الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

الرهان على الثقافة رهان على المستقبل

Share

اود بادىء ذى بدء ان اتوجه بالشكر الى كافة المشاركين فى اللجان الاستشارية ( * ) التى اشتغلت طيلة اسابيع ووضعت تقارير قطاعية حللت فيها الوضع الثقافى وتقدمت باقتراحات للنهوض بالثقافة قد لخصت باللائحة العامة التى تليت علينا منذ حين واشار اليها السيد وزير الثقافة فى كلمته_ كما اعبر عن ارتياحى للنتائج الايجابية التى تمخضت عنها اعمال كل هذه اللجان . وثقوا ان الحكومة ستواصل سعيها لوضع هذه المقررات موضع التنفيذ على مراحل وبالتعاون مع اهل الذكر من المثقفين انفسهم وان وزارة الثقافة وعلى رأسها الاستاذ البشير بن سلامة سوف تكون الساهرة ، فى المقام الاول ، على ذلك لان الحكومة لم تزل ، بهدى من الرئيس ، تعطى الثقافة عناية كبيرة لايمانها بدور الثقافة فى المجتمع وتأثيرها فى النهضة الشاملة باعتبارها بعدا اساسيا من ابعاد التنمية .

ذلك ان الانسان لا ينهض ولا يسعد ولا يتحرر ولا يكرم بالخبز ويسد حاجاته المادية فقط بل هو يحتاج الى كل ذلك ويحتاج ايضا الى غذاء معنوى وروحي وذوقى وجمالى يكسب حياته معنى ونضاله هدفا ويشفى غليله فى كل ما يتعلق بالاسئلة الوجودية الجوهرية الكبرى التى لا غنى عنها ولا بد منها لكل من يستحق ان يسمى انسانا اى من كانت له اشواق وطموحات عليا فى هذا الوجود .

ولعله من المفارقات ومن الغبن فى ذات الانسان ان نحصر حاجاته ونقصر متطلباته على ما يحتاج اليه البطن فقط ونتغافل او نغفل عن احتياجات القلب واحتياجات الروح . لذلك قلنا ، منذ الاستقلال : ان الثقافة كالتعليم شئ ضرورى للشعب وانه من واجبات الدولة ان تساهم فى النهوض بقطاع الثقافة ولقد كانت الثقافة قبل ذلك ظاهرة هامشية محصورة فى بعض الانفار من الشعراء والرسامين والممثلين والموسيقيين يعيشون على الهامش ، لم ينظر اليهم المجتمع حينذاك نظرة مسؤولية وترشيد ولم يعتبرهم حاملى رسالة ولا مضطلعين بوظيفة اجتماعية ، وكان الاستقلال واعيد الاعتبار لكافة الخلاقين والمشتغلين بالثقافة والعاملين فى رحابها

ويمكن لكل من استقرأ تاريخ تونس منذ الاستقلال ان يقف على عناية الرئيس الحبيب بورقيبة بالثقافة وباهلها ، انه يجد ذلك جليا سواء فى خطب الرئيس او فى بعث وزارة كاملة للثقافة عام 1961 او فى ما اولته الدولة من عملية لشؤون التربية ولانشطة الشباب سواء فى الهياكل الرسمية او فى المنظمات الشبابية .

ان في خطاب الرئيس عن المسرح سنة1962 وفي خطابه بالكاف عام 1968 حول الثقافة وفي اختتام ملتقى مثل هذا الذى أتشرف بالاشراف عليه بعض الامثلة من بين عشرات الامثلة التى تدل على ايمان السيد الرئيس وايمان الحكومة التونسية بالثقافة وبأهلها

وعندما نتحدث عن الثقافة يجب ان ننظر اليها نظرة حركية ديناميكية فالثقافة شئ حي يكون ويتكون ويتطور ويتفرع الى عدة فروع وينمو لاسباب ويفضل عوامل متعددة ليس العامل المادى فى اعتقادى اهمها ، بل لعل عقلية الناس في كل المستويات وتطور هذه العقلية هو السبب الاول الذي يجعل الثقافة تنشط او لا تنشط ، تعتبر ظاهرة حيوية ضرورية او شيئا هامشيا ثانويا .

