الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

الرحيل والصوت البدوى *

Share

عرض : اسعد الحسين

الرحيل والصوت البدوى ، رصيد مشرق ، يضاف الى آفاق التجربة الشعرية ، ويكشف أبعاد العالم الذي يستوحى منه عبد الكريم الناعم عطاءه ، ولابد من الاشارة ، الى أن الديوان ليس أول انتاج يؤكد فيه هويته الاصيلة، فقد صدر له من قبل " زهرة النار - حصاد الشمس - الكتابة على جذوع الشجر القاسى " حملت جميعها شخصية مشرقة . تضئ في دنيا الشعر، وتظهر مقدرة الشاعر المبدعة ورأيه المستمر - الذى ميز الكلمة الشعرية عنده بالتطور ، والطاقة الفاعلة .

والذين يتابعون تجربة عبد الكريم ، يعرفون طبيعة روحه ، التى اتصفت برؤيا واضحة ، جسدت درجة وعيه الجاد المسؤول لابعاد رسالة الحرف ، ودوره فى معركة الانسان من اجل وجوده المأمول ، بحيث تمكن من اقامة بناء شعري، نتجلى فيه حرارة الصدق ، وعمق الرؤيا ، واستطاع بموهبته الكبيرة ، أن يجد صيغة رائعة فى تعامله مع البساطة ، التى تتألق وضاءة بالفيض الشعرى، والحركة الموحية المبدعة .

يقول الدكتور الشاعر خليل حاوى : " عندما نقول (رؤيا) يظن البعض انها ضرب من الوهم الضبابى الغامض المنفصل عن واقع الحياة ، ولكن النقاد من منظرى الشعر ، وفي مقدمتهم أرسطو وكولردج الشاعر ، يؤكدون ان الرؤيا الشعرية نفاذ عبر الواقع اليومى والحالات النفسية المرتبطة به الى الاغوار حيث تهجع المنازع الاصيلة فى ذات الشاعر ، وذات الحضارة ، التى ينتمي اليها، وربما استطاع أن يعبر عما تضمره تلك الاغوار تعبيرا ، لا يتيسر للمناهج الفلسفية ، ومن الادلة ، شخصية فاوست كما أبدعها الشاعر الالماني غوته،

فجاءت تعبيرا أصيلا عن مطامح الانسان الالمانى ، والانسان فى الحضارة الغربية بوجه عام ، كما جاءت تعبيرا عن مطامح الانسان فى كل حضارة ، ولهذا كانت رؤيا أعمق غورا ، وأصدق تعبيرا من مذهب كبير الفلاسفة فى عصره ، وهو الفيلسوف كانت "

وعبد الكريم الناعم ، شاعر كبير مقتدر ، يجيد التعبير والكشف ، ويرى فى الكلمة الشعرية ، أولئك الذين وحد الحزن المتطلع الى الافق الارحب بينهم وهي تعنى لديه ، من يقتاتون القهر ، وتذبح أفئدتهم الآهات ، وبنفس الوقت يبصر فيهم أداة صنع الغد الانسانى ، حيث تقوم الانفس من موتها ، وتنطلق الارواح التى أضناها سجن العذاب الكبير ثورة تمرد واع بناء ، رافعة بكل صمود واصرار لواء الانسان الكريم.

والقصائد التى احتواها الديوان ، هي محصلة ذلك التفاعل العميق مع الحياة والالم الذى ينوء به وجود الانسان والاستجابة لتطلعاته . ومن هذا التلاحم، كانت الرؤية المسؤولة أحد الملامح الاساسية البارزة فى انتاج الشاعر وخصوبة آثاره ، وليس عجيبا ان رأيناه فى كل قصائده ووجدنا انفسنا فيها ايضا ويبقى عمق التعبير وحرارة الصوت مظهرا لاصالة وجه القصيدة ، وطاقتها على الكشف والانارة والايحاء لقراءة الكلمات غير المكتوبة ، من خلال تلك التى حملها الديوان .

