لم يكن ليخطر بباله انه سيشعر بالوحدة فى مدينة كبيرة كمدينة فيينا . فقد كان فى اعتقاده ان الحياة بكل وهجها وروعتها تتمركز فى المدن الكبيرة المزدحمة ، فهى فيها سخية كريمة معطاء تقدم كل يوم ، بل كل لحظة ، شيئا جديدا له طابعه الخاص وصفاته المميزة ، وما على المرء الا ان يختار من ذلك كله ما يلائم مزاجه وطبيعته وهواه . كان يعلم ان للحياة ايضا زحامها الخاص ، فقد خبر ذلك بنفسه وعاشه غير مرة ، ولكن نقطة الصراع فيها لم تكن تتعدى قرقعة ذاته . ومن ثم ظن ان الحياة فى مدينة اروبية لا تعدو ان تكون تحررا وانطلاقا من الصراع الذاتى والرتابة النفسية التى لزمت حياته منذ مدة طويلة . ولكنه كان واهما فى اعتقاده ، ولم يكن يصرفه عن هذا الاعتقاد حتى علمه سلفا بان ذهابه او سفره الى اروبا كان مجرد مغامرة قد يحالفه النجاح فيها وقد يفشل .
ولعل وصول القطار به الى المحطة الجنوبية كان نفسه دليلا على خطا اعتقاده. فاليوم الذى وصل فيه لم يكن مسرا مبشرا بخير . فان برودة الصباح التى استقبلته عند نزوله من القطار ، يحمل بكلتا يديه حقيبتين اثقل منه ، قد اوضحت له مدى الفرق بين الشرق الذى جاء منه وبين الغرب الذى وصل اليه فقد كان الجو باردا الى درجة فظيعة مع ان الفصل صيف . ولذلك كانت ثيابه الخفيفة ترتج تحت هبوب الهواء البارد الذى كان يحس لسعه فى عظامه . وظهر له ان الشمس التى خلفها وراءه فى الشرق تلهب البشر باشعتها المحرقة بخيلة فى هذه البلاد ضنينة . فهو لا يلاحظ اثرها فى الوجوه الغريبة التى تمر به ولا تراه . ولسوء حظه انه لا يملك معطفا ، لانه لم يكن فى حاجة اليه طوال المدة التى قضاها فى الشرق العربى .
وتمايل جسده بين الحقيبتين وهو يسرع الى داخل المحطة ليحتمى بها من لسعات البرد . ووقف ثمة نصف ساعة يتطلع فى الوجوه الغريبة حوله . ثم تذكر ان وقوفه لا فائدة ترجى منه وان عليه ان يبحث عن غرفة ليتمكن من تغيير ملابسه ، فانه ليحس ثقل قميصه من كثرة الاوساخ التى تراكمت عليه خلال سفره الطويل . وهكذا ترك اغراضه فى المحطة وركب قاطرة اقلته الى مركز المدينة . وما ان امتطاها حتى احس بالوحدة والغربة . فقد اعتبر اللغة التى كان الناس يتحدثون بها امامه ستارا كثيفا يحجبه عن العالم الذى كان
يعيش فيه . وهناك بدأت الحيرة تستبد به وترهق وجدانه . لقد اعتاد ان يستمع الى اخبار الاحداث فى بلاده الثائرة . فيفرح تارة ويتالم تارة اخرى . لقد كانت أنباء الثورة وانتصاراتها الجليلة انيسه الوحيد فى غربته ووحدته ، وها هو الان يفقد هذا الانيس الحبيب !