والواقع ان الثقافة كظاهرة انتاج لا يهتم بها الكثيرون نتيجة ظروف تاريخية وعقليات ترسبت على مر العصور ، افضت الى اعتبارها شيئا كماليا وتقضية وقت ومظهرا من مظاهر اللذة التى يتعاطاها الخواص او بعض سراة القوم .

ان كثيرين ممن تكونوا فى تونس وخارج تونس فى الشرق والغرب درسوا فى الجامعات وانهوا تعليمهم العالى احيانا وحملوا او حملوا القابا

جامعية رنانة وظلوا على هامش الثقافة . لذلك وجب تغيير العقليات وتطوير المجتمع .

ان شأن الثقافة كشأن الشباب والرياضة لم يكن يعتبر ولم يزل غير معتبر عند البعض أمرا ضروريا . لقد أصبح الكل يؤمنون بالتعليم وبالشغل وبوسائل النقل كضرورات متأكدة اما الثقافة فهي شئ عرضى ثانوى عند الكثيرين .

اعتقد ان اكبر مكسب حصل منذ الاستقلال هو ان ديناميكية الثقافة جعلتها تصبح شيئا فشيئا عنصرا او جزءا لا يتجزأ من حياة المجتمع وحاجة من حاجات الافراد الملحة . فهي اليوم عند اكثر الناس شئ واجب الوجود وواجب التشجيع ، فالمواطن أصبح فى كثير من الاحيان يشعر بانه منقوص ، مهضوم الجانب اذا هو لم يتمتع بالقدر الادنى من الثقافة لتغذية خياله ولتفتيح ملكاته ولارهاف حسه ولتهذيب ذوقه ، بل ان بعض رجال الاقتصاد ورجال الاعمال ورجال السياسة اصبحوا اليوم يعتقدون ان الثقافة ظاهرة يمكن نعتها بأنها ذات جدوى علما بأن أكثر الناس يصنفون الاعمال او الظواهر بين ما كان منها مجديا وبين ما كان منها هامشيا او طفيليا

هذا كسب كبير لا يمكن ان يحصل بمجرد قرار وزارى بل هو ثمرة وعى وتوعية وحوار متواصل ونشاط حثيث وبعث هياكل واسناد مسؤوليات الى رواد طلائعين .

فاذا سلمنا بان مستوى التطور الذى بلغه المجتمع التونسى اليوم يمكننا من الجزم بأن الراي العام وبأن رأى المسؤوليين خاصة اصبح متشبثا بالثقافة يعتبرها شيئا ضروريا كالخبز والهواء الذي يتنفس فان مستقبل الثقافة وتحقيق ما يرغب فيه اهلها وما تمخضت عنه اعمال اللجان الاستشارية اصبح امرا هين وتوعية وحوار متواصل ونشاط حثيث وبعث هياكل واسناد مسؤوليات الى رواد طلائعيين .

اعتقد ان المهم فى كل الميادين السياسية والاقتصادية والشبابية والرياضية والاجتماعية ليس هو الهياكل او الوسائل المادية بل المهم فى المقام الاول هو الاقتناع والاستعداد الشخصى والجماعى

ولابين ذلك اضرب مثلا محسوسا فى ميدان آخر واضح التعبير عن موقف الراي العام من مثل هذه القضايا : هناك فرق كبير فى التصور الشائع بين

والرياضات فالاولياء يحتجون ويقيمون الدنيا ويقعدونها اذا ما تغيب استاذ الرياضيات اما إذا تغيب استاذ الرياضة فقد يكون اراح واستراح هذا واقع لا يمكن نكرانه يبين بجلاء ان القضية هى قضية اقتناع ومستوى تطور مجتمع ما .

لم يقتنع الناس بعد بان درس الرياضة بالنسبة لتكوين الشباب الذهنى والعقلي بله العضلى لا يقل اهمية عن درس الرياضيات وان حصل هذا الاقتناع فى بعض الامم المتقدمة .

