هذا الديوان المسرحى يريده المؤلف ، والمخرج ، والممثلون ، والممثلات ، والفنيون ان يكون حفلة فنية جماهيرية ، بما فى كلمة حفلة من دلالات شتى :
* فى اللغة وهى التجمع والاحتشاد * فى النفس وهي الامتاع الذى يوقظ الحواس * فى الاجتماع وهى المشاركة بالمشاعر حينا ، وبالفكر حينا ، وربما بالجسم احيانا .
* فى الفكر وهى الجدل السجال بين القوى المتناقضة ، والمتعارضة والتي يعدو بعضها على بعض الى بلوغ التركيب . * فى الفن المسرحي وهى الخلق الجماعى المتضافر الرفيع الذى يتوجه الانسجام الفنى في كل جزئية من جزئياته .
بيان حول استعمال الفضاء المسرحى فى هذا الديوان
بقترح المؤلف ان يقع استعمال اركاح متعددة لاخراج هذا الديوان المسرحى ، وذات احجام وارتفاعات متعددة ومختلفة ، وان تكون - قدر الامكان - مندمجة فى الجمهور حتى تلائم ما جاء فى هذا الديوان المسرحى من عمل درامى
لقد سبق للمؤلف ان استعمل فى اثر ادبى سابق عنوانه (( الحمال والبنات )) بعض الخصائص الجمالية التى وردت فى الكتب الادبية العربية القديمة ، (( كالأغاني )) لأبى الفرج الاصبهانى و (( الحيوان )) للجاحظ و (( الامتاع والمؤنسة )) لأبى حيان التوحيدى ، و (( كليلة ودمنة )) لابن المقفع و (( التوابع والزوابع )) لابن شهيد الأندلسي . . وهو يعيد استعمال هذه الخصائص باكثر دقة فى هذا الديوان المسرحى
وهذه الخصائص الجمالية التى لا تدعى ان الكتب العربية القديمة قد انفردت بها ، وانما كانت دعامة فى الانشاء الأدبى العربى القديم ، فضلا عن كونها رائجة فى آداب الشرق المتوارى فى القدم . وهي تتلخص فى مفهوم (( الاستطراد )) الذى جعل منه مؤلف هذا الديوان مبدأ جماليا اساسيا ساعده فى (( الحمال والبنات )) وفى هذا الديوان المسرحى بالذات على اكتساب شكل مسرحى مبتكر ، ومكنه من تركيب العمل الدرامى تركيبا مرنا ، حركيا متفاعلا جدا ، بله جدليا ، واعانه فى الانصراف او يكاد عن فنيات المسرح الغربى - الكلاسيكى منه والحديث الطلائعى - ودفعه بفضل ذلك كله الى الاقتراب اكثر فاكثر من الارضية الذهنية ، ان لم يقم عليها عمدا ، لا سيما فى الماضى الحضارى ، وبالتالى فى الواقع الشعبى الحالى ، ليكون فى نهاية المطاف الضمير النابض للمستقبل ، كيما ينصهر فيها جميعا ، ويتزوج منها وينطق باسمائها .
ويرى المؤلف - فى هذا السياق من المعانى انه كان خليقا بالعرب المعاصرين ، لما تبنوا الفن المسرحى الغربى ، واعطوه الصدارة فى آدابهم وفنونهم ، الا يتبنوا منه الا النوع فقط ، وان يتركوا جانبا الفنيات والاشكال ، والاتجاهات التى رافقت النوع ، والتصقت به ، وكادت تمتزج بأصوله . . وانه كان ضروريا بالنسبة اليهم ان ينظروا فى جوهر المسرح
وان يمعنوا النظر فى أدواته ، وان يتأملوا فى اتجاهاته . ولئن شرع البعض منهم - فى السنوات الاخيرة الماضية - فى تغيير ملامح المسرح فى العالم العربى ، بادخال فنية (( المداح والحلقة )) ، او باستعمال فنية (( الكراكوز )) او بتحوير التركيب الدرامى شيئا ما ، على نمط (( المقامات )) مثلا ، فانهم ما زالوا لم يتعمقوا التعمق الكافى فى المجتمع العربى : كالمجتمع التونسى أو المجتمع الجزائرى ، الذى هو ليس إلا تضاريس لحضارة ألفية لها خصائصها ومميزاتها ، واصباغها ، ونظرتها وباختصار علاماتها الحضارية التى لا تزال فى أشد الحاجة القصوى الى سبر مجهولها ، وموءودها ، واقتفاء آثار ثوريتها ومتابعة منعرجات صعودها وهبوطها
وانه لا يكفى بالنسبة لرجل المسرح - سواء كان مؤلفا او مخرجا - ان يستعمل (( المداح )) مثلا فى عمله المسرحى حتى يكون عمله هذا عربى المشاغل والاطار ، تونسى الواقع والآمال ، شعبى المشاكل والمطامح ، طلائعى النزعة والشكل والاخراج ، فلان (( المداح )) أو (( الكاراكوز )) أو (( اسماعيل باشا )) ليس الا ظاهرة (( فولكلورية )) ذات اصباغ زاهية يرتاح اليها الصبى وينتعش بها الشيخ ، وتزهو فى عين الزائر ، كفولكلورية الاماكن السياحية . . . لم تأخذ من العلامات الحضارية الا بعض القشور
ونقصد بهذا كله انه يجب التعمق فى التفكير العربى ، والتشبع به ، والوقوف على خصائصه ، والرسوب فى اغواره ، وتفهم رقائق مداركه . كأن يتساءل الانسان :
- كيف هو سلوك الانسان التونسى ؟ - كيف هي ردود فعله على مجتمعه ؟ - علام يتخذ هذا الموقف من الاحداث ولا يسلك ذاك الموقف المنتظر منه ؟ - لم يفكر بهذه الطريقة بالذات ولا يفكر بطريقة اخرى ؟ - ما هى الركائز التى تقوم عليها اعماله ؟
الى غير ذلك من الاسئلة المحرجة التى لا يسويها (( المداح )) ولا يحلها (( الكاراكوز )) ولا يغوص عليها (( اسماعيل باشا )) فى اعتقادنا ، رغم انها محاولات تجديدية طيبة لكنها ضيقة فى الآن نفسه .