كان يعلم ان له صديقا سافر الى النمسا قبله بسنة . ولذلك اخذ يسأل عنه الطلاب العرب بمجرد ان وصل الى مركز المدينة ، ولكنه لم يستطع الاهتداء الى مكان سكناه . وحين احس بالجوع والتعب دخل الى مقهي بطريق الصدفة ليستريح قليلا ويتناول شيئا ، ثم يستمر فى البحث عن غرفة يأوى اليها فى المساء او مكان ينام فيه حتى صبيحة الغد . ولكن مفاجأة سارة كانت تنتظره فى المقهى . فلم يكد يجتاز عتبة الباب حتى لمحه ، هو صديقه ، جالسا فى ركن من اركان المقهى يغازل فتاة شقراء . ولم يصدق عينيه فى اول الامر ، ولكن وجهه الاسمر وشعره الطويل المنفوش وشاربه الخفيف الاسود كل ذلك لم يدع له مجالا للشك . فاقترب منه بخطوات مترددة ، فقد خشى ان يزعجه وهو يتمتع بحديث صاحبته ، وقف على بعد اقدام منه ، ولكنه لم ينتبه اليه الى ان قالت له الفتاة شيئا لم يفهمه هو . وعندئذ التفت فرآه . واسرع اليه ، فسلم عليه وحياه فى حرارة . ثم اجلسه الى جانبه بعد ان عرفه على صاحبته الجميلة .
وبعدئذ انطلق معها فى حديث طويل بلغتها هى . فتبين له من نظراتها اليه بين حين وآخر انه يحدثها عنه . واخيرا التفت اليه وقال مبتسما وكانه يعتذر له عن انصرافه عنه وانشغاله بصاحبته الحلوة . - ايه اخى ! كيف الحال ؟ وكيف حال الثورة ؟
فاجابه بصوت خجول كانه هو الآخر يعتذر له عن عدم استطاعته الاجابة على سؤاله بتفصل ودقة .
- بصراحة . انى لا اعلم شيئا ذا بال عن تطوراتها الاخيرة . فقد انقطعت عن تسقط اخبارها خلال مدة سفرى التى استغرقت اكثر من اسبوعين . ولكنى اظنها بخير . فهى ولا شك سائرة من نصر الى نصر فى طريقها التى رسمها لها بناتها الاباة . و ...
كان يريد ان يستمر فى حديثه ، اذ لم يكن ثمة شئ احب الى قلبه وارق لسمعه من الحديث عن الثورة وابطالها الاحرار ، ولكنه توقف عنه عندما رأى صديقه يقبل فتاته وهو ينظر اليه من جانب كانه يحثه على الاستمرار فيه .
فابعد نظره عنهما وهو يقول له مازحا . - لعنة الله عليك ! اما تستحى !
فنظر اليه وقال وهو يضم صديقته الى صدره ضاحكا .
- ممن يا ترى ؟ اننى فى اروبا ولست فى الشرق . على رسلك يا صديقى ولا تستعجل . فانك ستدرك معنى هذا فيما بعد وستتعلم هنا اشياء كثيرة وتأتى افعالا قد لا تروق لك الآن ، لانك جديد فى هذه المدينة . انتظر . . . انتظر يا صديقى . اظن انك لم تسمع بعد بليالى فيينا وجمالها وفتنتها . لقد كنت انا ايضا خجولا عندما جئت من الشرق . ولكنى سرعان ما اكتشفت ان الخجل ضرب من الجبن . انه احد اسباب الوحدة التى . .
وقطع حديثه والتفت الى فتاته والقى اليها بكلمات اثارت ضحكها وسمع هو لها وشوشة غريبة . وشعر بالخجل حين رآها تنظر اليه ضاحكة . ثم استمر صديقه فى حديثه قائلا .
- اجل يا صديقى . . . الوحدة التى تدمر وجود الغريب هنا وحياته . وانت لا تستطيع ان تطرد شبحها عنك الا باصطياد فتاة جميلة كصديقتى هذه لتنسيك وحدتك وتمنحك الدفء والزاد لمدة اسبوع على الأقل .
وعاد يضم صديقته ويزقها قبلا خاطفة فوق وجنتيها وجبينها وارنبة انفها وشفتيها مما اضطر صاحبنا الى النظر بعيدا عنهما . ولما انتهى من قبلاته قال له .
