . ما ذنب ذلك الصبى هو مثلنا بشر ساقته الى حتفه اطماع الغزاة

محسن : ولكنك لو لم تقتله لقتلك

على : مؤكد . قد لا يكون للقتل من مبرر الا هذا . ولكن الا تشعر معى بحماقة القتل والحرب معا . لماذا ؟ لماذا ؟

محسن : من أجل الكرامة يا أخي . كانت كرامتنا ذبيحة ، كنا على أرضنا عبيدا للاجانب - أنا لو كنت محاربا مثلك لما بكيت على جنود المستعمرين وما اشفقت حتى على موت الرفاق . كنت بطشت حتى يتحقق لنا النصر المبين أو نموت جميعا .

على : أنا كنت مثلك حتى حملت السلاح ، حتى نطق السلاح فى يدى . ألا قاتل الله صوته .

محسن : لك أن تعتز بما قمت به من بطولات في سبيل هذا اليوم الجلل ، أراك حزينا كالثكلى . ترى كيف استحال ذلك الرجل الى مثل هذه الانثى .

على : والله ، أكاد أصفعك ، ولكنها الحماسة التى تهدر في شعبنا اليوم . أنا لست حزينا فى الواقع . ولكن فرحتى ملطخة بالدم الذى أريق على وأرقته . ان طعم الدماء لمرير يا محسن

محسن : ولكنه الثمن الذي لابد منه لتحيا الامانى . أنا سعيد يا أخي بأن أرفع رأسى هكذا الان وقد بدأت الحياة تعطيني معانيها واحدا تلو واحد . سعيد بأن لا يختنق صوتى من الخوف وأن لا تؤذينى كلماتى المكبوتة كالغصص . سعيد أن امشى فى هذه الطرقات وان أحس اننى أنتمى الى هذا الشعب البطل

على : أنا فى عزلتى هناك على الربوة ، أصبحت شبه فيلسوف . كنت أقول فى نفسى لابد أن يستجيب القدر فارادة الحياة فينا عرم كالحياة نفسها . كنت فى وطيس المعركة ، آلة صماء ، أو كالمجنون . لا أحسب حسابا لحياتي . المعمعة فى لظاها تجعل الانسان مجردا من انسانيته ولكن عزلتى على الربوة جعلتني أفكر . اذا ما من الله علينا بالنصر فالى ماذا نحن صائرون . اخاف عليك وأنت في مقتبل العمر آفة

النسيان . أن تنسى جذور الماضيين من شعبك ، تاريخنا الذى أشبعته الدماء والدموع . أحب أن تذكر أن هذه الشمس ما كانت لتسطع بمثل هذه القوة لولا الظلال الكثيرة التى بددتها . أن تعرف أن لاغانينا اليوم ثمنا يجعلها اودى واعمق طربا حتى أبوك وأبى ، راحت حياته من أجل هذا اليوم

محسن : ولكن والدنا قضى مريضا

على : هو شهيد رغم ذلك . شهيد الارض التى أحبها ، واحب غرسها مداعبة كفه . قواه نفخها فى الارض ولكن الحبة النامية كان يغتذى منها الغزاة وكل مرة كان أبوك وأبى يعود الى الارض . وكل مرة تعطيه حبة يغتصبونها . ان اجيال الفلاحين فى بلادنا لم يموتوا الا متلاحممين مع الارض فى سبيل الارض كلهم شهداء . وأمك أمي ، عيناها الضريرتان ألم تستشهد من كثير البكاء كلما راحت شظية بواحد منا وبابناء جيران وابناء أعمام كانت تسقي ثراه بدموع طيبة كانها الرضى ومن أين تأتي لنا قوة البطش وشجاعة الابطال لولا رضي الامهات وأساهن المسكوب دمعا صامتا . . كان النشيج الذي كانت تخدر به الليالى ، حداء ينام معه رعبنا وتزول مخاوفنا فنقدم على الموت كاننا قادمون على شراب وكما أبى وأبوك وكما أمي وأمك ، لهذا الشعب أب كبير وقائد حمل له المشعل فى أحلك الساعات وسدد خطاه ووجه قواه وانحني على جروحه بيد وقلب كنا نسمع صوته هنا وهناك ونسير على هديه ، أكان على أرض الوطن لم نفذت الينا اوامره من قضبان الحديد فى أعماق السجون . . من منافى الارض عبر البحار سمعناه مجاهدا أكبر فى القرى والساحات والمدائن و . . من على منابرنا المستقلة . . سمعناه . . حتى كان لنا هذا اليوم

محسن : اليوم تهلل الدنيا لنا . . . نامت عيون الشهداء قريرة لاننا نرفع لواء الرسالة . . . نقرأها صفحات على الزمن فيستزيد ويزداد خير بنا وفخارا ٠٠

على : كيف تفهم هذه الرسالة يا محسن ؟

محسن : نحن الآن شعب حر بكل ما فى الكلمة من معنى

على : ما هي المعاني التى فى تلك الكلمة .