ونحن حينما نعود الى التراث العربى الاسلامى ، وخصوصا الى فنياته الجمالية ، لا نريد بذلك ان نستدل على صحة مفهوم (( الأصالة)) ( 1 ) المزعوم ، وان نقدس هذا التراث اكثر مما يطيق من التقديس ، وان نجعله بالتالى صالحا لكل زمان ومكان ، وانما نعتبره مجموعة من القيم ، والافكار ، والاشكال ما زالت فى حاجة أكيدة الى التقصى ، لا سيما وانها لم تحظ بالدرس فى معظمها ، وانها قد اصيبت بداء التأويل الزائغ ، وانها دفنت بنظرة الاعجاب و القداسة ، والتقليد . . كما نعد هذه المجموعة من الاشياء جدلية مع حاضرنا ومستقبلنا رغم ان خيط الزمان قد تقطع لاسباب يعرفها العام والخاص مدة قرون طويلة .
ومتى ادركنا هذا الكلام حق الادراك ، فاننا سنمسك حتما عن تقليد ما نجم مكتملا فى التراث - سواء كان عروضا شعريا أو صيغا صرفية أو أجهزة فلسفية أو اشكالا معمارية - وسنعمل حتما على تطويرها ، وتعصيرها وتثويرها حتى نربط من جديد خيط (( التاريخية )) بينها وبيننا بصفة حركية متفاعلة دائما .
فعلا ، لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ان لا يتبنوا من الفن المسرحى الا النوع ، لانهم بتقليدهم الفنيات الغربية ، ومجاراتهم الاشكال الفرنسية ، قد جعلوا من الفن المسرحى فنا مقصورا على الحضارة الاوروبية ، فى حين ان الشرق القديم قد عرفه حق المعرفة بتقنيات ، واشكال اخرى لا تماثل تقنيات المسرح الغربى المعاصر واشكاله . بسبب هذه النظرة الضيقة ، لم يروا ان كل شكل فنى يرمى ويرمز الى ما ورائية معينة على حد تعبير سارتر . وتبعا لهذا ، ابتعد رجال المسرح العرب شططا عن اهتمامات الشعب ، وعن شواغل الانسان التونسى ( مثلا ) ، وعن قضايا المجتمع فى بلادهم لانهم لم يقيموا
اى اعتبار للتراث ( 2 ) الذى يحتفظ به الشعب فى صدره ، والذى يصونه الانسان العربى فى حافظته . فصار المسرح فى البلاد العربية - الا ما قل وندر منه - اما ضربا من التلهية واما عنوان المفارقة ( 3 ) على الرغم ان هذا المسرح مكتوب بالعربية . . .
ورب مسرحية تونسية عربية تتحدث عن بلادنا ، وعن شعبنا ، وعن قضايانا ، وعن مطامحنا ، لا تقاسمنا خبزنا ولا ملحنا ، ولا تزاوج انفاسنا ولا تتسلل الى كنه سلوكنا ، ولا تستجيب لرغائبنا ، ولا ترقباتنا - البادية منها والملتبسة - لان المؤلف ( او المخرج ) لم يستطع تطويع الاداة التى بين يديه ، ولم يقدر بالتالى على ربط ذلك الخيط الخفى السرى الشفاف بين تعبيره الفنى والجمهور الذى يتحمل ذلك التراث فى صدره ، ويصونه فى حافظته ويضطلع يشواغل اليوم المرهقة ، ويحلم بالآمال العريضة ، ولم يكن فى وسعه ان يلائم عمله الفنى مع تلك النظرة الشاملة الى الكون التى اكتسبها الانسان العربى ، فيظل عمله هذا معوجا بين يديه ، وكانه من انتاج مؤلف اجنبى يكتب باللغة العربية رغم ان حوارها عربي كما قلت آنفا ، وديكوره (( باب سويقة )) واشخاصها عرب اسماؤهم : محمد وأحمد وصالح . . .
