ورد عن المؤرخ الرومانى يوسطنيوس ( Jutinen ) ان عليسة أخت بجماليون ( Pygmalon ) ملك مدينة صورد رحلت عن بلادها لما قتل أخوها زوجها وكان يريد الاستيلاء على أموالها وصحبها فى هجرتها ثلة من أعيان صورد خوفا من طغيان الملك وجبروته . ولم وصل الركب الى جزيرة قبرص نزلوا بها للراحة وكان سكان الجزيرة فى استقبالهم بكل حفاوة . وبعد الاستراحة آمرت علىيسة بالرحيل وأخذت من نساء الجزيرة أروجا لصحبها وانصرف الجميع نحو السواحل الافريقية وحلوا بها وتمكنت أميرتنا من تأسيس المدينة الحديثة مقابل مبلغ مال تدفعه سنويا إلى ملك ليببى يدعى يرباص ( larbs) ان الملك هذا قد اعجب بشجاعة عليىسة وبقوة شخصيتها فاراد ان يتزوجها وكان ذلك من العسير على أميرتنا فباتت فى حيرة فان قبلت الزواج ارتكبت محرما ازاء زوجها المغتال وان رفضت كان ذلك خطرا على المدينة الحديثة من جزاء غضب يرباص ثم وجدت حلا بطوليا فقد أرسلت إلى يرباص تنبئه برضاها على أن يمهلها فترة من الزمن ولما جاء أجل الزواج أمرت عليىسة باشعال نار قرب منزلها والقت بنفسها فيها وذهبت هكذا ضحية لشرفها ولحياة مدينتها .
انها لاسطورة جميلة يلذ لنا الاستماع لها غير أنه من العسير علينا أن نقدر نصيبها من الحقيقة التاريخية ولا يسعى أن أقوم هنا بنقد هذه الاسطورة نقدا علميا حسب الطرق التى يتوخاها المؤرخون حاليا ولا يمكنني أيضا أن أحدثكم عن الاسباب التاريخية التي بعثت قرطاج الى الوجود بل اكتفى بقولي ان قرطاج أسست حسب آراء غالب المؤرخين سنة 814 قيل ال البلاد وسرعان ما أصبحت مدينة عظيمة يهيمن اسطولها على كامل غربى البحر الابيض المتوسط وازدهرت حضارتها وسنكتفي اليوم بالحديث عن حياتها الثقافية والفنية .
إن أول سؤال يلقه المؤرخ على نفسه إذا أراد درس مسألة تاريخ بخدة هو التالي : ما هى المصادر التى نستمد منها معلوماتنا وما هى الوثائق التى يمكننا الاعتماد عليها ؟
أما في ما يخص موضوعنا هذا فلنا مصادر ادبية بعضها يوناني وبعضها رومانى الاصل اخص بالذكر منها بوليب ويوسطنيوس وديدور الصقلي وغيرهم
ولنا بجانب المصادر الادبية مصادر أثرية . وكثيرا ما ألقي على هذا السؤال : ما الفائدة فى التنقيب عن الاثار وما الفائدة فى درسها ؟ إن علم الاثار هو علم يعتنى بدراسة ما أبقته لنا الشعوب الغابرة من بنابات كالقصور والمعابد وغيرها ومن تحف كالتماثيل المنحوتة والفخار مثلا وما كان علماء الاثار ليدرسوا هاته الاطلال من أجل نفسها بل ينكبون عليها ويدرسونها بكل دقة لانها تكون وثيقة ثمينة لمن أراد معرفة الماضي وضبط تاريخ شعب من الشعوب القديمة .
