الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

الذكرى العشرون لوفاة، الشيخ عبد الحميد ابن باديس

Share

ها انا ذا اعاهدكم على ان اجعل حياتى وقفا مؤبدا على الاسلام عموما والامة الجزائرية خصوصا ما بقيت الروح ، ومن بدل او خان فليطبق عليه :

" ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب . اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "

ذلك هو القسم الذى اقسم به ابن باديس يوم ان رجع من تونس حاملا شهادة العالمية وانتصب بقسنطينة عام 1912 يبنى العقول وينشئ الاجيال وانه لقسم لو تعلمون عظيم !

فهل وفى عبدالحميد بما عاهد الله والامة عليه - ؟ لم يكن ابن باديس مصلحا دينيا فحسب ، ولا وطنيا صادقا وصحافيا واعيا فقط كما يقولون .

ان ابن باديس كان امة . ان ابن باديس كان ابا لجيل . ذلك الجيل الصاعد الذى ابتدأ سنة 1925 بالثورة على الجهالة والضلال وانتهى 1954 بالثورة على السلاسل والاغلال .

انه يفتخر بهذه الابوة - انه يقول : " انا لم انجب اطفالا ولكنى اب ، لان كل الجزائريين ابنائى " ولنترك التاريخ يتحدث

ولد ابن باديس فى قسنطينة عام 1889 فى احضان عائلة مترفة تتمتع بمركز اجتماعى ممتاز . وكان والده محمد مصطفى من اغنياء البلاد ووجهائها المحظوظين ولو شاء عبدالحميد لعاش مثل ابيه وافراد عائلته فى بحبوحة من العيش ووفرة من الثراء وجانب من تقدير السلطة الحاكمة . وان يبقى مدللا كما كان صبيا . وان لا يحرق مخه وينهك جسمه بالعمل الفكرى الكادح ، وكان فى امكانه ان يتمتع بحياة الزوجية الدافئة ككل اضرابه من ابناء الذوات المترفين ، ولكنه استقبل الحياة يوم ان استقبلته الحياة وهو يصرخ فى وجهها : خلقت للجزائر وسأعيش للجزائر .

ادخله والده احد الكتاتيب القرآنية وهو فى الخامسة من عمره فحفظ القرآن على الشيخ محمد الماداسى ، ثم درس العلوم الدينية فى قسنطينة على الشيخ حمدان الونيسى . وقد كان يحذره من الالتحاق باى وظيفة . وهى اغلى نصيحة سمعها فى حياته .

ارسله والده مصطفى الى تونس لياخذ نصيبه الاوفى من المعارف فعكف على التحصيل واتم دراسته سنة 1908 حيث تحصل على الشهادة العليا - العالمية من جامع الزيتونة بعد شهادة التطويع ثم رجع الى قسنطينة.

محمد بخيت فى مصر اجازة العالمية ، وفى رحلته هذه التقى فى الحجاز بكل من وسافر الى البقاع المقدسة سنة 1912 لاداء فريضة الحج وطاف بالاقطار العربية سوريا ولبنان ومصر واتصل بعلماء هذه الاقطار . واجازه المرحوم الشيخين البشير الابراهيمى والطيب العقبى ، حيث كان الاول مدرسا بسوريا والثانى بالمدينة ، وهناك اتفق الثلاثة على القيام بحركة اصلاحية بالجزائر لانقاذ الامة من براثين مشائخ الطرق الصوفية الذين سخروا الجزائر لفائدة المستعمرين بنشر الضلالات والاوهام وتخدير العقول

وبمجرد رجوع ابن باديس الى قسنطينة سنة 1913 انتصب بالجامع الاخضر للتدريس والدعوة للاصلاح . فكان يقوم بالقاء (12)  درسا يوميا . وقد ابتكر طريقة جديدة لتفسير القرآن كان ابتكر مثلها الشيخ رشيد رضا بمصر .

والى جانب اجتهاده فى الحقل الاصلاحى فتح واجهة جديدة للكفاح القلمى فانشأ بقسنطينة جريدة المنتقد سنة 1925 قامت بحملات صادقة ضد سياسة فرنسا التعسفية بالجزائر واذ لم يتسع لها الجو السياسى المتعفن لفظت انفاسها على يد - ميرانط - مدير الشؤون الاهلية فى العدد الثامن عشر منها . وخلفتها جريدة الشهاب يوم 12 نوفمبر سنة 1925 ثم تطورت الى مجلة يوم 23 اوت سنة 1926

كان من البديهى ان تتضايق الحكومة الاستعمارية فى الجزائر من هذه الحركة وان تعتبرها - كما هى فى الواقع - حركة خطيرة ترمى الى تحرير الافكار والعقول من الاستعمار العقائدى المريع الذى ظل ردحا من الزمن يحجب العيون عن المعرفة والحقيقة والنور ، ويصد النفوس التى تنهشها المخاوف بانيابها عن الانطلاق وراء حياة سعيدة وعيش كريم.

