الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

الدراجة الصفراء ..

Share

- 3 - (*)

يعود عم العروسى مخترقا أكداس الحديد ، ويتناول شربية من وراء الباب يرفعها الى فمه ويميل بها الى الوراء ، ويجعل يكرع كرعا يسمع من بعيد ، تتحرك له قرجومته تحركا متواصلا ، ويبقى يشرب زمنا كانه يريد أن يأتى على آخر ما فيها .. ثم .. ثم يكف وينحى الشربية عن فمه ويرجع النفس بشدة ، ويثنهد ثم يرجع الشربية الى مكانها ، وينتقل وسط النهج بخطى وئيدة ثقيلة واضعا يديه فى حزامه بشكل قوسين كعادته ، ثم ينظر بخيلاء فى نهج حمام الرميمى يمينا ، وشمالا ، ويطيل النظر ، ويدير رأسه ببطء كأنه رادار بشاهد تحركات الدراجات كلها فى نهج سوقى بلخير وفي الانهج القريبة والبعيدة منه ، فى نهج حمام الرميمى ، ونهج باب الخضراء ، ونهج سيدى بن نعيم ، ونهج الدوارة ، ونهج الكرارسى ، والحفير ، ونهج البصيلى ، ونهج سيدى خميس ، وبطحاء الحلفاوين ، ونهج القنطرة ، ونهج الزواية البكرية ، وباب سعدون .. ثم يخطو خطوات ، ويتجه بتمايل وخيلاء الى كرسيه عند الحائط قبالة الحانوت .. ويشاهد الطفل مقبلا بالقهوة يسير ببطء وحذر ، ماسكا كأس القهوة بيده اليمنى .. فيخرج صندوق سجائر " أرتى " وحكه وقيد من جيبه ، ويجذب سجارة من الصندوق ويرشقها على مهل فى فمه ثم يشعلها بمهارة .

يقف رجل أمامه ويقول له : - صحة عروسى . فيجيبيه بسرعة ولهفة كمن كان وترقب احدا فتاخر كثيرا حتى يئس من قدومه - تفينك ؟!! - توه مروح من الخدمة ! - هيا خذ جغمة قهوة ؟!

- صحه بالشفاء . - حصانك تعبان كان جيت قبل بشوية راك ضربت معايا مقرونة ما زالت سخونة تركب كيف . . - صحه ليك صحه - تخوذ جغيمة قهوة ؟! - لا والله لا - خوذ نصيف اعمل جبيدة ؟! - لا يعيشو لعروسى قل لى الليلة ما تنساش ماو فيجيبه لعروسى على الفور : - نحب نعرف الطاهر جاى والا لا ؟ - ما نظنش - قل الحق انت تعرف وتخب على ؟ ! - ظاهر لي جاى ! - أما له ما نجيش . - لا ايجه امان ! - لا يا حبيب الطاهر ما يهنيش روحه . - ايجه عادة آش عندك فيه ؟ - كيف يشرب ما عادش يعرف آش يخرج من فمه وانا نفضل ما نحطش ساقى الليلة ؟ - قلت لك ايجه واش عندك فيه ! - لا ، أنا اعرف توه يفسدها ويخمجها .. وعندى معاه حسابات هاو الرسمى - قتلك ايجه يزى عاد - انا ما نحبش نشوف منظره ويهمس اليه بصوت لا يسمع :

وتظهر علامات التأثر ، والاضطراب على وجه الحبيب ، ويتابع عم لعروسى :

وتزداد علامات التأثر على وجه الحبيب ويتمتع لونه .

