رافق تطور الحركة الفكرية النشاط الذى مرت به الحياة السياسية فى العقد الاول من القرن العشرين ، فازدهرت نسبيا ، ونشطت أقلام الكتاب والشعراء ثم توقفت وركدت بعد حوادث الزلاج ، وتعطيل الصحف الوطنية ، وانقطاع المؤسسات الثقافية عن نشاطها لتبعث الحياة فيها من جديد بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ، وبدأت مرحلة جديدة فى تاريخ تونس السياسى
وانطلقت الحركة الفكرية الجديدة بتأسيس " جمعية قدماء الصادقية " فى 23 ديسمبر 1905 بعد أن قدم على باش حامية تقريرا مفصلا عن تطور المدرسة الصادقية وعن أهداف المؤسسة الجديدة التى ستمثل حوالى ستمائة متخرج صادقي ) 1 ( وكان لهذه المؤسسة الثقافية التونسية شأن كبير طوال حركة التحرر الوطني ، والنهضة الثقافية التونسية ، فهى سرعان ما انقلبت الى مركز حساس للعمل القومى مثل شقيقتها من قبل " الخلدونية "
لخص على باش حامبة أهداف الجمعية قائلا
1 - تأسيس مكتبة فرنسية - عربية فى مقر الجمعية . 2 - تنظيم محاضرات منظمة تتناول موضوعات شتى ) ما عدا السياسة والدين ( .
3 - تنظيم دروس ليلية بالفرنسية والعربية فى التاريخ والجغرافيا ، وعلم الاجتماع ، والاقتصاد السياسى ، والعلوم الفيزيائية ، والطبيعية 4 - تنظيم دروس عربية ، حسب الطرق الحديثة .
5 - ومن أهدافها أيضا نشر الثقافة الشعبية ، وتنظيم مسامرات عامة فى الأحياء الشعبية ) 2 ( .
وبفتح " قدماء الصادقية " أبوابها سنة 1906 نشطت المحاضرات التى لم تكن معروفة قبل ذلك ، واقتفت " الخلدونية " آثارها فى هذا الميدان ، وهكذا برز لون جديد من الانتاج الفكرى فى البلاد
ولا شك أن تأسيس قدماء الصادقية جعل الاتجاهين فى أوساط المثقفين التونسيين يبرز فى وضوح وجلاء ويتخذ أحيانا شكلا حادا . وفكر الزيتونيون المنتمون الى الخلدونية فى إنشاء جمعية خاصة بهم دعت اليها جريدة " الصواب " وسعت فئة من الطلبة والشيوخ الى تأسيس " جمعية تلامذة جامع الزيتونة " برئاسة الشيخ محمد رضوان ، وانتسب اليها محمد النخلى وعبد الرحمان الكعاك ، والشيخ محمد مناشو ولكن هذه الجمعية لم تعمر طويلا للخلاف الذى نشب بين الطلبة وشيوخهم المحافظين البعيدين عن الأساليب الديمقراطية والتنظيم داخل المؤسسات العامة . فقد ظهرت إذن آثار الاتجاهين السياسيين المتباينين داخل حركة الاصلاح الجديدة ، وفي صفوف انصار " حركة الشباب " فى الميدان الثقافي ، وتواصلت بين المجددين ) وفي صفوفهم نجد الوطنيين خريجى الصادقية ، والثائرين الزيتونيين ( وبين القوى الرجعية المحافظة ، المناهضة لكل حركة اصلاحية . فمن الخطأ - فى رأينا - أن نتصور المعركة الفكرية آنذاك بين الصادقيين والزيتونيين بصفة مطلقة بل هى معركة بين المجددين والمحافظين ، فالعناصر الوطنية المجددة من خريجى " الصادقية " نجدهم يتعاونون فى نطاق " الخلدونية " مع الزيتونيين