كذلك الشأن بالنسبة الى الثقافة ، فقد ظل الكثيرون يتصورون ان لا بأس من الاستماع الى قطعة موسيقية او مشاهدة مسرحية او سماع قصيدة فى نطاق الترف والكماليات . ونحن نعتقد ان من لا يتغذى بالموسيقى انما هو انسان ناقص من حيث بعده الجمالى محروم من المتعة الفنية وعلينا ان نحسس باهمية الثقافة ، فنحن وان قطعنا خطوات عملاقة بالنسبة لما كان عليه الوضع سنة 1956 ما زلنا دون ما نطمح اليه فى هذا المضمار .

ان المسؤولين فى بعض البلديات او فى الهياكل الادارية الاخرى يعتبرون أنفسهم من انصار الثقافة ومشجعيها لمجرد انهم يقدمون بعض المنح للعمل الثقافى او يحضرون كلما سنحت لهم الظروف نشاطات ثقافية وذلك شأن من يكتفون من الرياضة بتقديم بعض المنح او الهبات لهذه الجمعية او تلك

والواقع ان القضية اهم من ذلك بكثير انها قضية عقلية وعلينا ان نواصل التوعية بحقيقة الثقافة وبدورها وتأكدها فى تكوين الشباب وتوفير اسباب العزة والمناعة للامة . وليس هذا دور الحكومة فقط بل هو كذلك دور كل المثقفين من المواطنين الواعين المناضلين فى الحقل الثقافى

ان النجاح فى هذه التوعية يقتضى ايضا من رجال الثقافة ومن المنتجين الثقافيين ان يكون فى انتاجهم وفى سلوكهم ما يحمل على احترامهم وتغيير الصورة الشائعة خطأ عنهم .

هذا ما كنت اقوله لاساتذة الرياضة وكنت ولا ازال اقوله للموثقفين

ذلك ان من المنتسبين الى الثقافة او الرياضة من يؤكدون هم انفسهم النظرة السياسية الشائعة ، فالمجتمع يعتبرهم مهمشين وهم يسلكون سلوك المهمشين !

فعلا فكان الرياضي أو الشاعر أو الموسيقى ينبغى ان يكون شاذا فى سلوكه وتصرفاته ومظهره

ولقد حرصت عندما كنت مشرفا على الشباب والرياضة فى اول الستينات على ان احاضر بنفسى في المعهد الاعلى لتكوين اساتذة الرياضة لادعوهم لان يكون سلوكهم ناضجا مترشدا ، سلوك المربى المسؤول لا سلوك الرياضى المدلل . وكثيرا ما اكدت على انه ينبغى الا يوجد فرق بين استاذ الرياضة وسائر زملائه اساتذة الاداب والعلوم . من حيث السلوك والمستوى

كذلك الشأن بالنسبة لرجال الثقافة من شعراء ومسرحيين وموسيقيين وغيرهم ، فعليهم جميعا ان يعملوا بسلوكهم وانتاجهم على استبعاد الصورة السلبية الشاذة المحمولة عنهم

بذلك نعمل على ادراج الثقافة بكل فروعها ضمن انشطتنا الجدية لما توفره من غذاء نفسى وذوقى

لقد مارست مهام العضوية ببعض البلديات ، وكنت نائب رئيس بلدية تونس من سنة 1960 الى سنة 1966 ، واشرفت خلال تلك الفترة على لجنة الرياضة والشباب والثقافة ، كما توليت رئاسة بلدية اريانة وما زلت اذكر مناقشاتنا فى هذه الاطر البلدية : فقد كنا نجد الحماس والاهتمام كلما ناقشنا مشروعا من قبيل تعهد رصيف او اقامة ملهي او حفر خندق او تعبيد طريق .

اما إذا تعلق الامر باقامة مسرح او تهيئة ملعب رياضى او تشييد دار للثقافة فان الحماس يفتر والمشاريع تعتبر غير مهمة ولا تحظى باولوية الانجاز

على ان ذلك لا يعنى التشكيك فى وطنية اصحاب هذه المواقف او فى اخلاصهم انما الامر يتعلق بعقلية موروثة وبتكوين اجتماعى أبلى عليه الدهر ويجب تغييره رغم صعوبة مثل هذا العمل .

ان الثقافة كالرياضة من الانشطة الجديدة التى لم تكن معروفة قديما وحتى فى عهود قريبة ، ونحن الآن بصدد اقحامها فى حياتنا المعاصرة لقناعتنا بانها جزء لا يتجزأ من التنمية الشاملة

وعلى رجال الثقافة ان يناضلوا هم انفسهم من اجل هذا ويدركوا المرحلة التى يمر بها مجتمعنا والا يكتفوا بالقاء التبعة على الجهات الرسمية وحدها .