ويزيد على هذا يحل فمه ويقول :

ويجيبه الحبيب

وتابع عم لعروسى :

فهمت توه

- والله ما كنت نتصور - اماله كيفاش ! - شوف ايجه وخوذ بخاطرى - مازلت نشوف الخليفة متاعه ؟! - لا يعيشو لعروسى يعيفيو خوذ بخاطرى توه نحطوه بعيد عليك وما تراش خليقته !! بربى عروسى !! بربى !! - باهى ، باهى على خاطرك والله على خاطرك يا حبيب . - يعيشو لعروسى يعيشو ، هات نبوس كالرأس متاعك . ويقبله من جديد - بالسلامة الليلة اماله - بالسلامة مليح

يبتعد الرجل . ونبقى زمنا ننظر اليه يبتعد ، وتحين منى التفاتة الى الدراجات ، فأشاهد الدراجة الصفراء هناك بين الدراجات متكئة على يسار الحانوت !! وأمسك أخى من كتفه وأرجه بقوة وأشير اليها ، ونسرع ، ونتناولها من بين الدراجات ، ونخرجها بصعوبة وعم لعروسى ينظر الينا مبتسما . ونمد له " الدورو " ونبتعد عن الحانوت ، ويلاحقنا صوته محذرا صائحا : - لا تتأخرا ، ولا تركبا عليها الاثنان معا . ونلتفت اليه الاثنان ونجيبه بدورنا بشجاعة وفرح :

- نعم ، نعم ، سوف لا نتأخر ، ولا نركب نركب عليها الاثنان الاثنان يا عم عم لعروسى .

صار يتوقع بحدسه الغريب اننا سنستطيع ركوب الدراجة وصار يعتقد اننا سنركب عليها الاثنان بدون شك ولا ريب ، وصار يخاف على دراجته الصفراء الصغيرة ، ولكنه لا يعرف اننا نحبها كثيرا ونحبها اكثر منه ..

ونبتعد عن الحانوت ، ونعرج يسرة ، وتدخل نهج الدوارة كعادتنا . ثم يدفع اخى الدراجة الى الامام قليلا ويمسكها من كرسيها قائلا لى : - أبدأ أنا الآن ، أمسك بى الكرسى ولا تتركنى أسقط .

ويمتطى الدراجة ، ونسير رويدا رويدا ، هو فوق الدراجة يدير ساقيه بحذر عاضا على شفتيه وأنا أسير ماسكا بالمقود لا أتركه ، ويبقى متكئا على خطوات ، ثم يجعل يدير ساقيه بسهولة ، فأسرع الخطى بجانبه ثم يجعل يدير ساقيه اكثر فأكثر حتى صرت أهرول وحتى صرت أركض وأجرى ثم لم أدر كيف انطلق ولا كيف ابتعد عنى وحرك ساقيه بخفة وسهولة وزاد ابتعادا وانا انظر اليه فرحا مبهورا وأجرى والدراجة تسعى سعيا جميلا .

ثم ثم يشد الكابح فتنقص الدراجة من سرعتها وتجعل تسير بمهل ، ببطء ، وتكاد تقف .. ثم لم ادر كيف نحى ساقة اليمني بعجلة عن الدواسة ولمس الارض . وأصل اليه عدوا ويقول لى فرحا مرجا - الآن دورك هيا اركب سوف ترى . ركوبها سهل سهل جدا سأمسك بك المقود ؟!! فأجيبه بارتباك : - لا ، لا يا أخى المرة المقبلة نترك ذلك للمرة الآتية !!

ثم نسير والدراجة بيننا ، ونجعل نفكر في الرجوع أو على الاقل المرور أمام باب الحانوت فلعل وقتنا فات ولعل عم لعروسى بدأ يغضب ، او انه غضب فعلا ، وجعل يترقب عودتنا بفارع الصبر ، وجعل يفكر في الانتقام منا .. وعند مشاهداتنا سيقوم الينا ، وينطلق وراءنا كالصقر .. ونقترب من الحانوت .. ونجد عم لعروسي جالسا على كرسية كما تركناه يترشف قهوته وسجارته لم ننته بعد . ينظر الينا ويبتسم . ثم يقول لنا كلماته الممقوته :

- وقتكما يا الاولاد ضعا الدراجة هناك ويشير الى آخر صف الدراجات على يسار الحانوت . تضع الدراحة عل الحائط بصمت فى المكان الذي أشار اليه بسبابته ، لا نحيد عنه قدر شبر ونفارق الحانوت صامتين آسفين ونبتعد .. يلتفت الى أخى ويقول لى : - لو لم نمر أمام الحانوت لما قال لنا كلماته التعسة ولبقينا زمنا طويلا بالدراجة !!!