المؤمنين بالاصلاح والتجديد ، ونجد هؤلاء يتعاونون مع " قدماء الصادقية " فى تحقيق أهدافها ولا سيما بعد ما تحولت الى خلية من خلايا العمل الوطني وهذه الظاهرة نجدها قد استمرت فى جميع مراحل الحركة القومية . فقد رأينا أن الوطنيين الواعين من أبناء " الصادقية " لم يشنوا حربا شعواء على الشيوخ المجترين المتزمتين فحسب بل شنوها أيضا على العناصر المتخرجة من الصادقية والمعاهد الثانوية الاخرى والمنادية بسياسة الاندماج التام مع فرنسا . ولم يقف المجددون الزيتونيون فى وجه تلك الفئة العاملة على ذوبان مقومات الشخصية القومية من حضارة اسلامية ، ولغة وتقاليد صحيحة والمنادية بالارتماء نهائيا فى أحضان ثقافة وتقاليد المستعمر بل كانت مقاومتهم للرجعيين الانتهازيين من شيوخ الزيتونة أشد وأعنف (4)
وتواصلت الحركة الاصلاحية فى الميدان التربوى ، والاعتناء بتجديد أساليب التدريس ، وادخال العلوم العصرية فنشأ عدد من المدارس القرآنية ، وأصبحت قضية اصلاح التعليم الزيتوني من قضايا الساعة ، فقد دخل نضال الطلبة الزيتونيين من اجل اصلاح التعليم الذي ينتسبون اليه ، وجعله يتماشى مع مقتضيات الحضارة الجديدة طورا ايجابيا ، فتجاوز مرحلة الاحتجاج ، وتقديم المطالب ليبلغ مرحلة المقاومة المنظمة باعلان الاعتصاب العام ، وتنظيم المظاهرات . وقد تبنت الصحف الوطنية قضية الطلبة الزيتونيين ، وفي طليعتها جريدة " التونسى " لسان حركة " الشباب التونسى "
وفي نفس الفترة انتقدت الصحافة القومية ادارة التعليم العمومي على تدهور التعليم بالمدرسة الصادقية وتحويلها عن الاهداف التى أسست من أجلها ) 5 ( ويلمس الباحث حين يتتبع الموضوعات التربوية والثقافية التى كانت توليها الصحف والمجلات عناية خاصة مدى اهتمام هذه الصحف بتعليم اللغة العربية فى المدارس باعتبارها من أهم مقومات الشخصية التونسية ، ووسيلة التعبير عن التفكير التونسي ) 6 (
ومن معالم النهضة الفكرية فى السنوات الاولى من القرن العشرين ازدهار حركة الصحافة الوطنية ، وصدور عدد من الصحف الجديدة عززت صف " الحاضرة " و " الزهرة " وأشهر هذه الصحف جريدة " التونسى " بالفرنسية والعربية ، وجريدة " الصواب " ( 7 ) ، و " مرشد الأمة " ( 8 ) ,
و " المنير " ) 9 ( ، وجريدة " الاتحاد الاسلامي " . أما المجلات الثقافية فلم تكن لها أهمية تذكر في هذه الفترة ، فقد أصدر جماعة من شيوخ الزيتونة وفي مقدمتهم الشيخان محمد الخضر بن الحسين ، ومحمد النجار سنة 904 مجلة " السعادة العظمى " ) 10 ( ثم أصدر محمد الجعايبي مدير " الصواب مجلة " خير الدين " ولكنها لم تعمر طويلا ) 11 (
وللمرء أن يقول : إن الادب الذي لم يبرز مستقلا ، وليست له مصادره الخاصة من مجلات أدبية وكتب فهو ادب ضعيف هزيل . اننا لا ننكر هذا الادب فى العقد الاول فى هذا القرن فى بلادنا ، ولكن القضية نسبية فى رأينا ، فحين نقارن الموضوعات التى أصبح يعالجها بالنسبة لمحتوى الادب فى نهاية القرن الماضى ، وعدد أصحاب الاقلام الادبية وتطور الاسلوب ، فاننا نقف على حركة نشيطة ، مهما بدت لنا مقلدة ، مجترة .