صمد ابن باديس الصنهاجى امام كل معارضة . ووقف ساخرا من الاحداث فى نخوة وكبرياء يردد ذلك الصوت الذى يجلجل فى اعماقه.

" تستطيع الظروف ان تكيفنا ولكنها لا تستطيع ابدا ان تقهرنا "

تلك هي الكلمة التى يقتات منها عقل عبدالحميد والتى كان على ضوئها يسطر - مهما امعن الاستعمار فى اعنائه والكيد له الا ازداد حماسا وانبعاثا . فاذا ما عصرت قلبه الآلام - وداعبت روحه الآمال الفساح - حدج الاقدار العاقية بعينين تبرقان كالقبس ونظر الى الافق اللازوردى الحالم فى احضان اللانهاية وقال :

" ان جميع الابواب يمكن ان تغلق امامنا ولكن بابا واحدا لن يغلق ابدا . هو باب السماء . "

واخيرا انتصرت كلمة الاصلاح على ذبذبة العملاء المخاذيل ، وظهر الحق على الظلم والطغيان - وسكنت تلك الاصوات النكراء المحمومة . وانطلقت الفكرة الاصلاحية الوطنية فى لهفة وسعورة . وانبعثت كالقذيفة المجنونة تشق طريقها لتنفجر ، فاذا بجمعية العلماء تبرز من ركام دخانها كالعملاق ! -

وهذه جريدة " السنة " تبرز باسم الجمعية يوم 12 نوفمبر 1933 لتحمل رسالتها الى المجتمع الاسلامى العربى عامة والى الجزائر خاصة ، واذا بالحكومة تختصر اجلها بعد 12 عددا آخرها فى ربيع تلك السنة . لم تقف الجمعية مكتوفة الايدى ازاء هذا التعطيل الذى اصبح عادة رتيبة . فاصدرت جريدة "الشريعة" يوم 24 من نفس الشهر فكان لها نفس المصير حيث عطلتها الادارة بعد ستة اعداد . وخلفتها جريدة السراط يوم 11 سبتمبر 1933 . فبعثت بها الحكومة الى مرقدها الاخير بعد العدد السابع ثم امتنعت الادارة عن الترخيص للسيد احمد بوشمال باصدار جريدة جديدة.

وقد كان مديرا لجميع جرائد الجمعية . فكان الشيخ محمد خير الدين هذه المرة مديرا لجريدة "البصائر" وصدر عددها الاول بعاصمة الجزائر يوم 27 ديسمبر سنة 1935 ثم اسندت ادارتها الى مؤرخ الجزائر المرحوم الشيخ مبارك الميلى ابتداء من عددها 48

كانت هذه الجرائد الى جانب نادى الترقى بالجزائر . ميادين فسيحة استطاع ان يقدم فيها ابن باديس ومن ورائه جمعية العلماء - بخوض معركة الحياة الطاحنة وان يواكب الحركة الاستقلالية المتبلورة فى " حزب نجم الشمال الافريقى " ثم حزب الشعب من بعده وان تولد بعد كل ذلك من اعماق الغيب جزائر جديدة عرفت كيف تعرب للعالم عما يصرخ فى عروقها ويصخب فى كيانها : بلغة غير اللغة التى اعتاد الاستعمار تاويلها وتحريفها . لغة جديدة واضحة لاتقبل التاويل : لغة الحديد والنار !

ما كان لعبد الحميد ان يغتر بمناورات سافرة دبرت حوله ابان الحرب العالمية الثانية - ليقول كلمة تاييد لفرنسا وحلفائها ضد الالمان ، انه لا يثق بالاستعمار ولايطمئن لرجاله . هو يرتاب حتى فى كلمة الشهادة اذا طلب اليه المستعمرون ان يقولها :

" اما والله لو قالوا لى قل : لا اله الا الله لما قلتها . "

ذلك هو عبد الحميد ابن باديس فى ايمانه . ذلك هو ابن باديس فى شخصيته وتضحيته النفيسة الفذة - ذلك هو اب الجزائر فى جهاده - وهذه هى صيحاته المدوية يلقيها فى صدر الزمن.

هذا لكم عهدى به حتى اوسد فى الترب

فاذا هلكت فصيحتى تحيا الجزائر والعرب

لقد التحق ابن باديس بموكب الخلود فى جوار ربه فى يوم 16 افريل قبل عشرين سنة ، ولفظ انفاسه الاخيرة مبتهلا: " رب انى مسنى الضر وانت ارحم الراحمين "

وكان الخضم الزاخر من الشباب الجزائرى يسير فى خشوع وراء جثمانه الطاهر وهو يقول : لقد كان عبد الحميد هو الجزائر - والآن على الجزائر ان تكون هى عبدالحميد

اشترك في نشرتنا البريدية