- هذه هى الحياة هنا يا صديقى . الا ترى ؟ انى اقبل صديقتى فى المقهى ولا احد ينظر الى او يهتم بى . انت حر هنا تستطيع ان تفعل بصيدك ما تريد ، فهو ملكك ولو لمدة وجيزة . ان هذا شئ عادى لا غرابة فيه . وباختصار . انى لم اعد اخجل من اية فتاة مهما كان طرازها ونوعها . وبوسعى ان اغازل اية فتاة شئت سواء اجابتنى او لم تجب . وانا متيقن بانك ستفعل ذلك ايضا فى يوم ما . لا سيما عندما يشتد خناق الوحدة والقلق عليك . ولا تظن انك ستجد هنا صديقا يلازمك على الدوام ، فانه ليس من الضرورى ان يكون الصيد جماعيا ولهذا فالاحسن ان تعتمد على نفسك وتتسلح بالجرأة والاقدام .
كان يصغى الى حديثه مستغربا وهو لا يكاد يصدق شيئا مما يسمع ويرى . ولم يحاول ان يعترض عليه ، لانه لاحظ ان صديقه يتحدث عن تجربة و خبرة واقتناع ، ولذا تركه يتكلم ما طاب له الكلام . وانطلق فى اثناء ذلك يسارقها ، هى الفتاة ، النظر ويتأمل ملامحها وقسمات وجهها تأملا متقطعا . حقا لقد كانت
جميله جذابة . كان شعرها الذهبى يتمسح بجيدها الرخامى ، وكان حاجباها الرقيقان الاسودان مرتفعين قليلا مما جعل اهدابها تبرز كالسهام المتوترة . اما عيناها فكانتا ذات سواد مصطنع ولكنه مغر أخاذ . ولم تكن ، حسب تقديره ، تتجاوز الخامسة او السادسة عشرة . وكان الصليب الشهيد يتدلى فوق البراعم المتوثبة .
ولما عاد صديقه الى مغازلة فتاته قال له ونظراته تائهة تحت المائدة .
- قد تكون على حق فيما قلت . ولكنى لا اهتم بكل هذا . فقد جئت هنا لمواصلة دراستى وما عدا ذلك فهو هباء بالنسبة لى .
فاسرع يقول له :
- انتظر . وسترى ! ان ذلك لا يعوقك عن دراستك اذا لم تقع فى حب فتاة ما . فكن حذرا .
- اذا فالاحسن الابتعاد عن ذلك والاستعاضة عنه بالتحصيل والدرس المجدى . ثم قل لى . هل وقعت انت فى حب فتاة ؟
- فى البداية نعم . أما الآن فانى كدت انسى ما هو الحب . ولعل هذه الحقيقة ستنكشف لك ذات يوم . فمظاهر الحب هنا كلها زائفة .
وقال له يمازحه . - عليك اللعنة ! يبدو لى انك تخليت عن كل ما هو شرقى .
- اجل ما دمت اقيم هنا على الاقل . والآن استميحك عذرا . ساوصل الفتاة الى بيتها ثم ارجع اليك . انتظرنى هنا .
وبعدها قام وقامت معه فتاته . وودعت صاحبنا . وحين تناول يدها يصافحها تلفظت بكلمة سمع لها صفير لعلها كانت تعنى اللقاء أو شيئا آخر من هذا القبيل . وبقى وحده فى المقهى . فطلب شيئا يأكله ، فقد احس بامعائه تصرخ وتتلوى فى بطنه . وما ان رجع صديقه بعد ثلاثة ارباع الساعة ، حتى كان هو قد اكل وشبع ، ولم ينس فى اثناء ذلك ان يتخذ قرارا بشان كلامه : ان له افكارا واهدافا يسعى الى تحقيقها بكل ما فى وسعه من جهد وطاقة ، وفى احداث بلاده ما يغنيه عن زيف هذه الحياة التى يحياها صديقه . وعلى هذا فالاحسن له ان يتجنب الحديث معه فى هذا الموضوع . انه من بلد عربى آخر قد لا يكون عانى الظلم بالقدر الذى عاناه ويعانيه بلده هو واذا فهو
عاجز عن ادراك عظمة المشاعر التى تمور فى اعماقه . ليته يجد هنا احدا من ابناء بلده !