ولكم مثلا فى هذا : عرفت بلاد ما بين النهرين(Mesopotamie) حضارات عديدة وربما كانت تلك البلاد أول رقعة أرضية نبتت فيها الحضارة البشرية وازدهرت وذلك لاسباب عديدة يعسر علينا الحديث عنها . وأول هاته الحضارات هي حضارة سومر (Sumer) شمسها في الالف الرابع قبل المسيح وبلغت أوجها ثم انهرت قواها واضمحلت وتراكمت عليها طبقات التراب والنسيان وخلفتها حضارات أخرى شيدت مدنها فوق المدن السابقة حتى لم يبق على اديم الارض شئ يحدثنا عن سومر فاللفظة نفسها كانت مجهولة وذلك حتى أوائل القرن العشرين لما أتي علماء الاثار ينقبون في العراق وانجزت الحفريات فبرزت مدن سومر العتيقة بمنازلها واسواقها وطرقها ومعابدها فتمكن علماء الاثار هكذا من احياء حضارة كنا نجهلها تماما مما يشهد بقيمة علم الاثار عند المؤرخين
وليس في وسعنا أن نتعرف بالحياة الثقافية والفنية بقرطاج إذا تركنا جانبا كل ما اسفرت عنه الحفريات التى انجزت بقرطاج أو بالمدن البونيقية الاخرى ويبدو لنا أن المعطيات الاثرية تكون غالبا أكثر قوة واثقل وزنا من المصادر الادبية واقرب منها إلى الحقيقة التاريخية اذ ليس في امكان المعطيات الاثرية تزييف - ولو قليلا الواقع التاريخي ، فهى لا تستطيع الكذب والبهتان بل تحدثنا بكل صدق وصراحة . نعم إنها لا تبدى كل اسرارها الا آذا وجدت من يعرف إلقاء الاسئلة عليها ومن يفهم لغتها وهذا علم دقيق يستوجب دراسة عميقة .
الحياة الثقافيه :
مصادرنا اذا ادبية واثرية ونعتمد خاصة على المصادر الادبية في حديثنا عن الحياة الثقافية . يبدو أن غالب البونيقيين كانوا يتعاطون التجارة والصناعة مما جعل ثقافتهم ترمي قبل كل شئ الى معرفة ما يمكنهم من مجابهة الحياة اليومية واقتحام صعوباتها من ذلك وجب على التاجر أن يتعلم الحساب بمقدار يكفيه حل المشاكل العملية اليومية دون أن يتوغل فى بحر الحسابيات وليس من الغريب أن يحسن تجار قرطاج لغات عديدة حتى يتمكنوا من مخاطبة زبائنهم فى المدن الاجنبية فلم تكن اللغة اليونانية مجهولة عندهم وكانوا يترددون على الاسواق اليونانية . الا أن المدينة الحديثة لم تخل من النشاط الادبى البحث فكانت لها دار كتب عظيمة اشتهرت عند القدماء ولكم ما قال ابلين الاكبر فى هذا الصدد :(1) بعدما حطمت جيوشنا قرطاج وهب مجلس الشيوخ ((Le Senat كتب هاته المدينة الى الملوك الافارقة ولم يحتفظ إلا برسالة ألفها ماجون في علم الفلاحة وقرر ترجمتها الى اللغة اللاتينية وقد كلف بذلك العمل أناس كانوا يحسنون البونيقية وشارك في ذلك رجل ينتمي الى عائلة نبيلة يدعى سيلنوس ،
وزعموا أن بعض الملوك الافارقة قد اقتبسوا من كتب ومؤلفات بونيقية عندما صنفوا هم أنفسهم كتبا فى التاريخ وغيره وقد اشتهر من اولئك الملوك الكتاب يمبصال ( اوHiemps ) ويوبا الثاني (Yuba) وتحدث الاستاذ)G picae) فى كتابه " العالم البونيقى ، عن دار كتب قرطاج قائلا : " لما دخل شبيون قرطاج وجد بها ديار كتب لم تمس بسوء وسمح للملوك الافارقة أن يضعوا ما تحتويه تلك الديار في مأمن ولم يوجه أحد همه - مما يؤسف اليه - نحو ترجمة تلك الكتب سوى رسالة ألفها ماجون في علم الفلاحة " .
وأمر كاتون (Caton)وكان ذاك عضوا بمجلس شيوخ رومه بالعمل بنصائح تلك الرسالة وحث الفلاحين الرومان على التمعن فيها ويجدر بنا أن نعبر عن عظيم أسفنا لفقدان تلك الكتب البونيقية ولم يبق لنا منها سوى اصداء عن رسالة ماجونة (Magon) التى ذكرنا وذلك خلال بعض المصادر الرومانية وتنبئنا تلك الاصداء آن ماجون قد وجه همه خاصة ازاء الاشجار المثمرة فبين متى يجب غرسها
وبأى صفة يكون ذلك ذاكرا كل ما تستوجبه من عنايه كالسقى والشذب مثلا .
وقد كتب ماجون رسالته باللغة البونيقية و كانت لا تختلف فى ذاتها عن لغة صور والحروف البونيقية تشبه تماما الحروف الفينيقية إلا ألا ان البونيقيين أصبحوا بعد زمن طويل يكتبون بحروف سميت بالحروف البونيقية الحديثة لاشك انها مقتبسة من الحروف الفينيقية فمنهم من يقول انها حروف بونيقية اعتراها تغيير وآخرون يعتقدونها حروفا فنيقية كانت تستعمل منذ قديم الزمان بجانب الحروف البونيقية المعروفة الا أن استعمالها قد كثر بعد تحطيم قرطاج وليس فى وسعى أن أبين لكم السبب فى ذلك .
