الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

السرداب، قصة للكاتب الجزائرس محمد ذيب

Share

كان المطر قد عاد إلى قرع بلور النافذة وكانت الريح داخل الزقاق تهمهم لحنها الممل وكان وقع الاقدام الموغلة فى الوحل الغائصة فى غدران الماء يتسرب خفيفا حتى الى السرداب وكانت الانوال الخمسة اثنان منها قبالة الثلاثة الأخرى تهتز مدمدمة من فرط ثقل الدولاب والحلالات تدوم فى صوت كرفرفة الاجنحة . قال " صقالي " : انهم لا يحترمون اليوم شيئا . . ولا اللسان فلم تجد كلماته اى صدى . وكانت بقرب عمر مسداة عملاقة رافعة يديها الى القبو تبتهل الى شخص او الى شىء ما ظهر قط . وفي هذه الزاوية كانت حلالات عديدة متراكمة فى فوضى ملقاة بجانب صندوق منخور قد تقشر دهنه وناء بثقل نضدين من الاغطية . ومن خلف اطلت من الظلمة مائلة لوحات اقيم عليها المخدع الذى قبع تحته صقالى صحبة مغزله فلم يكن يلمح من الغاز الشيخ الا بياض عمامته الخادع . وكان عمر يقول لنفسه وعيناه لا تتحولان عن هذا الطيف : " امر محزن ومضحك . فاى احترام يترقبه من الناس " ثم كف اهتمامه فجاة وغاب فكره عن السرداب فتذكر فتاة الصباح الآخر وعاودته الرعدة التى تملكته وهو فى طريقه الى المعمل

وتحدث صقالي عن " اعراف " الزمان الغابر الذين كانوا يحترمون العمال وتاسف لاعراف اليوم وقد نسوا كل شئ . لكن بعد قليل انقطع صوته فكانه مصباح اطفئ . ولم ياخذ احد على عاتقه قطع حبل الصمت الذى خيم بعد ذلك على المعمل فعجل عمر بالعمل وادار حلالته بسرعة اكبر

ثم اخذ صقالي يتمتم آيات من القرآن وصاحبه فى صوت خافت " غوطى لامين " ثم ترافق الصوتان صوت اجش عصبى وآخر رخيم عميق يتوهمه السامع اكثر تهذيبا وما عتما ان اختلطا فى لحن واحد واغرقا السرداب فى جو جنائزى . وكان عمر يجذب ويجذب خيط الصوف من دون ان تحس بالاحتكاك اللطيف يداه

الورمتان الضاربتان الى الزرقة وكانهما باذنجانتان وكانت افكار حزينة قلقة ترقص بخاطره ورعشات تدب فى ظهر " دبيبا واسنانه تصطك موقعة انين الحلالة الخيالي وهى تدور وتقرقر بلا انقطاع . وكان يحس بالضجر والقلق يتطرقان اليه .

وكان يلوح على النساجين التعب والجد وراس " عكاشة " الكبير الملتحى يهتز كرقاص الساعة وعيناه قد اكلتهما ظلمة موحشة وكان الطنين المرتعش الذى يهدهد المعمل التخلله لعنات مهموسة خافتة

ونسى عمر معنى ما كان يقوم به من عمل وبقى يفكر طويلا والله عالم بما يفكر ولما عاد له وعيه اخذه شعور بالفراغ موحش . وتنفس السرداب فى رائحة كريهة شديدة جعلته يتقزز منها

وفى صمت ووقار ثقيل كان العملة يدفعون المكوك ويجذبون الامشاط وكانت الضربات تدوى كانها وقع مداق عديدة وكانت الايدى تحتك بالخيوط وتدقها وتعقدها واصحت الحركات لبالغ خفتها واتقانها لا تظهر جلبة فى نهار نضو ضئيل يتسلل من عين الكوة البيضاء اللهم اذا استوى من وقت لاخر نساج منهم ليجفف وجهه من العرق السائل او ليقلع عن صدره النخامات التى عفنته

