حين كرمتني منزل تميم بعد أن أصدرت أربعة دواوين كانت كمن شاء أن يرمي أربعة عصافير بحجر واحد فما أصاب ولو عصفورا واحد .. ولكن أطار العصافير ، فما أقرب الطائر من السقوط لو كان الرامى ماهرا .!
يا لو يظل حبى خافيا ! لكنني لم أستطع أخبي ..
لأنني آمنت أني مخلص في حبى ..
وأنني حملت قلبي فوق ما يطيق قلبي
قلوبنا تقالبت في ثوب ما قد لفق الدخيل ..
فبت يا حبيبتي على الرحيل !
أرجعت لى جميع ما قدمته إليك
من الهدايا ، بعد ما قد زينت عنقك الجميل .. معصميك ..
مرقت عقد الوصل عنقك الجميل ..
لأنني ببدأت يا حبيبتي ، بدأت في الرحيل ..
وعندما استقر بي المقام يا حبيبتى فى الموطن البديل ..
ألقيت رحلى جانبا ، بجانب السرير ..
ولذت يا حبيبتى من تعب المسير ..
بلحظة غارقة في الصمت والسكون والكآبة ..
لعلها تخيط جرحا قد أصابني .. وضاعف الإصابه ..
أن اصابتى تجيء منك - يا حبيبتى - لأنني أحترف الكتابه !
ما أغرب الإصابه !
وظل بعدى الضجيج مفعما بالثلج والضغينه
حتى تلاه الصمت موحشاً - مقبرة تنتظر الدفينه
كأنني مدينة للحزن ، قد يصير حزني ممتعا كالليل في السكينه
ها الحزن يا حبيبتى ، لأنني أردت أن تصير قريتى مدينه ..
جوهرة ثمينه ..
وبعضهم يخاف أن تصير قريتي مدينه
وأن يصير زورق المسكين - ذات ليلة - سفينه ..
لذا يكد أن تظل قريتي مسكينه !
هم الانانيون - يا حبيبتى - يطربهم أن يسمعوا من غيرهم أنينه ..
وهمهم أن يفرحوا ، أن يفرحوا ، ولا يهمهم إن كانت الحياة
حولهم حزينه !
تدخل الوقود في شؤوني ، الدخيل ماله وشأني ؟
وربما قد أقدم السخيف يومها على التفكير في تنتيف ذقني !
فما الذي جناه يا ترى من سخفه ؟ وما الذي سيجني ؟ !
لكنني انسحبت حبيبتي - من ضائقات الحزن ..
ولذت بالرحيل راضيا بالطعن ..
وما رضيت الطعن في مواقفي ، وانما رضيته فى بدني .
وحينما توغلت راحلتى فى دربى ..
فطنت أننى نسيت فيك يا ( منزل تميم ) قلبي ..
نسيت فيك قصة عن فارس تنقصه البطوله ..
فلا يهمه سوى أن يشبع الجلاس - حوله - فضوله ..
نسيت فيك ما أنا قد قلته ، وما أريد أن أقوله ..
نسيت فيك ساعة تجمعني في ملعب الطفوله ..
بالرفقاء راكضين فوق شاطئ الصبا في " حومة المحج "
فنملأ الوجود بالضجيج ، والوجدان بالهرج ..
فيخرج " الحاج " أبي من داخل الدكان صائحا يحتج ..
- " انصرفوا .. للموت .. ما اكثركم .!"
لكنه يلمحني من بينهم فيستتب قائلا : - " هل أنت فيهم "
" يهديك ربنا .. وربنا يتهديهم "
سرعان ما تحول الأب الحنون من دعائه علينا .!
إلى دعائه إلينا .!
وهش فى وجوهنا الصغيره ..
وجوهنا لينة تغوص فيها الكلمات الحلوة المثيره
وتستقر في قلوبنا بسرعة كبيره ..