ولئن فقدنا جميع الكتب البونيقية لنا من النقائش ( Inscriptions ) ما يمكننا من معرفة لغة حنبعل وتطورها واصبحت تدرس هاته اللغة بالجامعات الاوربية وأتمنى آن يكون في وسع جامعتنا التونسية تدريس هاته اللغة فى أجل قريب ومن أراد تعلم الفنيقية والبونيقية الحديثة وجب عليه قبل كل شئ دراسة العبرية فهي مفتاح لجميع اللغات السامية وارى معرفتها فرضا لمن أراد التعمق في فقه العربية .
ويبدو أن ديار كتب قرطاج كانت تشمل عددا كبيرا من الاسفار اليونانية مما يدل على وجود علاقة متينة بين قرطاج والحضارة اليونانية ولقد كانت الفلسفة اليونانية تدرس بمدينة عليسة وقد بلغ تأثير الحضارة اليونانية اوجه فى عهد البرقيين (Les Barcides) ونلمس ذلك التأثير اليونانى في جميع ميادين الحضارة البونيقية كالفن مثلا .
الحياة الفنية :
ابدى المؤرخون قساوة عظمي في حكمهم على الفن البونيقي ومنهم من يرى أن الحضارة البونيقية خلت من الروح الفنية ولم تبعث شيئا للأوجود فى هذا الميدان وأول كتاب في هذا الصدد خرج منذ أشهر ألفه ماكس بول فوشى ( (Max Pol Fouch لم يفهم شيئا من فن قرطاج وقد بالغ فى قساوته حتى أنه لم يدع كتابه " فن قرطاج " بل سماه الفن بقرطاج لانه يعتقد - ويشاركه فى اعتقاده هذا ثلة من المؤرخين - أن قرطاج كانت عاجزة عن خلق الاشياء الجميلة بل يرون أن ما وجد بالمدينة من أشياء جميلة ليس هو من صنع البونيقيين بل من صنع اليونانيين مثلا لذا تراهم يطنبون في الحديث عن تأثير الحضارة اليونانية على قرطاج .
اننا لا ننكر العناصر اليونانية التى نلمسها فى الفن البونيقي سواء كان ذلك فى ميدان الهندسة او النحت . ففي الهندسة البونيقية ترى ميزات الفن اليونانى كالاساطين اليونية ( Les colives ioniques ) ونرى بها أيضا نقوش الدرر والقريصات ( Perles et piroueles ) كلها من خاصيات الهندسة اليونانية وزينتها .
كما نشاهد ميزات الفن اليونانى على نصب أقامتها الطبقات الشعبية قربانا للآلة نلاحظ بها الجبهة الثلاثية مثلا ( Le pronton triangulaire) وهي خاصية من خاصيات المعابد اليونانية . قلت انها نصب اقامتها طبقات شعبية فهل يشهد ذلك على أن الشعب البونيقي كان متشبعا بالحضارة اليونانية حتى أثرت على جميع نشاطه ؟ انه لمن العسير حل هاته المشكلة وكل ما يمكننا قوله هو أن الذين نحتوا النصب كانوا على دراية بالفن اليونانى وربما شاهدوا في مدينتهم هيا كل شيدت وزخرفت حسب الذوق اليونانى فنقلوا عنها وقد تأثر الفن البونيقى أيضا بالحضارة المصرية وفنها ونلمس عناصر مصرية فى نصف القرن السادس حيث ترى القرص المجنح " انه disqueaile
والافاعى " Uraei رسمها النحات على ما فوق الاساطين وقد وجدوا بسوسة نصبا نحت عليه عمودان من نوع مصرى وعلى كليهما صورة امرآة مسكت هلالا فوق ثديها وتقلنست كالالهة المصرية هاثور ( Hator ) وهذا دليل قاطع على وجود عناصرية بالفن البونيقي
وقد أثرت مصر على المدن الفنيقية جميعها منذ العصور الغابرة ونلاحظ ذلك في جبيل منذ الالف الثالث قبل الميلاد ولاشك آن عددا من عناصر الزينة (Decor)المصرية لم تأت قرطاج عن طريق مصر مباشرة بل عن طريق المدن الفنيقية .