أخى يحسن ركوب الدراجة !!! بعد يومين اخذنا طريقنا بسرعة ... عدنا وخمسة فرتكات في احد حبوبنا .. وسرنا فى نهج حمام الرميمى .. واقتربنا من الكوشية وشممت رائحة الكعك .. لكن اخى الكبير يحسن ركوب الدراجة الصفراء الآن !!! ومررنا أمام الكوشة ولم انظر الى مبروك وهو منهمك امام الفرن ، يخرج الاطباق المملوءة كعكا شهيا ، ناضجا ، سخنا ، يخلب انظار الاطفال الصغار ، وتنحلب له افواههم . وابتعدنا عن الكوشة ولم التفت ولو مرة واحدة ، وظلت رائحة الكعك تقتفى اثرى ، وظلت تلاحقنى وتنفذ الى انفى بالحاج شديد ، لكن سيركب اخي الذراجة الصفراء ، ويسير فوقها بسهولة ، وراكب بدورى الدراحة الصفراء وأدير ساقى ، وانطلق بدون شك ولا ريب كما انطلق اخى .. وعرجنا يسرة ودخلنا نهج سوقى بلخير ، وجعلنا نشاهد الدراجات ثم ظهرت لنا ألوانها : خضراء وحمراء وزرقاء وقسطلانية .. واقتربنا وشاهدنا اللون الاصفر بين الالوان وشاهدنا الدراجة الصفراء بين الدراجات متكئة على يمين الحانوت ، هادئة تترقبنا ، واسرعنا ، وعدونا .. والدراجة لا تزال متكئة ساكنة لا تتحرك ، وقدمنا الدورو الى عم لعروسى ونحن نلهث ونلتفت اليها قائلين بصوت واحد .

- الدراجة ، الدراجة الصفراء انها هناك يا عم لعروسي هناك نريد الدراجة الصفراء !! فلا يرفع بصره ، ولا ينظر الينا ، ولا يمد يده لتناول النقود بل يبقى يفك ناقوس دراجة زرقاء ينزع عنه غطاءه بصمت ، ويديره بحذر لكى لا تتبعثر بعض اجزائه ، وتسقط على الارض وتضيع ، ويجعل يده تحت الناقوس ليتلقى بعض القطع الصغيرة قبل سقوطها . ثم ينظر داخل الناقوس مليا ، وينفخ فى بعض اجزائه ويقلب بعضها ويمسح البعض ، ثم يواصل ويفك البقية قطعة قطعة ، ونحن نترقب ، ونتذمر ، ويضع القطع كلها فى الزيت ويتركها برهة ثم يخرجها

ويمسحها بخرقة ونحن نتحسر ويبقى زمنا ينظر فيها ثم يجعل يعيد تركيب الناقوس بكل ثبات ودقة وعناية بكل صبر قطعة قطعة ، ثم يدير فوق الكل الغطاء ولا يشده الى آخره بل يتركه يتحرك قليلا ويضغط على الناقوس فيعلو رنينه .. ثم شرع فى تصليح مقعد دراجة برتقالية . تنحى عن مكانه واعوج وصعب ارجاعة بدون فكه وشرع فى حل براغيه بمفاتيحه العديدة المختلفة فنتقد غيظا ، ونشتعل ، ويبقى زمنا يسويه ثم يعيد له براريمه بسرعة ودراية يشدها شدا محكا ، وفى النهاية يصعد فوق الدراجة ويقوم بجولة صغيرة فى نهج سوقى بلخير ، لا يبتعد عن الحانوت كثيرا شامخا منتفخا كالديك الرومى بحرك ساقيه بأناة وثبات والدراجة تسعى خفيفة مذعنة رغم ثقله وتسرع اكثر وتنشط عند أدنى حركة منه . وأخيرا يشد الكابح فتقف فى نفس المكان الذى كان يصلحها فيه ، ينزل بخفة رغم ضخامة جسمه ، وينحنى قليلا وينظر فى الكرسى من جديد فيجده فى مكانه مشدودا لم يتحرك .