على ان مفهوم الثقافة نفسه لا يخلو من الالتباس ، ولست اريد هنا ان تقدم بتعريف لها انما اكتفى يتناول ناحيتين اولاهما الثقافة كخلق وعطاء والثانية الثقافة كهياكل واجهزة  

والواقع ان الخلاقين من شعراء وموسيقيين ومسرحيين وغيرهم يواجهون تنازعا بين ما يقتضيه الخلق من تحرر وعفوية وما يفرضه الواقع من نظم ومقاييس وقيم اخلاقية واجتماعية وسياسية

فقد ظل الخلاق على مر العصور ومنذ عهد سقراط على غير اتفاق مع المقاييس الشائعة فى المجتمع لان الخلق معناه تمرد على الموجود ووضعه موضع النقد قصد تجاوزه ومعنى ذلك ان الخلاق يصدم الناس فى ما ألفوه واستقر امرهم عليه ، والناس حريصون عادة على التمسك بالمألوف وبما اصبح لديهم يقينا ويقلقهم ان يضعه الخلاق موضع النقد والنظر فيخالفونه الرأى أو يهملونه وربما اتهموه بانه فى قلبه مرض او انه يحمل افكارا هدامة

ان كافة المدارس الفنية والادبية برزت في غالب الاحيان بالرغم من الواقع الاجتماعى او السياسي او الديني الموجود . وكذلك الشأن فى ميدان العلم ويكفي ان نذكر هنا بقضية فاليلى مع البابا وقبل ذلك سقراط الذى اضطر لتجرع السم ، وبما وقع فى أوربا والعالم العربى وفي العالم الثالث

ولقد زين الضغط على حرية الكاتب منذ حوالى خمس وعشرين سنة بما سمى ب " الالتزام " فهناك خلاقون قد ابتدعوا الالتزام فاعطوا بعض الانظمة راحة الضمير بجعل الخلاق مقهورا مسخرا للسلطة السياسية او الدينية او مراكز القوى الاجتماعية

وأصر كثير من الحكام وانصاف الحكام على استغلال الخلاق باسم الالتزام بينما الثقافة كخلق هى حرة أو لا تكون لسبب واضح بسيط هو اننا عندما تكون متواضعين ندرك بوضوح ان لا احد يستطيع ان يدعى لنفسه توكيلا من السماء وعصمة ربانية تؤهلانه لان يحكم قطعا بان هذا الانتاج يخدم الشعب او لا يخدمه

لذلك فنحن في مستوانا المتواضع ومنذ اسسنا مجلة الفكر دعونا الى حرية الخلاق ولم نزل نؤكد ان المثقف حر ولكنه مسؤول عما ينتج او يخلق ويحاسب

على انتاجه من قبل ضميره أولا وكذلك من قبل المجتمع الذي قد يرفعه الى درجة العمالقة فى حياته او بعد مماته وقد يواجهه بالاهمال التام .

ان نظرة استقرائية بسيطة على احوال المجتمعات تفيدنا ان المجتمعات العريقة فى الحضارة توفر للفنانين والخلاقين الثقافيين من الحرية اكثر مما توفر لهم المجتمعات السائرة فى طريق النمو التى كثيرا ما تتضايق من الفنان وتخنق حرية الخلق .

ذلك ان الخلاقين فى العالم المتحضر اليوم قد ورثوا مستوى اجتماعيا وحضاريا فرضوا فيه حريتهم بفضل تضحيات زملائهم فى القرون القليلة السابقة . وهكذا يتحتم ان يتحملوا مسؤولياتهم وان يكون لهم نفس طويل وضمير حى وان يكون انتاجهم بالخصوص انتاجا ثقافيا حقا يمتاز بالطرافة والجدة وروعة الفن وان لا يخلطوا بين الخلق الثقافى الاصيل ومجرد مقالة صحافية ظرفية مع احترامى للصحافة وما تلعبه من دور خطير فى النهوض بالمجتمع اذ كثيرا ما يؤدى هذا " الخلق " الى مجازفات والتباسات والى خصومات ما أتى الله بها من سلطان تفسد الحياة الثقافية وتفضى الى صراع بين أهل الثقافة والساهرين عليها .