ويجدر بنا آلا ننسى بجانب العناصر الفنية الخارجية ما ينتسب الى قرطاج والى التراث الاصلى السامى . نلاحظ هذا فى ميدان الهندسة فغالب المنازل البونيقية التى عثر عليها بمدينة كركوان قرب مدينة قليبية ترجع الى أصل بونيقي سامي كما نلمس هاته العناصر الاصلية ببعض الصور رسموها على النصب . ونلمسها أيضا خلال الاقنعة
كان البونيقيون يخشون قوات الشر فتراهم يفتشون عن اسباب التحصن منها مستعملين الاقنعة البشعة سعيا وراء اضحاك تلك القوات الشريرة اعتقادا منهم في عجزها عن فعل الشر كلما تملكها الضحك ونلاحظ هذه العقيدة عند اطفالنا الصغار فإذا غضبت الام على ابنها شعر هذا بخطر الضرب يهدده فتراه يحاول ابعاده عنه بشتى الوسائل وكثير ما يسعى في اضحاك أمه فإذا ضحكت اطمأن وأيقن من زوال الخطر .
وقد ترى جميع العناصر التى ذكرنا في بناء واحد كضريح دقة Musolee de Douggo شيد على نمط بونيقي في القرن الثاني قبل المسيح الا انك تجد به عناصر يونانية كالاساطين اليونية وآخرى مصرية كالحلق المصرى ( La Gorge Egyptienne ) الذي تشاهده فوق الاساطين .
واعتمد بعضهم على وجود هاته العناصر المختلفة فى الفن البونيقي وقالوا ليس للبونيقيين موهبة فنية وقد اقتبسوا عناصر زينتهم من حضارات عديدة دون أن يحاولوا تفهم ما اقتبسوه لذلك تراهم لا يحسنون النقل ولئن شدوا ونقشوا على نمط يوناني فلن ترى لهياكلهم ونصبهم رشاقة الفن اليونانى وطرافته تلك نظرية نجدها عند غالب من كتبوا فى تاريخ قرطاج وفنها ولقد ضلوا الطريق حسب رأينا . نعم قد اقتبس البونيقيون عناصر مختلفة من حضارات مختلفة الا انهم آبوا أن يقلدوها تقليدا
اعمى بل أرادوا ان يخلقوا فنا بونيقيا يعبر عن شخصيتهم وخاصيتها حتى أعطوا لما استعاروه طابعا محليا وكانت طرافتهم في جمع تلك العناصر المختلفة ووضعها فى قالب بونيقي وخلق تحف بها روح بونيقية تتكلم لغة بونيقية مما يدعونا اذا أردنا تفهم هذا الفن إلى مخاطبته بلغة يونانية او مصرية والخطأ هذا قد وقع فيه غالب المؤرخين اذ خاطبوا الفن البونيقى بلسان يونانى ونظروا اليه بعين تعودت النظر الى التحف اليونانية حتى انها أصبحت عاجزة على تذوق فن تعدى حدود الفن اليونانى وعاكس قواعده .
فلم ير الفن البونيقى الاشياء حسب قواعد الطبيعة فهو لا يصف تلك الطبيعة بل هو فن له علاقة متينة بالدين كما هو الحال في غالب الحضارات العتيقة رائده التعبير عن الشعور الديني وعن دقات قلب المؤمن : فإذا نحت البونيقى تمثالا فهو لا يريد من وراء ذلك خلق عالم فنى بحت تلك نظرة عصرية لم يتصف بها اليونانيون انفسهم بل يسعى الى التعبير عن علاقته بربه ومعبوده طالبا منه سعادة الدنيا بتحقيق اماانيه ومتعوذا به من قوات الشر التى تهدد نومه ويقظته وإذا مكننا تمثال او نصب من لمس كل ما يخالج المتعبد من خواطر ومشاعر دينية وحياة داخلية شهد له ذلك بقيمة فنية عظمى وقد قام الفن البونيقى بمهمته هذه أحسن قيام اذ نشعر " بحرارة بشرية " كلما لمسنا نصبا من نصب التوفات . ( 1 )
هكذا نستطيع أن نقول بكل طمأنينة اعتمادا على مصادر أدبية واخرى أثرية أن المدينة الحديثة عرفت نشاطا أدبيا جديرا بالذكر وحركة ثقافية فعالة وقد خلقت ايدى عمالها فنا عبر تعبيرا صادقا عما كان يخالج الروح البونيقية وتلك هي رسالة كل فن .
