مختارات من خطبه
الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة ٩٥ للهجرة هو والى الامويين على العراق . ومن المعروف ان العراق كان يمثل الجانب المعارض للسياسة الاموية وسلطتها المتمركزة فى دمشق ، فكان لا بد من اختيار وال شديد ؟ البأس قادر على الصمود بوجه الجبهة المعارضة ولقد كان . . اذ اختير الحجاج لهذه المهمة وقدم الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب ، وتوجه الى المسجد وكان متقلدا سيفه ومعتما بعمامة غطى بها اكثر وجهة وصعد المنبر ثم مكث ساعة لا يتكلم حتى هم بعضهم برميه بالحصى
عندئذ رفع لثامه وقال :
انا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى اضع العمامة تعرفوني ) ١ (
ثم خطب فيهم خطبته المشهورة التى قال فيها
) يا اهل الكوفة اما والله اني لأحمل الشر بحمله وأجذوه بنعله ، وأجزية بمثلة واني لأرى ابصارا طامحة ، وأعناقا متطاولة . ورؤسا قد اينعت وحان قطافها ، واني لصاحبها . . وكأني انظر الى الدماء بين العمائم واللجي تترقرق . (
ثم قال : ) ٢ (
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي ابل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
ثم قال :
قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوى
مهاجر ليس باعرابي
ثم قال
قد شمرت عن ساقها فشدوا
- وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر عرد ) ٢ (
مثل ذو ذراع البكر او اشد
لا بد مما ليس منه بد
اني والله يا اهل العراق ، و - مدن الشقاق والنفاق ، ومساوىء الاخلاق ، ما يقعقع ) ٤ ( لى بالشنان ) ٥ ( ولا يغمز جانبى كتغماز التين وقد فررت عن ذكاء ، وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وان امير المؤمنين - اطال الله بقاءه - نثر كنانته ) ٦ ( بين يديه فعجم ) ٧ ( عيدانها فوجدني أمرها عودا ، وأصلبها مكسرا . فرماكم بى ، لانكم طالما أوضعتهم في الفتن ) ٨ ( واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي . أما والله لألحونكم ) ٩( نحو العصا ولأقرعنكم قرع المروة ) ١٠ ( ولأعصبنكم عصب السلمة ) ١١ ( ولأضربنكم ضرب غرائب الابل ، فانكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . واني والله لا أعد الا وفيت ، ولا أهم الا أمضيت ، ولا أخلق ) ١٢ (
الا فريت ) ١٣ ( فاياي وهذه الشفعاء والزرافات ، والجماعات ، وقالا وقيلا ) ١٤ ( وما تقول ؟ وفيما انتم وذاك ؟ أما والله لتستقيمن على طريق الحق ، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا فى جسده ، وان امير المؤمنين امرني باعطائكم اعطياتكم ) ١٥ ( وان أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بى ابي صفرة ) ١٦ ( واني اقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام الا سفكت دمه ، وانهبت ماله ، وهدمت منزله ) ١٧ ( ا ه
تأمل عزيزى القارئ هذه الخطبة من أولها إلى آخرها . . فستجدها تتسم بطابع القوة وطابع التهديد والتحدى . . انظر إلى هذه الاستعارة اللطيفة التى شغف بها البلاغيون وهي تشبيهه لرؤوس القوم بالثمرة التى آن قطافها . . واي استعارة أجود وأظهر وأجمل وأروع من هذه الاستعارة ؟ !
ثم تأمل ظروف الخطبة . أولا تتفق معي بأن الحجاج كان مثالا ، حيا ، للرجل الشجاع المقدام الحازم العازم ؟ والا فكيف يقف هذا الموقف من أناس يكنون له العداء ؟ وهو على ما تقول الرواية ) ان صحت ( لم يأت معه الا باثني عشر راكبا . .
يبدو لى ان كلمات الحجاج ومظهره القوى كان لهما رد فعل عند أهل العراق .
لقد هابوه قبل أن يروا جيشه . . انه كالاسد الهصور يخيف من يقرب منه دون أن تكون هنالك أسد تحميه . .
انظر الى فنون البلاغة التى انبثت في الخطبة . . تأمل هذا السجع الجميل القصير الذي جعل فيه اللفظ تابعا للمعنى ، ولم يتكلفه تكلفا كما يفعل بعض الخطباء والكتاب . .
ان أول ما يلاحظ على التشبيهات والاستعارات في الخطبة أنها مستمدة من الواقع فليس فيها افراط ولا تفريط . .
والحجاج يعنى عناية كبرى بالملاءمة بين الفاظه ، فقلما تلقانا في الخطبة كلمة نابية ، أو لفظ غريب متوعر . . أما الموسيقي فلها فى خطبته نصيت وافر ، فهي تطرد فى الخطبة اطرادا .
والحجاج يستعين بالشعر في ايضاح فكرته وفي تزيين كلامه وهو لا ينسى ابدا ان يختار من الشعر اقواه وافخمه . كذلك فانه لا يختار أبياتا لشاعر مشهور وانما يأتينا بشعر قوى لشاعر مغمور ليدلل بذلك على سعة اطلاعه . وعمق فهمه للادب والشعر العربى عامة . .