وذهب معه يبحث عن غرفة . ومن حسن حظه انه عثر على غرفة مناسبة فى نفس اليوم . ورافقه صديقه الى المحطة لجلب اغراضه . وحين كان راجعا منها التقى بشابين لم يشك عند رؤيتهما فى انهما من ابناء بلده . كان احدهما طويل القامة والآخر قصيرها . منذ قيام الثورة فى بلاده اصبح قلبه ينبض بحب كل مواطن يشاركه فى احساسه بعطاء الثورة الخالدة . فدفعه حبه هنا الى التعرف عليهما ، ولم يكن مخطئا فى ظنه فقد كانا حقا من بلده . وغمرته موجة من الفرح الفياض . لقد وجدا اخيرا من يستطيع فهم احاسيسه بعمق ، ولكنه اصيب بصدمة كادت تزلزل كيانه . فما ان اخبرهما انه من قسنطينة وسالهما هو بدوره عن المكان الذى ينتسبان اليه حتى ترددا فى الجواب وطفق احدهما يسأل الآخر عن بلدته . ومن يدرى لعلهما شكا فى امره وظناه جاسوسا فلم يريدا اخباره بالحقيقة . هو والجاسوسية ! يا لغرابة ما يعتقدان ! واحس بابتسامة باكية ترتاح على شفتيه وابتعد عنهما فى خبية وفشل والالم يخز اعماقه فى وحشية .
وبعد ان وصل الى غرفته تركه صديقه معتذرا بان له موعدا آخر مع فتاة اخرى . ولم يره منذ ذلك اليوم . وهكذا اقبل على حياته الجديدة يعيش مع احداث بلاده عبر الاخبار التى يحملها اليه المذياع والجرائد التى تصله من الجبهة ولم يكن يشغل باله سوى تعلم اللغة . فقد آلمه الا يفهم حديث الناس معه . ولم يكدن يجد الوقت لاى شئ آخر غير هذا وبعد مضى ثلاثة اشهر على وجوده فيينا اصبح فى وسعه الحديث باللغة الجديدة ، ولكن فى عناء غير قليل . وذات يوم تعرف على شاب لبنانى كان يسكن على بعد امتار من مسكنه هو ، ولازمه مدة غير قصيرة فى البداية . فقد كانت له هو الآخر صديقة ، وكان كثيرا ما يذهب معهما الى المراقص لبتعرف على الحياة فيها ومظاهرها المختلفة . ولكنه فى النهاية قلل من اتصاله به ، فقد رآى فى ذلك اضاعة لوقته . ولم تمض الا ايام قليلة حتى زاره صديقه اللبنانى واخبره بان صديقته تركته فجأة وشكا له الآلام التى يعانيها من جراء ذلك . فهو لم يعد يستطيع مواصلة دروسه . وظل يعذبه بهذا كل يوم تقريبا الى ان افهمه فى النهاية بانه ليس لديه الوقت لسماع شكاته باستمرار ، فان لديه واجبات لا بد له من أدائها . وهكذا قلل من زيارته له واصبح لا يراه الا نادرا .
وفى مساء يوم احد خرج صاحبنا يتنزه بعد ان شغل راسه كثيرا وارهقه
حتى احس به يغلى ويكاد ينفجر . وبينما كان مارا بحديقة كبيرة وجد صديقه اللبناني جالسا فوق مصطبة يبكى بدموع غزيرة . فاقترب منه ليساله .
- نبيه ! ماذا جرى لك ؟ لماذا تبكى ؟ - لقد تواعدت مع فتاة تعرفت عليها امس ، ولكنها لم تأت . انى انتظرها منذ ساعتين ! تصور هذا ! ومع ذلك لم تأت . . . بنت الملعون !