ومرة اخرى فارق خاطر عمر السرداب وطار نحو الصباح البارد والانهج الآهلة فخيل إليه أنه رأى وجها صغيرا قد غمرته عينان واسعتان وابتسم له ويالها من ابتسامة حزينة . وفجأة تضخم الوجه وتحول الى ظل لا حد له ونظر عمر الى ما حوله فوجد المعمل غارقا فى حمى دقيقة والنهار قابع فى القبو وخيالات العملة تضطرب كانها ارواح حائرة . لم يتغير شئ فحفيف المكوك لم يزل يتناوب مع ضربات الامشاط

وفى هذه اللحظة نطق " مولاى بنوار " بصوت يكاد يكون معدوما : " لم اعد أطيق " واصغى عمر فوصلته انات ضعيفة مكبوتة فى الاول ثم تضخمت شيئا فشيئا فى صورة نشيج مدو . وكان " مولاى " يتاو وكانه يبكى . وبحث الطفل عن نظر عكاشة لكن هذا ، وبطنه لاصق بالخشبة ، كان مشغولا مطرقا براسه وكانت جبهته العريضة متهدلة على عينه

وانفجر صقالى فجاة قائلا بصوت اجش " ايه انت ايها الطفل الغبي ! انت ساه !

انظر إلى ما افسدته ! وتفطن عمر الى الكارثة واضاع من يده الخيط الذى كان يجذبه وفى غفلته اختلط الصوف غير الملفوف الذى كان بقدميه . واخذ " عباس صباغ " يرعد ويزيد لانه كان على وشك ان يفلت منه الخيط ورغم السرعة التى خلص بها عمر الخيط فقد صب عليه جام من السباب ودمدم عليه شول مهددا

تخلص حمدوش وهو مستلق على رزم الصوف من تأمل البثرات الموجودة فى الليقة المخشوشنة التى كست الجدران والقبو وتحامل على نفسه ليقوم ثم نظر امامه فى الفراغ وقال ساخطا : " هي كارثة واى كارثة ان اعيش مع قوم مثلكم " وتابع النظر من دون ان يبصر شيئا على غرار النيام الايقاظ . وكانت خواطر طائشة تجول جيئة ودهابا بعينيه بين قبسين اخضرين عجيبين .

وفى السرداب هنا وهناك كان النساجون يتمطون ويتثاءبون وقد ارخت اعصابهم فترة الراحة وقت الزوال الا ان البعض منهم بقى حتى وقت الراحة على حالته العصبية ، ولم يتنازل واحد منهم الى الرد على وقاحة الاشقر ولا اظهر انه سمعه ، وبقى حمدوش جامدا في هيئة الحالم واخيرا تنهد واضطجع على رزم الصوف ، وانعدمت منه كل حركة ، وقد يذهب الى الظن انه كان نائما لو لم يخن سكونه المفرط توتر أعصابه ، وكانت اسلاك خفية تلتقط له كل ما يحدث فى السرداب

وفى ذلك الحين اخذ كثير من النساجين مكانهم امام انوالهم ، وكانت المحادثات مستمرة فى المعمل غير ان الذين مددوا فترة الراحة آثروا ان يكونوا بعيدين عن كل مناقشة ، وبادر العملة الصغار بالعمل هم الاولون ، وكان عليهم ان يعدوا الصوف اللازم للانوال التى سيحين وقت دخولها المعمعة ، وفى هذا الحين تثاءب " عباس صياغ " وقال فى بطء : " الا ترون انه مر زمن طويل وانا اجد فى نفسى شيئا يقلقني انى غير راض عن نفسى ولا اتوصل الى فهم ما يجيش بها ، وعلى الرغم من ذلك فانى لا انفك احيا كما حييت من قبل ولم اتغير ثم انى غير مسرور "

وكان " عباس صباغ " يعمل برفقة " عصمان الاحمر " الملقب " عصمان الموت " وقد شرعا فى العمل منذ لحظات وتوقف عباس الذى كان يتفوه بهذه الالفاظ عن الكلام والعمل واخذ يفكر جامدا وعيناه لا تنمان عن شىء وقال : " انى لم اعد اومن بشئ . ولا اومن بما اعمل . . هذا هو الواقع . " واخذه

الاستغراب مما كان يقول ثم واصل كلامه قائلا : " هكذا كل واحد يتحدث عن حب اخيه الانسان ، لكن من من منا يسر وفق هذه القاعدة ؟ من هو الذى يحترم قريبه ؟ "