نسترجع انفاسنا ، ونتقدم لكن يقبل رجل طويل عملاق يخاطب عم لعروسى فورا وبصوت قوى قائلا :

- دبوزة كالعادة ! فيجيبه بسرعة : - سالم على السلامة . ويتابع الرجل بتهكم : - قل لى كالعادة دبيبيزة تحرك غاطس فى الدراجات تصلح وترقع ! فيجيبه بصوت متغير اجش : - يزى سالم ويقع كلام الرجل وتهكمه بردا وسلاما على صدرينا ويتابع الرجل - اشبيك اعجب ديمة تتغشش منى - علاش نتغشش منك - باهى ما قلت شئ اعطينى دراجة جديدة - خذ آش تحب ، الدراجات كلها قدامك

فيجيبه الرجل على الفور آمرا : - قلت لك اعطينى انت دراجة جديدة اعرفهم اكثرهم دراجاتك " روبا فيكيا "

يمتقع لون عم لعروسى ، فنفرح ويشتد فرحنا ونكاد نرقص ونكاد نقبل الرجل ، ويشتغل بتصليح دواسة دراجة فيصيح فيه الرجل مستهزئا متبسما - هيا فاشكة قوم واختار لى واحدة من حينك صرنا نسعد لكل كلمة يقولها الرجل فيجيبه باقتضاب صوت مختلج ضعيف : - خذ الزرقاء ويقول له الرجل : - ديمة تغضب كيف نكلمك هكه ديمة ما تتغيرش ويجيب لعروسى بارتباك وصوت نحيف مرتعش : - ما نغضبش علاش نغضب خذ الزرقاء هي جديدة - دبوزة فينى الزرقاء هذه - على اليمين - هاتها لى انت

يقوم ويجذب له دراجة جديدة زرقاء لماعة يخرجها له من بين الدرجات الهاجعة على يمين الحانوت . يتناولها الرجل المقود بشدة ثم يمتطيها بقوة وعنجهية قائلا بملء صوته : - كان ما تمشيش مليح نخليها لك فى وسط الثنية فيجيبه متوسلا عاويا : - بربى ما تكسرها راهى جديدة !! - من الحلوى هى ؟ - لا ! - شوف انا ماشى المنوبة ومانحبهااش تعطلنى - يعيشك ساعد عليها !! - قلت لك وتعاود لك نخليها لك فى الثنية كان تتركنى

- وقتاش ترجع ! - بعد المغرب . - ما توخرش ! - بعد المغرب . - يا سالم سالتك على خاطر باش نسكر بكرى الليلة ! - آه ؟ اش عنده فاشكة الليلة سهرية ؟ عوادة ؟ - لا شى ما فمه - ربوخ ؟ مزود ؟ قدرة ، مرمز - لا شى شىء - والله لعروسي يحب النصبات ويخاف لا يوخر تقلى ما عرفناش - لا ما فمه شى - ويخبى زادة تقلى - قدره عند الحطاب

- يدير الرجل ساقيه ويبتعد .. يدير ساقيه ببطء ، وتمايل ، وخيلاء ، ويتعد عن الحانوت .. ويبقى عم لعروسى ينظر اليه .. بانكسار ثم يلتفت الينا ويتذكرنا ، وسألنا صابا علينا غضبه كله : - ماذا تريدان ؟ - فنقول له - الدراجة الصفراء الدراجة الصفراء ! - ونمد له الدورو فيفتح يده ويتناوله بدون كلام .. ثم يقول لنا بغضب وحنق - هيا خذاها وانصرفا عنى ونتناول الدراجة من بين الدراجات وننصرف .

.. ويبقى يفكر قائلا فى نفسه أعرف ، أعرف ، بعد عشر دقائق على اكثر تقدير سوف تعودان وتمران أمام الحانوت خائفين مرتجفين واشير اليكما فتذعنان كحملين وديعين .. اما الآخر ويعبس .. وتتغير ملامحه ويبقى يفكر فى الدراجة الجديدة الزرقاء .. ويهتم ويحزن .. ويزداد وجهه اصفرارا . - يتبع -

اشترك في نشرتنا البريدية