ولم يسعه الا ان يضحك . وقال له : - يفدح حريمك ! امن اجلها تبكى ؟ انك لا تزال صبيا ! انسيت انك فى اروبا ؟
وقال وهو يكفكف دموعه . - وماذا افعل ؟ لقد احببتها بكل قواى . ومع انى قضيت معها امس اكثر من خمس ساعات فانى لم اشبع من النظر فى وجهها . . لقد كانت رائعة . . تحفة !
- دعك من هذا يا نبيه ! انك ستجد غيرها ولا شك . وحاول ان تنساها بسرعة كما احببتها بسرعة . ارحم دموعك . انها لا تستحقها !
ثم تركه ومضى فى سبيله . وخلال هذه المدة لم يجرؤ هو على مخاطبة اية فتاة الى ان حدث ما لم يكن فى حسبانه . كان اليوم جميلا خلافا للعادة . وكان يسير فى شارع عريض خال من المارة تقريبا . لقد رآها تمشى وحدها ، وما ان تطلع فيها حتى احس بشئ عارم يدفعه اليها واحس انه قد عشقها لاول نظرة و ان روحه قد علقت بها . فاقترب منها فى تردد وحيرة وسالها بدون مقدمة .
- الى اين تذهبين ؟ ففزعت منه . ثم زمت شفتيها وابتعدت عنه وهو خلفها . لقد كان سؤاله سخيفا ولكنه لم ينتبه الى سخافته الا فيما بعد . وفجأة سمع رجلا خلفه يقول .
- ماذا تريد من ابنتى ايها الوقح ؟ ودون ان ينتظر جوابه ناداها قائلا . - هلغا ! هل تعرفينه ؟ هذا الوقح ! وجاء جوابها . - لا . ابدا : اننى لم اره فى حياتى . . ابدا . وعاد يساله فى غضب وحدة . - واذا . ماذا تريد ؟ . ماذا تريد منها ؟ فاسرع يجيبه مرتبكا متلعثما .
- اردت ان اتكلم معها فقط . . . اردت ان اقول . . . -ولماذا ؟ ليس لديك ما تقوله لها ! امضى فى سبيلك . وقح . . . بليد .
وبعد لحظة سمعها هى تقول فى توسل : - دعك منه يا ابت ! انه مجنون . ارجوك !
وحين سمع كلمتها هذه احس بقلبه يسيل فوق جدار صدره . وابتعد بخطوات دامعة . هل كان هذا ضروريا ؟ هل كان هناك داع لهذه الهزيمة وهذا العيب ؟ وشعر بقلبه يرتجف فى صدره ويقطر فى امعائه ، فعلم انه الجواب على سؤاليه . لقد شعر بانجذاب نحوها لم يكن يدرى سببه ولم ابتلى به على حين غفلة !
وعاد الى غرفته منكسرا مهزوما وصورتها تملأ راسه . وكم حاول ان ينسلها منه ولكنها تمنعت عليه . لقد تجمدت فى راسه وابت ان تذوب مع ان تامله لها لم يدم سوى لحظات وجيزة . فها هى التجربة التى كان يخافها ويخشاها قد حلت به الآن ! و اصبحت شغله الشاغل واستسلم لها ، لصورتها ، فكرا وقلبا ، وحرمته من سكون البال وراحة الضمير . وتاهت نفسه فى غمرة الالم والعذاب الحادين ، فاخرج من جيبه اللفائف واشعل واحدة منها وطفق يملأ صدره بالدخان وفمه بمرارة التبغ .