كيف يستقبل المعذبون عاما جديدا ! ؟ هل يعرف العيد المصلوبون ؟ ! وماذا اعدوا لاستقباله ؟ ! بطاقة لعام 1971 ، قصيدة كشف الشاعر من خلالها واقع الذين يلونون الحرمان بالمنى ، وفجرت معاناته احساس المأساة ، التى تفرض علينا مواجهة حادة فاجعة ، نحيا فيها عذاب الوجدان ، عندما يبحث عن العيد ، ومنذ اللحظة الاولى ، ندرك عمق الالم الدفين ، الذى يستبد بالشاعر، وهو ينشر بضاعته ، عساه يعثر على شئ ما ، يستقبل به العام الجديد، فلا يجد آخر الامر سوى القصائد المصلوبة ، والانسان الحزن ، الذى يحمل فى صدره كل الاماني والاحلام المقتولة بالخيبة والحرمان ، غير انه لا يلبث حتى ينتفض شامخا :

ونحن . . .

يا ليلية العينين . . .

عيدنا ان نعظم الصغار

ان نؤمن الدواء ،

فليقبل العيد ،

ليمض عامنا

ولتشرق النجوم في غيابة الفضاء

عسى إذا ألقت بى الدروب

فى طريقك الملىء بالزهور

تذكرين انه ما كان فى يدى غير تلكم

القصيدة المسهدة

وبضع أورده . .

وهكذا ، حرر انفعاله المأساوى من أشكال الهزيمة والاستكانة ، ونجا به يكون سلاحا ، يبعث فى الاوردة ارادة المواجهة المنتصرة ، ويحدد المهمة الملقاة على عاتقه ، واذا اكتسب المضمون جمالا خاصا بصياغته الفنية المحكمة ، فلابد انه ليس مجرد سكر سادى ، اذ عشنا معا ، هذا الواقع الظالم الذى تقيد اللقمة فيه الانسان ويصبح الحصول على الدواء هو العيد . . فيمتنع عليه أن ينطلق لتأكيد وجوده وإغناء الحضارة بامكانياته ومواهبه.

ان تكون اللقمة هي العيد ، وتضئ ليلته فى مكان آخر ، بالشراب ، والدخان والانامل المغامرة المطلة من تلاصق الأجساد والنواس والكؤوس والترف، فتلك صورة فاجعة ، تلزم الاوردة المتبقية ، أن تغذى روح الثورة ، وتدفع الثوار الى درب التطهير الثورى الانسانى ..

حضور فى بوابة المضيق ، يقظة وجدانية أحياها الشاعر بكل حرارة الوعى والصدق لابعاد الواقع المأساوى ، الذى عانى منه كل مشرد عن أرضه :

وصاحب الأرض التى رويتها بالدمع . . والمني

لم يبقني في أرضه

خرجت منها حاملا تشقق الكفين

والأسى

دفنت في تخومها طفولتى

أحلامي الخضراء . .

أى عذاب أشد من هذا الذي يعانيه من طرد عن أرضه التى زرع فيها أحلى أيامه ، وشبت أحلامه الخضراء فوق ترابها ، ثم فرض عليه أن يسلخ عنها، بعد أن سقاها عصارة روحه ، وارتبط اليها بكل تطلعاته وأمانى وجوده :

وحين حال بيننا المساء             والذرى

نشرت فى وجه المدى             عباءتى

           والريح

نبدأ رحلة التشرد ، وكلما بذل جهدا لنسيان معالم الرؤى ، تصيح به جذوره الملقاة فى العراء ، الى متى تظل لا تؤوب ؟ ! أتكون المدينة خلاصا ؟ ! لا بأس من التجربة المفروضة ، حيث تكبر المأساة : وتزداد تعقيدا ، تحت وطأة الانسحاق والهزيمة التى تلاحق الشاعر وتترصده فى كل مكان ، لكن شوقه الى الارض ، البعث والامل والحياة ، يظل دوما أقوى من الموت وأعظم :

اوقفت حاجبا . .