والقى بنظرة خاطفة الى زملائه ، فرأى لعباس صباغ فما واسعا مجهزا تجهيزا قويا بالاسنان وعينين جاحظتين عكرتين ذات لون لا يمكن ضبطه ووجها مستطيلا وقد بزغت فى ذقنه ووجنتيه بعض الشعرات الضاربة الى الصفرة وكان يجلس رافعا راسه تحسب ان نظر " يلتهم كل ما يقع عليه ، وكان العملة الصغار يخافون طبعه الحاد . وثم قال : " هل لكم ان تشرحوا لى هذا الامر انى احب الحياة عامة فكيف بي أحتقر حياتى واكرهها ؟ اجيبوا " وتظاهر فجأة بالاهتمام بقطعة النسيج التى انجزها هو وصاحبه واخذ يفحص ما فيها من خلل

واخيرا قبل العمال الاخرون ان ياخذوا امكنتهم بالانوال والحنق باد عليهم من جراء اوامر شول ، وتفحص " حمدوش " وهو ياخذ مكانه وجه " عباس صباغ " وبصق على الارض باحتقار ، ثم قال صباغ : " ان الانسان ياخذه الحياء عندما يقول هذا ( وكان قد فرغ من النظر الى القطعة ) ان وجودنا ضيق حتى ان البقة تجن فيه جنونا ، نعم رديئة هى حياتنا ، رديئة - هذا لا ريب فيه ، ثم سكت فجاة وقد عارضه احدهم واخذ يهز براسه قائلا " ان النفس فى بعض الاحيان لا تهتم بالعمل فالايدى تحذق عملها لكن الخاطر شارد فيطغي علينا القلق والصبر لا يعود يرضينا ، يقول البعض : هذا هو الانسان ، الانسان الانسان انها كلمة ملات افواههم ايها الاصدقاء ، فاى انسان يعنون ! هل " بيتان " ام " روتشلد " ام هل يعنوني انا ؟ يجب ان نتحدث بوضوح ولا نحشر الكل في كيس واحد ، لا تحاولوا ان تدخلوا بخلدى انى مثل الذى يملك نصف مقاطعة لا تحاولوا ان تدخلوا بخلدى انى اتعدت لانى خلقت لا تعذب ، انى انسان كغيري من الناس " وتزايد حرجه مما كان يعبر عنه من احاسيس ، وكان عباس لا يحسن التحدث بوضوح ، فهو ان تحدث عن شىء فان الذى يجب ان يفهم منه هو شىء آخر

وتسرب القلق إلى النساجين الذين كانوا يسمعون واخذوا ينظرون إليه نظرة حادة لا تبشر بخير ، وتكلم حمزة وانكر عليه قوله : " انسان كغيرى من الناس ؟ لا ابدا " ونظر عباس الى وجه معارضه الجهم ، وظهر عليه الحرج من الملاحظه التى جاءته بما كان يتوقعه من التكذيب ، وتابع فحص وجه صاحبه

بهيئة غريبة وقال حمزة : " ان الذى علمتنا الحياة هو اننا ناس غير الناس الآخرين " وكان يتحدث بصوت عال مقطعا الكلمات تقطيعا ، وكان رجلا كاملا قوى المنكبين جسيما قد جاوز الاربعين غير انه يحدج الناس والاشياء ببصر اشهل ضارب الى الزرقة ، حاد ، و كانت لحية كثة قد وخطها الشب تضفى عليه مسحة من الوقار الا انها تخرجه عن المألوف المعروف من الناس ، وقد ازال " شاشيته " ووضعها بقربه كاشفة عن رأسه الاصلع من الجبهة الى الرقبة .