سئلت منذ اكثر من عشرين سنة هل ان الادب حر او ملتزم ؟ فاجبت فى مجلة " الفكر " بأن القضية الحقيقية هى هل هناك أدب حقيقى أم لا؟ ذلك ان كل انتاج ثقافى جدير بأن يسمى ادبا انما هو حر بطبيعته يفرض نفسه ولا تستطيع اية سلطة قهره او كبته فالومضة الربانية التى يتصف بها الخلق لا تخضع للحواجز ولا تقبل القيود

أما ما يتخذه بعض الادباء والخلاقين من مواقف سياسية وما يحبرونه من مقالات فى هذا الشأن فتبعاتها محمولة عليهم شأنهم في ذلك شأن سائر المواطنين .

وما دمنا بصدد الحديث عن الخلق اود ان اذكر ولو بايجاز ان بعض الخلاقين كثيرا ما ينتقدون القيم الثقافية الموجودة باسم الحرية ظاهريا وهم فى الواقع انما ينتقدونها بالرجوع الى قيم ثقافية مستوردة هي فى عقر دارها عنوان كبت وسحق للادباء والمفكرين

هذا واقع لا ينكره أى مثقف نزيه ! وكثيرا ما ينادى بعضهم باصناف من الاشتراكيات ويعتبرون بعض الأنظمة امثلة تحتذى ويقاس عليها ولو اجلنا النظر فى هذه الانظمة لوجدنا فيها الانسان مسحوقا سحقا باسم التقدمية ! فعلينا ان ندرك ان الحرية لا تتجزأ حتى نكون منطقيين مع انفسنا .

اما الجانب الثاني من الثقافة التى اردت ان اتناوله فيتجسم فى الثقافة كاجهزة وهياكل ، وهذا جانب هام لا يمكن للمثقف ان ينهض به بنفسه بل لا بد ان تخصص له المجموعة الوطنية جانبا من مواردها باعتباره امرا جماعيا وضروريا

ولعلكم تذكرون ما جاء فى الخطاب الذي القيته فى مجلس النواب حول الثقافة ووجوب دخولها فى الدورة الاقتصادية العادية وضربت لذلك مثلين بتجسمان في قطاع السنما وقطاع الكتاب .

وفي أقل من عام اقمنا الدليل على ان كلامنا ليس مجرد خطب فتضمن قانون الميزانية لسنة 1981 احداث صندوق للسنما ، وقد امضى السيد الرئيس جملة من القوانين والاوامر والقرارات صدر بعضها بالرائد الرسمى وسيصدر البعض الآخر فى الايام القريبة القادمة  .

لقد صدر نص قانوني للاخذ بيد الناشرين والمؤلفين والاقدام على تعويض الكاغذ واتخاذ اجراءات عملية اخرى والغاء بعض الاداءات على بعض المواد الداخلة فى طباعة الكتاب حتى تنقص تكاليف الكتاب الثقافى وحتى تستطيع الجماهير ان تتناوله باسعار ميسورة ، فيصبح بالامكان تصديره الى العالم العربى بصفة خاصة ، ويتمتع به ويستفيد منه كل اخواننا الناطقين بالضاد . وهذه خطوة اولى وسنواصل العمل فى هذا الميدان وفي غيره من الميادين . ان هذه النظرة الجديدة هي الديناميكية التى حدثتكم عنها فى أول كلمتى هذه وحصيلة لتطور العقليات .

فقد اصبح الناس ينظرون الى هذه المشاكل نظرة جدية اكسبت هذه المسائل الجديدة مصداقية اكثر حسب تنامى تلك الديناميكية فى تحويل النظرة الى الثقافة باعتبارها ظاهرة تنموية هامة وهو ما سيمكن الحكومة ويمكنكم ، معشر المثقفين ، من ان تنهضوا بالثقافة وتجعلوها فى المنزلة اللائقة بها .

هناك عدة اقتراحات لا فائدة فى ذكرها ، فما ورد فى اللائحة التى قرآها علينا الاستاذ مصطفى الفارسى مستساغ وقابل للتنفيذ التدريجى.......