ومر به اسبوع لم ينقطع خلاله عن التفكير فيها ولم يفعل شيئا سواه . كانت صورته تتجسم له بكل سبيل ، فتقلق راحته وتبلبل افكاره ، ولم تكن تدعه يفكر فى مستقبله ، فى واجباته . والتقى بها فى احد الايام . عرفها بمجرد ان رآها . كان جالسا فى البستان امام سكناه فى اللحظة التى رآها فيها مقبلة عليه . رآى مصرعه يدنو منه ، فنهض ليركض مبتعدا عنها ، ولكن قدميه لم تطاوعاه فى ذلك ، فوقف ينظر اليها . وابتسمت له من بعيد محيية .
- مرحبا .
ووجد نفسه ينظر اليها فى حقد وغضب . وكم تمنى لو ان فى وسعه ان يضربها ويتفل فى وجهها . وعادت تقول .
- لماذا تنظر الى هكذا ؟ ان نظراتك مخيفة . اظن انك لا تزال غاضبا على ! - ماذا تريدين منى بالضبط ؟ - اريد ان اعتذر عما حدث . اريد منك ان تغفر لى لا اكثر . لقد اسأت اليك . فقال لها وقد انعقد ما بين حاجبيه .
- بامكانك ان تتنازلى عن ذلك . فالمجنون لا يعذر احدا ولا يرجو اعتذارا من احد .
- غريب انت ! انى لم اقصد بانك مجنون حقا . ان الجنون عندنا تعبير مرادف للعشق . الم تلاحظ هذا بعد ؟ الم تسمع به ؟ - اجل ! يبدو ان الامر كذلك ! جنون وحب !
ورآها تصب عليه نظرات ثاقبة فيها اغراء وفتنة وفيها شوق وهيام وحنين ، فقال لها وقد احس بشئ ثقيل ينزاح عن صدره . - واذا فانت مجنونة مثلى !
فنظرت اليه مبتسمة ولم تجب ، فاحس لنظرتها تمزقا ف اعماقه . وبعد لحظة التقطت يده واخفتها فى دفء يديها ثم طبعت قبلة على خده . وظل هنيهة يتأمل محياها البديع التصوير وعينيها الزرقاوين التين كانتا تشعان بنور مدغدغ وشفتيها التين كانتا فى لون الكرز . ولم يجرؤ على تقبيلها مع انه لاحظ انها تنتظر منه ذلك ، ولكنه اقترب منها بشفتيه ، وذلك حين احس بضغط يدها على يده ، فاسرعت تلتهمها فى عنف . وشعر بروعة الحياة كلها تتجمع فى رحيق شقتيها وهو يقبلها . ومرت لحظات قصيرة سمعها بعدها تقول فى همس رقيق .
- احبك . . احببتك بمجرد ان وقع نظرى عليك . انت حياتى . . جئت ابحث عنك ... وساعدنى الحظ فعثرت عليك دون طول بحث . . . ولكن الآن . . . الآن يجب ان انصرف . . فقد يمر ابى من هنا صدفة ويرانى معك. . انه لا يحبذ صداقة الاجانب . . . اجل يجب ان تصرف . . . تشاو .. الى اللقاء !
واسرع يسألها كانه يحاف ان تهرب منه الى الابد ، ولا تسعده الصدف برؤيتها مرة اخرى . - ولكن متى نلتقى ؟ . متى اراك يا . . . - غدا ... غدا يا حبيبى . . . هنا فى نفس المكان وفى نفس الوقت .. تشاو ! الى اللقاء
ثم اختطفت منه قبله واسرعت مبتعدة عنه . وظل يشبعها بنظراته الى ان اختفت فى منعطف الشارع وهى تودعه بيده وتلوح له بها . ولاول مرة يحس بالحنين الى الوحدة ليتمثل سروره بها ويتمتع به تماما كما كان يحن اليها فى اوقات تعاسته ليهضم حزنه ويحاول الانتصار عليه فى وحدته . ولم يكد يتصور انه قد وجد حقا فتاة قلبه من غير ان يبحث عنها . فعاد الى غرفته ليستعيد صورتها فى ذهنه فى هدوء ويردد كلماتها التى عزفت فى سمعه نشيد ميلاد حبه وسعادته . ووقف بقامته القصيرة فى النافذة يشرف على المارة ويتأملهم من عل ليشغل نفسه بذلك . فالغد لا يزال بعيدا . وقد اغناه التفكير فيها عن اى شئ آخر. ولذلك فهو لا يدرى كيف يقضى وقته ويشغله لينطلق به لى الغد ويصبح الصباح وحبس نفسه فى غرفته . لانه لم يكن يريد ان يرى احدا . كان يريد ان يعيش لها وحدها ، لنظراتها ولكلماتها وعينيها ، لشفتيها وقبلاتها . وتصور
الحياة بدونها مفزعة للغاية ، قاحلة جافة . وتذكر فجأة انه نسى ان يسألها عن اسمها ، وعجب من ذلك اشد العجب . ثم التمعت حروف اسمها فى ذهنه . الم سمع اباها يناديها فى اليوم الذى خاطبها فيه باسم هلغا ؟ اذا فاسمها هلغا ! وتناول القلم وكتب اسمها اكثر من مائة مرة وهو فرح بهذه التسلية .