أقول للرياح ان تمر .

علقت في مخازن البقاء دمية

غنيت في الحدائق المنورة

وكان فى فؤاد اليتيم برعم كالسر

يود ان يموت كيلا اظهره

وتسلك المعاناة فى قصيدته " لم يبق كأس " عمقا جديدا ، يضعنا أمام أمتنا العريقة ، وهي تخوض ضد اليأس والموت معركتها الضارية ، ويتجاذب الشاعر هنا تياران ، ينكفئ به الاول الى استكانة الانسحاق اليائس ، فيؤدى دوره في رسم الواقع الفاجعة ، أما الثاني ، فينبعث متمردا بكل كبرياء الأصالة وإرادتها لمواصلة النضال من اجل الانبعاث الحضارى المجيد :

تآكلت ملامح الآفاق

والنجوم حولنا تعاقر الأعصاب والسلاف

تحتفى

ياما سكرنا ؟ !

كيف تصبح الأحلام جثة تطفو على بحار الموت ؟

كيف تنكر الأحداق وهجها ؟ !

وكيف تنكر الرياح ، والشموس دربنا . . والبيت ؟

اواه . . كيف ؟ !

لتمطر السماء

قبائلا شريدة

تطوف فى الجبال ، فى السهول ، فى الشعاب ،

حيث يزحف المساء

قبائلا

تنام فى الذرى

لعلها ترى

وجه الاله فى الزهور . . وهي تنعتق

من بذرة الكمون

لتمطر السماء

ان الحاح الوعى الملتزم ، الذى خلقه الالم الباعث للحياة ، يرافق عبد الكريم فى كل ما صدر عنه ، والثورة فطرة ، طبع عليها ، ضد كل ما هو سلبى وغير صحي . وتبقى امته ، تمتلك لكل محنة طاقات ذاتية معجزة ، استطاعت بها دوما ، أن تعود الى مسارها الصحيح ، مؤكدة جدارتها الأصيلة بالحياة . وقصيدة " الرحيل والصوت البدوى " تصور بأداء فنى رائع معاناة صادقة، توقد ضراوة المحنة التى يعانى منها قادم من مجاهل الخطوط حاملا عذاب رحلته وجهه البكاء ، لوثة العواصف التى لم تبق ريشا فوق جناحه ، وجعبته :

وما أزال ألعق السموم

عل آخر الرجال من قبيلتى المأساة ينقرض

وها أنا

مازلت كلما ابتعدت

أرى خطاي قرب الشاطئ الذي تركته

من ألف عام

بانتظار عودة المراكب المضيعة

وانت قصتى

أرويك كل ليلة فى حانة القراصنة

ان انصهار الشاعر بضمير أمته حالة لا جدال فيها ، وربما كان من الضرورى ان نذكر ، ان الرؤيا التى طبعت آثار عبد الكريم ، تمكنت دوما من النفاذ الى الاعماق من خلال فهم عميق للتراث ، وقدرة بارعة فى التعامل مع جوانبه المضيئة المتألقة ، وليس ممكنا ، فى هذا المجال ، ان نتوقف عند قصائد الديوان كلها ، ولن يتاح لهذه القراءة ، ان تحيط بكل ما احتواه ، وما انطوى عليه من آفاق شعرية ، تضعنا أمام تجربة أصيلة لشاعر كبير موهوب عرف دوما ، كيف يتعامل مع الحرف ، ويستمد من تفاعله الانساني المسؤول مع الحياة خصوبة العطاء . . ويبقى عبد الكريم الناعم شموخ الانسان واصالة الشاعر المعطاء ، وتظل موهبته واعدة بكل الابداع والنبوغ . .

حمص - سوريا

اشترك في نشرتنا البريدية