اذن ان الصحافة التونسية لم تؤد رسالة خطيرة فى تاريخ الحركة القومية فحسب ) 12 ( بل ساهمت مساهمة مباشرة فى الحركة الفكرية والنهضة الادبية ، فقد كانت تعالج موضوع الاصلاح ، وتشحذ العزائم للتغلب على
صعوبات التأخر الفكرى والاجتماعي ) 13 ( وهى تعرب عن عدم رضا النخبة بالحالة الثقافية والنهضة التى عليها البلاد . كتبت " الصواب " بتاريخ 31 جانفى 1908 تقول :
" يرى الوافد على تونس جمعيات جمة ، وتأسيسات مهمة فيحسب أن البلاد ترقت والأمة نهضت ، واستيقظت من سباتها الذي لبثت فيه قرونا ، وان ليس بينها وبين السعادة الا يقدر بعد العين عن الحاجب ، ويقول فى نفسه هكذا لكون النهضة الصادقة ، ويمثل هذا الحزم والجد تسمو الامم الى الحياة الراقية وجدير بان يكون بذل سراة التونسيين وذوى السعة منهم للمال فى سبيل المشاريع العمومية ومعاهد العلم أسوة حسنة للامم الخامدة ، والشعوب الجامدة ، ولكن لو تجلت الحقائق بجدها التام وبان له ما وراء الستار لايقن ان القياس فاسد ، والنتيجة كاذبة ، وان حالة التونسي الحقيقية خليقة بان تكون مثالا للتأخر المشين بل أن تكون عنوانا على التدلى والضعف فى كل الشؤون "
ويوجه المعلق بعد ذلك نقدا لاذعا لاشهر مؤسستين ثقافيتين في البلاد " الخلدونية " و " جمعية قدماء الصادقية "
وبالرغم من تأثر الصحافة العربية بالخصوص بفكرة الجامعة الاسلامية ، وتخرج غالب المشرفين عليها من الزيتونة فانها هاجمت علماء الدين فى نضالها من أجل تجديد الاسلام ، ونلمس في غير عناء انتسابها الى مدرسة الشيخ عبده ، وتلميذه الشيخ رشيد رضا . فقد حاولت جريدة " المرشد " ان تقدم لقرائها فى بحث طويل النخبة القادرة على قيادة حركة النهضة ، والنهوض بالأمة فكتبت تقول :
أما الذين يحاولون حصول النهضة على يد علماء الدين فهم ، وان كانوا اقرب منزع الى الحق ، الا انهم فى نفس الامر يحاولون تربيع الدائرة : لان علماء الدين قد غلبت عليهم حظوظهم فأنكروا كل علم لم يتناولوه ، وان كان نبع فى صدور اسلافهم وفاتهم أن صلاح الدين يتوقف على صلاح الدنيا ، وان صلاح الدنيا لا يتأتى بغير العلوم العلمية التى أدرك منها الافرنج ما أدركوا وكانت سببا قويا فى انتشار مدنيتهم وازدهار ممالكهم ، وامتداد سلطانهم ،
ومع ذلك فانك تجد أولئك العلماء هانئين طول دهرهم بمحاولة قصر مدلول العلم على فهم مسائل من الدين لا يجوز للمسلم الجهل بها ، وذلك كى يجعلوا لهم - بقصر مفهوم العلم - فضلا على الناس وميزة يطوقون بها الاعناق
فهم ولئن كان في مقدورهم أن يحافظوا على كرامة الأمة فى دينها أدبيا الا انهم لا يستطيعون المحافظة عليها ماديا . ومن هذه الجهة نجدهم ينتفعون فى أنفسهم ولا ينفعون .
وما دامت قرائح العلماء جامدة عن إدراك السر الحقيقى لنهضة الامم ، وما دامت نفوسهم نزاعة الى استيفاء التعمم والاستظلال بظلال الراحة والترف فلا يرجى أبدا أن يحصل للأمة أدنى خير على أيديهم ، ولا يتأتى لهم أن يقوموا باحداث أية نهضة فى البلاد ، وربما اضطروا أن ينساقوا خلف ذلك ألنشء إنا طوعا ، أو مكرهين " ) 14 (
رأينا من خلال هذه اللمحة السريعة الرسالة الهامة التى قامت بها الصحافة الوطنية فى تطور حركة الاصلاح ، وانتعاش الحركة الفكرية فقد كانت الدعامة الاساسية للنشاط الفكرى والادبى ) 15 (
وتشعر الصحافة الوطنية بضعف الانتاج ، وتتألم من ذلك ، وتوجه نداء الى الادباء مذكرة اياهم بواجب حملة الاقلام ، والتزامهم لخدمة وطنهم " يا معشر الكتاب وحملة الاقلام ان لوطنكم عليكم حقا يجب الوفاء به فاحيوا غراس الادب ، وسيروا بأمتكم في مناهج الرشد ، ونبهوها بالحكمة والموعظة الحسنة فقد تحكم فينا فرعون الجهل ، وسوء الاخلاق . . . " ) 16 ( ويذكرهم معلق الصواب " فى نفس المقال بأن شهرة فرنسا يرجع الفضل فيها لقواد الأفكار وليس لقواد الجنود أمثال نابليون ، ولحملة الاقلام أمثال فولتير ، ومونتسكيو وروسو ، وليس لحملة السلاح .
فلأول مرة أصبحنا نلاحظ شعور النخبة بمسؤولية الادباء والكتاب فى معركة الاصلاح وهو شعور يبين فى نفس الوقت ضعف الانتاج الادبي وندرته . ويكاد يرافقنا هذا النداء الموجه الى الادباء ليغذوا القراء بانتاجهم وليساهموا فى ازدهار الادب القومى فى جميع مراحل الادب التونسي المعاصر