لكن ما يمكن ان نتقدم به كاقتراح ، وان كان موجودا ضمنيا باللائحة ، فهو اعتبار الثقافة ظاهرة اجتماعية ليست من مشمولات الدولة وحدها فالدولة قائمة

بواجبها عل احسن وجه وبقى على المؤسسات العامه والخاصة ان يقوم بدورها فى هذا المضمار . فلماذا لا تخصص معاملنا ومؤسساتنا التى تشغل آلاف المواطنين والمواطنات اعتمادات للتنشيط الثقافى ، ولم لا يقع النظر فى العامل والعاملة في المؤسسة باعتبار حاجتيهما الى الترفيه والغذاء الثقافيين ؟

يجب علينا ايضا التفكير في البيئة الثالثة ، وما للنشاط الثقافى من اهمية فيها ، واذكر في هذا المضمار مثالا جديدا من دولة اوربية هي فرنسا حيث اسست اخبرا وزارة خاصة سميت بوزارة اوقات الفراغ .

ذلك ان الحضارة تتطور بصورة تجعل الوقت الزائد على ما تقتضيه بالمنزل او المدرسية او موطن الشغل آخذا فى الازدياد وليس لمواجهة هذا الوقت غير احد امرين : اما ان ننظم المجتمع بتنظيم البيئة الثالثة ، بانشاء هياكل مثل دور الثقافة وقاعات السنما ومعارض الرسوم ومسارح الهواء الطلق وملاعب الرياضة . فنحمى شبابنا وسائر المواطنين من الفراغ القاتل ونعينهم على تكوين اضافي متواصل لا يرتبط بسن معينة او نهمل هذا الجانب فيظل الشارع كما عرفناه في اكثر الاحيان بما فيه من حانات وبذاءة وعنف وقوى ظلامية متزايدة قد تجد هوى فى نفوس بعض الشباب لما يعانيه من غصص القلق ومن ألم الشعور بالفراغ

هذه قضية حضارية مستقبلية ، وليست مسألة اعانة لفنان او طبع كتاب ، انها مسألة اتجاه حضارى فعلى الانسان قبل اتخاذ اى قرار التملى من الواقع مثله كمثل الطبيب حين يشير بالدواء ينبغي ان يكون تشخيصه للمرض صحيحا وكشفه وفحوصه صحيحة . وما نلاحظه عند الدول المتقدمة بل حتى بعض الدول المتخلفة هو ان نصيب هذه الاوقات الفارغة التى ليست من البيئة الاولى اى العائلة ولا من البيئة الثانية اى المدرسة او الشغل فى تزايد من حيث اهميتها ومشاكلها وهمومها .

هذا واقع ، فقد انتشر العنف وتفاقم امر المخدرات . والكحول ، وهي ظاهرة غريبة جدا حتى أن بعض الناس يلوذون بالشعوذة فقد بلغنى ان بعضهم يرى ان الساعة قريبة وانتشرت أراجيف وأساطير شعبية فى بعض الاوساط وأخذ البعض يتوقع عودة المهدى المنتظر ومنهم من يعتقد ان المهدى قد عاد فعلا....

وقد زاد هذا الجو من الشعوذة منذ سقطت تلك " الحجارة " فى الدهمانى فالخيال الشعبى اصبح " خلاقا "  بصورة غريبة .

يشاع مثلا ان بغلة انجبت وهناك اساطير واشاعات كثيرة مما يدل على تفشى الحهل فى بعض الاوساط وهو ما روج خرافات من مثل خرافات راس الغول التى كنا نقرؤها زمن الصبا فى الكتب الصفراء .

هذه كلها مظاهر تدل على حالة الفراغ وعلى المشاكل والازمات التى يتحتم على المجموعة القومية السعى لتنظيم البيئة الثالثة وملئها هياكل مفيدة تقاوم الفراغ القاتل وبذلك نكون قمنا بواجبنا وصنا ابناءنا واحفادنا والاجيال الصاعدة مما يتهددهم من فراغ ومما نشاهده فى بعض اوساطهم من عنف .