واخيرا وبعد انتظار طويل جاء الغد . فارتدى احسن ملابسه وذهب لملاقاتها قبل الموعد بنصف ساعة . وانتظر هناك وكانت قارورة العطر التى اشتراها لها تنتظر معه . انتظرها ساعة ونصفا ولكنها لم تأت . ولم يستطع ان يصدق انها لن تأتى . فليس من الممكن ان يكون كل ما قالته كذبا وتلاعبا ومزاحا . ابدا . لا شك انها احبتة كما احبها . ايمكن ان يكون حبه لها غباوة منه ؟ حقا انه لم يحب فى حياته فتاة بهذه السرعة ، فهل من المعقول ان يكون قد فقدها بالسرعة التى الحبها بها ؟ ابدا . لا بد ان تأتى !
وانتظر نصف ساعة اخرى . وفى النهاية . . . فى النهاية حيث لم تعد ثمة نهاية شعر بالم فى عينيه من كثرة النظر . وفقد كل امل فى مجيئها فى ذلك اليوم . وعاد فى اليوم الثانى والثالث والرابع الى نفس المكان ينتظرها فيه . فلعلها تمر به صدفة كما فعلت فى المرة السابقة . ولكن ذلك كله كان عبثا . فجلس هناك فوق مصطبة يبكى . تماما كما فعل صديقه اللبنانى ، مع فارق واحد وهو انه لم يحد فيما بعد من يسليه ويعزيه عنها . . من يقول له ابحث عن غيرها .
واحس بثقل راسه وعينيه وهو عائد الى غرفته فى الليل . واضطجع فى فراشه يحدق فى الظلام ويفكر فى المصير الذى ينتظره . وتبدى له القرف متجسما فى كل شئ . . . حتى فى ذاته نفسها . وخيل اليه ان افكاره قد استحالت الى اصوات يدوى بها راسه . ومد يده الى المذياع وفتحه ليهرب اليه من نفسه . وثمة سمع صوت المذيع الحبيب يقول : - هذا ، ايها الاخوان فى كل مكان ، وقد غنم جيشنا الظافر اسلحة كثيرة وعتادا حربيا . . .
فاقبل عليه يصغى . . ويصغى فى شغف واهتمام . وما ان انتهى المديع من حديثه حتى اخذ صاحبنا يضحك . . . يضحك على نفسه ويسخر من غباوته . اجل يضحك من سخافته التى اباحت له ان ينسى حبيبة كان يمنحها افكاره ليل نهار ويستعيض عنها بحبيبة اخرى زائفة . كيف جاز له ان ينسى الارض التى غفت وغفا ربيعها فوق صدره الاسمر ؟ وشعر باليقظة والحياة تتدفقان فى اعماقه من حديد . واغمض عينيه ونام راضيا ، فقد تمثلت له صورة الحبيبة المنسية وهى على اروع ما تكون نضارة وعنفوانا وعظمة