ويبدو أن الحجاج كان مجودا شديد العناية بخطبه يطيل التهيؤ لها والعمل على انشائها فيحذف منها شيئا ليضيف افضل منه وهكذا الى أن تستقيم له الخطبة من الوجهتين : المعنوية والبيانية ، فيذيعها بين الناس
وله خطبة اخرى القاها فى البصرة يتهدد فيها أهل العراق عامة ويتوعدهم يقول :
" أيها الناس من أعياه داؤه ، فعندى دواؤه ، من استطال أجله فعلى ، ان اعجله ومن ثقل عليه رأسه ، وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه . ان للشيطان طيفا ، وان للسلطان سيفا
فمن سقمت سريرته ، صنت عقوبته ، ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ، ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ، ومن سبقته بادرة فمه ، سبق بدنه بسفك دمه ، انى انذر ثم لا انظر ) ١٨ ( واحذر ثم لا أعذر ، واتوعد ثم لا اعفو ، انما افسدكم ترنيق ) ١٩ ( ولاتكم ومن استعرض لببه ) ٢٠ ( ساء ادبه ان الحزم والعزم سلبانى سوطي وأبدلانى به سيفي فقائمه فى يدى ، ونجاده فى عنقى ، وذبابه قلادة ، لمن عصاني . والله لا آمر أحدكم ان يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج مع الباب الذي يليه الا ضربت عنقه " اه
خطبة كسائر خطب الحجاج تتراكم فيها الصور البلاغية تراكما ملحوظا . القوة هى هي ، والشموخ هو هو . والتحدى ظاهر فى كل كلمة من الخطبة . وبالاضافة الى ذلك فهو ينحو هنا نحو السخرية من العراقيين . وهذا من أشد أنواع الهجاء وأمعنه . . ان من يشتكى مرضا فالحجاج كفيل بأن يداويه . . ويا له من دواء . ومن مل الحياة فالحجاج كفيل بأن يريحه منها . . ومن وجد أن رأسه أضحي ثقيلا فهو لن يشعر بثقله بعد الآن ، اذ سيريحه الحجاج منه . . وهكذا يمضى . وأية سخرية أعمق وأمضى من ذلك ؟ !
انه يتهدد ويتوعد ويقسم أغلظ الايمان انهم ان عصوه قيد أنملة فلن يلوموا الا أنفسهم . . انه يرى أن ضعف ولاتهم هو الذي جعلهم هكذا ، وأفسدهم فهو سوف
يستفيد من أخطاء غيره ، وسيظهر بمظهر الرجل الحازم الصارم صاحب الارادة والتصميم . .
ان الفنون البلاغية تزدحم في الخطبة ازدحاما ، فمن جناس لطيف الى طباق رائع واستعارات . . وكل ذلك يأتي طبعيا لا متكلفا ، والا لما رأيناه على هذه الروعة .
وتروي المصادر القديمة أن الحجاج مرض مرة فتباشر أهل العراق بذلك فتحامل على نفسه ، وصعد المنبر خطيبا وقال :
" ان طائفة من أهل العراق ، أهل الشقاق والنفاق ، تزغ الشيطان بينهم فقالوا : مات الحجاج . ومات الحجاج . . فمه ! وهل يرجو الحجاج الخير الا بعد الموت ؟ والله ما يسرني ان لا أموت وان لى الدنيا وما فيها ، وما رأيت الله رضي بالتخليد الا لأهون خلقة عليه : ابليس ، " قال : انظرني إلى يوم يبعثون قال : انك من المنظرين " ولقد دعا الله العبد الصالح فقال : " رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى " . فأعطاه ذلك الا البقاء ، فما عسى ان يكون أيها الرجل ؟ وكلكم ذلك الرجل ، كأني والله بكل حى منكم ميتا وبكل رطب يابسا ولعل في ثياب اكفانه الى ثلاث أذرع طولا في ذراع عرضا واكلت الارض لحمه ومصت صديده وانصرف الحبيب من أهلة يقسم الخبيث من ماله . ان الذين يعقلون يعلمون ما اقول "
تأمل الحجاج في هذه الخطبة . . انه حكيم يفكر في الحياة والأحياء ، ويستخرج من تفكيره هذه العبر والعظات
لقد كثر حوله الاعداء الذين استبشروا
بقرب موته . . ومع ذلك بقى . كالطود الشامخ . .
اني لا اكاد أعرف خطبة أروع ولا ابلغ في تصوير الرجل الشجاع ذي القلب الذكي والنفس المتحدية لكل من عاداها غير حافلة به ولا آبهة له كهذه الخطبة . .
انه يمضى فى هذا التصوير للحياة ولنفسه ، وهذا الوصف الرائع حتى ينتهى الى ما يصور انهزام خصمه وقد أعيته الحجة وعجز عن الخصام . . وعلى هذا النحو الرائع يمضى حتى يتم خطبته بهذه العبارة المقتضبة التى تملؤها الهيبة . .
والخطبة تصور لنا احساس الحجاج وقد فتح الموت له فاه وأظفاره وانيابه تكاد تفترسه ، وقد قل حوله الانصار والاحباب وهو برغم ذلك ما زال قويا صامدا ، مؤمنا بأن الموت حق وانه كاس ، كل ، شاربها .
وثقافة الحجاج واسعة جدا ، واعتماده على القرآن الكريم كبير جدا ايضا ، فهو يقتبس من آياته ما يحلى به أعناق كلامه ، ويقلد مقاطعة وفواصله .
الحق اذا ما أردت ان اصف الحجاج بعبارة موجزة فاننى ساقول انه قوى الشخصية ، شديد الحزم ، ظاهر الحجة ، رصين الاسلوب . .
) الرياض (