الكلمات لم تزل خالدة ، لكنها في الحب تبدو فانيه ..
تقول لي : - " يا باقة من الزهور الزاهيه "
" هيوا معي للسانيه "
" حيث القطوب الدانيه .... تأرجحت في منظر بديع "
" هيوا معي يا صبية التهور الوديع "!
فيفرح الجميع .. ويشبع الجميع ..
باللوز والخضر .. بالسفر الجميل في الأرجوحة الشجر
ونقطف الأزهار من نارنجة يكاد زهرها يضيع ..
تفتحت تيجانه ، وكاد أن يسقطها تلملم الربيع !
والنحل من رحيقها يكاد أن يسلبها ، لو كان يستطيع .!
والبرتقال قد تنهدت غصونه بما يخالف التنهيده ..
ونخلة بجيدها إلى الفضاء تشرئب فذة فريده
ونحن في ظلالها ، كم نسج الخيال في رؤوسنا العوالم البعيده !؟
البعض منها لم يزل أحلامنا السعيده ..
والبعض أمسى ماضيا نود أن نعيده !
والبعض ظل واقعا نقرؤه كصفحة قد بقيت وحيده ..
من بعد ما تعاون النساء والأطفال في بيوتنا فمزقوا الجريده ..
والبعض لا أهمه .. وبعضها أضمه ..
كما يضم عاشق حبيبة جديده !
والبعض قد ألبسه .. والبعض قد يلبسني كسوة تليده !
والبعض قد يطفئنى .. والبعض قد يشعلني كأنني وقيده .!
والبعض لم يزل قصيدة رائعة كأنها الفاتحة المجيده !
حفظتها .. رددتها .. أنشدتها ..
وإنما الهموم - يا حبيبتي - أنستني القصيده !
حبيبتي يؤلمنها بأن أعود اليوم خالى الوفاض ..
لا ثروة كونت .. لا قصور .. لا حقول .. لا رياض ..
وإنما لى حاضر أبنية من مستقبل يحيد بي عن تافه الأغراض
وكل ما أملكه عبارة عن شعلة من جذوة الإيماض ..
ولم أزل أعتز بالإيماضة التى أصنعها مما أنا فيه من اللهب
لكى نصير - يا حبيبتى - خزينة من الكتب
لأن في إيماضتي أدب ..
يا أدبا يظل دائما أجل - يا حبيبتى - من قلة الأدب !
وعندما رحلت عنك يا حبيبتى .. ظننت أنني أخذت كل ما عز عليا
لكن تبينت حقيقي إليا .. في البعد بعد القرب
بأنني نسيت فيك يا " منزل تميم " قلبي
نسيته ؟ أم أنت قد سرقته من جنبي ؟ !
الله ما أجملها ! حبيبتى سراقة القلوب !
ومن يعش بدون قلب خارج الأوطان قد يذوب ..
لكنني ما ذبت يا حبيبتى ، بل إنني انتفعت من تطور الحروب ..
هى الحروب أسست ما كان قد دمره الشعور بالغروب ..
البعض قال : غارب .! والبعض قال : هارب .!
والبعض قال : قد يؤوب !
لئن هربت لم يكن إلا إليك - يا تميم - ذلك الهروب ؟
لا تهرب الأجساد - يا حبيبتى - وإنما الهروب بالقلوب ..
لأنني رأيتها حبيبتي السماء في عينيها ..
فلا ترى من كان خاتما يدور في يديها ..
وإنما ترى الذي يبطل من نضاله عليها
ومن تكن عيناه في السماء تبحثن عن شعاع
فإنه يحب .. لا يحب غير الإرتفاع
لذاك عند ما رحلت لم أقل لها : - الوداع يا حبيبتى الوداع "
ولن نقولها لأننا نحبها نحبها " منزل تميم " بالأجماع ..
الحب ما أقدسه إن كان بالإجماع !
تونس : 9-4-1981