فلهذا كله ، يتجاوز الفن المسرحى فى كثير من الاحيان اللغة ، والمضمون ٠٠
و (( الاستطراد )) فى القديم قد اتبع فى أنواع الادب كالشعر ، والقصة والمقال ، وفى كتب اللغة ، والبلاغة ، والفقه ، والتفسير ، والتاريخ . وهو ما يعترى المحور الذى يقوم عليه التصنيف من الاحداث ، والأغراض والكلام ، والملح ، والهزل ، والجد ، والامثال ، والعبر التى تأتى - جميعها - حسب عفو الخاطر ، وسريان السليقة ، واختلاج الملكة ، بلا ربط ، ولا شمول ، ولا عمق ، بغية امتاع القارئ والسامع وافادتهما (4) .
ولعله ايضا ذاك الذى سمى (( عيبا )) ( 5 ) فى التأليف العربى القديم وهو التداخل في الاغراض ، والتراكب في الاحاديث ، والقاء الكلام على عواهنه : وتكديسه على بعضه البعض
ولعله ثانيا سرد روايات متعددة ، وربما متناقضة ، لحدث واحد ( 6 ). ولعله ثالثا ايراد تحليلات وتأويلات كثيرة تعليقا على ما غمض فى احدى جزئيات رواية من الروايات ( 7 ).
و (( الاستطراد )) عندي هو ذاك فى خطوطه العريضة ، وفي مستوياته التى ذكرتها والتي لم اذكرها ، حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له ، وتتفاعل معها ، بلا اعتباط ، ولا عفو ، ولا خلط ، وانما عمدا وقصدا ، من اجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم اوجهه .
لذلك اقترحت في بداية هذا البيان ان تكون اركاح هذا الديوان المسرحى متعددة ، ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامى
والملاحظة الاخيرة التى اريد التنبيه اليها هى ان (( الزنج )) ديوان مسرحى . واقصد بذلك ان (( الزنج )) ليست مسرحية فقط ، بل هي تضافر بين المسرح والموسيقى ، وتناصر بين التمثيل والنحت ، وتيامن بين المنظور ، والمسموع ، والمنطوق
كلمة عن اعداد الديوان المسرحى
قدمت الفرقة المسرحية القارة بالكاف بادارة المنصف سويسى (( ديوان الزنج )) مساء يوم الاحد 2 جويلية 1972 بمسرح الهواء الطلق التابع للمركز الثقافى الدولى بالحمامات ، وذلك افتتاحا للمهرجان الثقافى الدولى للحمامات سنة 1972 .
وقد جعل هذا العمل تحت شعار (( الخلق الجماعى )) إذ تضافرت فيه جهود المؤلف صاحب النص ، والمخرج ، والدراماتورج رجاء فرحات ، ومصمم الازياء الزبير التركى ، ومصممة الرقصات فريتا التركى ، وتمثيل أفراد الفرقة بأجمعهم .
كما زود الطاهر فيفة مدير المركز الثقافي الدولى بالحمامات ورئيس المهرجان بنصائحه المسرحية والادبية الثمينة هذه الجماعة العاملة التى أقامت بالمركز الثقافي قرابة عشرين يوما لاعداد (( ديوان الزنج )). والملاحظ ان إعداد هذا الديوان المسرحى كان على مراحل . فقد تناوله المنصف سويسى قبل شهرين من افتتاح المهرجان بمعية رجاء فرحات بعملية مونتاج على النص
ذلك أنى قدمت نصا خاما ، منصرفا - عن قصد وعمد - عن القيام بعملية المونتاج حتى يتسنى للمخرج الاحتكاك به ، بل تفتيقه ، وإعادة تركيبه حسب ما يرتئيه من عمل درامى ، ومن ثم التشبع به ، ومناقشة صاحب النص فى كل جزئية من جزئياته ، الخافية منها والبارزة . وهكذا كان العمل ، اي أن النص الخام الاول قد صهره المنصف سويسى باعانة رجاء فرحات فى قوالب دراماتورجية وافقت عليها لانها لم تخن مضمون النص من جهة ، ولانها جنحت الى المستوى البريشتى من جهة أخرى .
وبالاضافة الى ذلك ، فانى قمت بتحرير نصوص قصيرة ايام الاقامة بالمركز باقتراح من المنصف سويسى أو بطلب منى من أجل لحم كامل النص من جميع جهاته . وإنى لأشكر جميع الذين ساعدونى وساعدوا المنصف سويسى وفرقة الكاف على إعداد الديوان وفي مقدمتهم (( مجلة الفكر )) التى تنشر النصر الأول .
ننشر نص المسرحية ابتداء من العدد القادم - الفكر -