محسن : أن نمشى أن نأكل ، أن نتكلم كما نريد

على : وماذا أيضا ؟

محسن : واشياء أخرى ، مالك تستنطقني كما لو كنت فى امتحان ؟

على : حتى لا تطلق الكلام جزافا . هذا ما أخاف منه عليك وعبى شبابنا كان صوت النار قد استحال كلمات مدوية . على ألسنتهم . كل ما. يقولونه أصبح مبالغا فيه ، مفرطا فى الضخامة . ان الحماسة سوط يلهب العزائم ولكن حذار من مقعدات الغرور الى العمل يا محسن ، الى البناء .

محسن : نحن نفتخر اليوم وغدا نعمل . تعال يا أخي الى الساحة حيث أقيمت معالم الزينة والبهجة تعال ندل بدلونا بين الدلاء فتعبيرنا اليوم يجب أن لا يحتجب عنه واحد من هذا الوطن

على : سألتحق بك يا محسن . دعنى قليلا فانى ما زلت فى حديث مع رجل الربوة ، سأحاول اقناعه حتى اصحبه معى

محسن : ( ضاحكا ) حسنا ولكن لا تدعه يتغلب عليك .

(على وحده )

اليوم تم الجلاء . . لم يبق على أرضنا واحد منهم . كل اولئك الذين بطشوا وتعسفوا . . وتمختروا اسييادا علينا . . . كلهم ذهبوا ولم يبق منهم أحد هى فرحة الحياة يا فيلسوفى العزيز . . . صفق معى . . واذا انحنينا ، فلنجن قوت الارض ورياحينها ، لا للخضوع . . . . واذا انبطحنا فلنعانق ترابنا الحبيب ، لا من الخوف وتقول لى بعد ذلك ان طعم المرارة ما زال ملء فمك ؟ امضغ المر حتى يستحيل حلاوة لقد مضغناه . . . . أقول لك امضغ . . اليوم يلتقي موتانا باحيائنا . . اليوم يلتقون جميعا على دروب المجد . . . يتراكضون الى عناقيد هى أشهى وأبرق من الاكواب و فيها ٠٠ ماذا ؟ الى أين ؟ الى هنا وهناك . . . . الى هنالك . . الى كل مكان . أين ضروب البطولات ؟ . . . أين مواكب الغار ؟ . . . اين اعراس الكبرياء ؟ ٠٠ . أين الجهاد الصامت العامل . . . الكادح العاطي . .

أين القلوب التى علا نبضها حتى خفت صوت المدفع ؟ أين كل ذاك العذاب ؟ أين الساقية تستحى منها الورود . . من لونها الاحمر ؟ متنا كثيرا لنحيا واخصبت جفاف الارض دماؤنا المبذولة نعم . . . نعم أذكر تلك المغارة أراها أمامى متداخلة فى بعضها بعض من ظلمة الى ظلمة أظلم . كيف يسير الاغوار شعاع ؛ ان ذاك الشعاع المنير كان معجزة . . وتحققت . يا فلول الراحلين . . يا فلول الظلام . . . الى غير رجعة . غدا تحمل تلك المعاول ونغرزها فى السهول والسفوح والهضبات . . نقول لها اغتسلى فارضنا طهور . . نقول لها افرحي فارضنا معطاء . . . نقول لها اصبرى فارضنا لنا . . .

(متوجها الى فخامة الرئيس ) قلت لنا وصدقت ان هذا اليوم كائن على جبين الزمان شامة . . قلت لنا وصدقت ان الدياجير مدبرة وان الحق منبلج الصباح . . قلت لنا وصدقت ان العيون التى انطفأت ستنفتح من جديد على هذا اليوم الاغر أرأيت الى الرجال ، الى الجنود ، الى النساء أرأيت الى تلك الحناجر ، أهاب بها صوتك العظيم مدويا فانطلقت بالغناء وصرخت فى العروق الدماء . . ما مات يوم خلدته بالجلاء

اشترك في نشرتنا البريدية