حين أتحدث عن الثقافة بمثل هذا الحماس فليس ذلك لانتسابى اليكم أو لكوني مواطنا كنت استاذا شابا قمت بواجبي فاسست مجلة وشجعت المواهب انما هي مسألة تفكير فى المصير الجماعى ، مسألة مستقبل وليست مسألة ماض ، وقضية الثقافة مثل الرياضة ، فالرياضة الحق هي التربية الرياضية التى تهذب الروح وتروض العضلات لا رياضة الانحراف والهمجية والثقافة الحق ليست الشعوذة بل هى الثقافة المترشدة التى تملأ اوقات الفراغ وتغذى النفس وترفع مستوى البشر وتخرجه من بحرانه الحالى الذى هو الظاهرة الكبرى فى الربع الاخير من القرن العشرين والتي كتب عنها اكبر المثقفين والمفكرين فى البلدان المتقدمة قبل البلدان المتخلفة . لهذا السب قلت لكم : ان للثقافة دورا ، وان اهميتها ستزداد م الايام .

بقى لي اقتراح اود تقديمه وهو مشروع تحدثت فيه مع السيد وزير الشؤون الثقافية يتمثل فى بعث مؤسسة وطنية للنهوض بالتأليف والترجمة وتحقيق التراث تكون تونسية أساسا مغربية عربية مشربا ، عالمية تركيبا ، سيكون لها أثرها بحول الله فى دفع حركة الفكر على اسس مدروسة مخططة مركزة واضحة المعالم والاهداف حسب برنامج عملي قابل للانجاز .

بهذه الطريقة نقيم الدليل على ان الثقافة العربية الاسلامية فى هذه الديار ثقافة اصيلة وثقافة مشعة وقادرة على ان تشع اكثر فاكثر فى مستوى عالمي

لان الشعوب بثقافتها ، وبفكرها ، وباثارها الحضارية ولا تقاس قيمة الشعوب بمساحتها الجغرافية ولا يثرواتها المعدنية او الاقتصادية فقط . قيمة الشعوب وتفاضلها فى خدمة المعمورة الفاضلة انما تقاس بمدى اشعاعها الحضارى لان الذى يبقى هو الفكر ، هو ما يكيف المصير الانسانى ، ويغذى قلوب الناس ويجعلهم بتعارفون اكثر فاكثر ومناعة الشعوب هى مناعة فكرية حضارية قبل ان تكون عسكرية او كلامية .

وبقدر ما يتألق الفكر الخلاق في شعب من الشعوب تكتشفه الشعوب الاخرى وتعطف عليه وتتعاطف معه وتقدره وتحميه لانها تتغذى منه . وبقدر ما ينتج الخلاقون فى شعب من الشعوب يخدمون السلم لان السلم مبنية على تحاب الناس ، وفي خصوص تونس والامة العربية عامة اعتقد ان افلاما قيمة ولوحات فنية رائعة ومسرحيات عميقة ودراسات تاريخية ومحاولات قصصية واشعارا رائعة اذا ما نشرت ووزعت فى الناس وترجمت الى لغات الشرق والغرب من شانها ان تكون عاملا اهم من غيره فى تنزيل تونس وسائر البلاد العربية منزلة ارفع وافضل . فالشعوب بحضاراتها والتاريخ يفيدنا أن حتى عندما يقع اعتداء عسكري على شعب قوى حضاريا لكنه ضعيف عسكريا يكتب الانتصار فى النهاية للشعب القوى حضاريا كما وقع بين روما وأثينا واوغل فى التاريخ حتى لا يقع التباس فى كلامى . فالفكر والحضارة لهما البقاء ولهما الفاعلية ولهذا فبقدر ما نراهن على الثقافة نراهن على المستقبل وعلى المناعة وعلى الانسان التونسى وعلى الانسان العربى وعلى الانسان بصفة عامة ونحن نريد الانسان سليما كريما ترفرف عليه المحبة والاحترام المتبادل ، فلتكونوا روادا لهذه النظرة ولهذا الفهم للسياسة بمعناها النبيل البعيد ولتكونوا روادا خلاقين حتى تفيدوا قومكم وتخلدوا وتشعروا بالنخوة التى لا يضاهيها جزاء آخر

اشترك في نشرتنا البريدية