ولا يخفى على عمر مثل غيره من الناس ان حمزة قد دخل السجن وقضى فيه اعواما كثيرة وبقى يكتنف هذا الاعتقال غموض كبير ، فلا احد يعرف السبب لذلك ، وكاد يتفق الجميع على ان السجن قد شوش افكاره ، ثم قال : " نقضى حياتنا كلها ونحن بين الانوال في السراديب " وكان عباس ينظر اليه وهو يفكر ثم تابع قائلا : " ان روحنا تشبه هذا السرداب ، ان فوقنا الاحرار وهنا العبيد ، وليس ربح قطعة " دورو " فى اليوم اكثر من العادة مما يثير اهتمام العبد . " وهمس عباس قائلا " نعم ليس ربح قليل مثل هذا يهتم به ناس يريدون ان يفروا من سجنهم ، ناس يعدون لا شئ " وكان عمر ينصت ويقول فى نفسه : نعم ان الامر هما قالوا ، غير انه لماذا يبقون لا حراك بهم كالحجارة ، وتابع صباغ قائلا : " ما قيمة المطالبة بكسرة من الخبز " وقال حمزة " ان قوما بلغ بهم الامر الى ان صاروا لا شىء ، اصفارا ، اقول مثل هؤلاء لا يمكن لهم ان يفعلوا الا شيئا واحدا . . ان يطالبوا بكل شئ " واصر صباغ على فكرته قائلا : " زيادة شئ قليل هى لا شىء ، زيادة مائة فلس فى اليوم هى لا شئ . " وهمهم الاشقر آسفا " اذا امكن لنا ان نأكل اكثر مما نأكل فان ذلك لا يضرنا " فلم ينتبه اليه احد .

وقال حمزة : ان ناسا مثلنا هم معيار لكل شئ ، معيار البلاد والشعب والعالم " وضغط الاشقر على شفتيه وحاطه بنظرة تنم على الحقد الذى يملا قلبه . وتابع حمزة قوله في لا مبالاة : " اننا نزلنا إلى اسفل السافلين ولا يمكن لنا ان نصير رجالا بالطرق العادية ، سنكون مجبرين على ان نقلب العالم ظهرا على عقب وربما ارعبناه " واخذت عباراته تخرج بطيئة اكثر من ذى قبل محجمة مدحورة وقال : " ان قدرا يهيمن علينا : فاذا اردنا التخلص منه يجب تحطيم كل شئ " واخذت عينا الحالمتان تبعثان نورا ضئيلا واصبح له صوت اجش ثم قال : " يجب صهر العالم والانسان من جديد ؟ نعم لكن قبل كل شئ يجب تحطيم كل شئ "

واحس عمر نحو اللحظة ان نظرة شهلاء بالغة فى الصفاء تحوم حوله وان شيئا اخذ خنقه ، شعورا غريبا لا يمكن التخلص منه . وخيم السكون بعد ذلك على المعمل . ولم يتم حمزة حملته فكانت منه حركة اشمئزاز كانما كنت الجو كنسا وذهب بصر النساج الى بعيد . ثم انحنى هو بدوره على نوله وانغمس فى العمل وزار الاشقر زارة وقد نفد صبرر " وصاح : " انى مريض " فاجابه شول : " لا  يظهر عليك ذلك "

قال الاشقر : انى لا اعرض شقائى على الناس - قال شول : اذكر لنا اسباب شقائك - قال الاشقر وهو يحدجة بنظرة قاسية : اشعر بالشقاء عندما اراكم جميعا كل يوم من ايام الله . احلف ان نفسى تمرض بمجرد رؤيتكم . هل تفهم هذا

- قال شول رافعا كتفيه بسخرية : اذهب الى قارعة الطريق واعزف على الناى يكن نجاحك اكبر . اما هنا فكلنا رجال جد .

فتنحنح الاشقر ساخرا وقال : انت لا تفهم . يكفيك ان تاكل وتنام و . . فاجابه شول وهو يسب : اعد ما قلت

- يا عمر هل تعرف انك تشبه فرخ دجاج سمين باضه " العرف " ! وكان " ما هى بوعنان " قد غادر السرداب وعمر يصعد الدرج ويداه مثقلتان بكبب الصوف المصبوغة والتى كان يستعد لوضعها تجف فى الساحة المجاورة وكانت السماء قد رفعت اذيال ثوبها وشمس الشتاء تسير متثاقلة وراء حجاب من السحب ، وكان حمدوش يبدع فى حماقاته بدون انقطاع . ولذلك فهو قد اثار الضحك فى النساجين . فسارت ضحكاتهم فى المعمل مدوية فى فورات صاخبة .

وقف عمر والقى بنظرة حالكة الى الاشقر وقال : " يا فرخ امه " وكان حمدوش تائر بالسبة فرد له سيلا من الشتم قائلا : " ساسحق راسك ، لبئس الراس رأس جندى اللفيف ! سترى حالك ! اذهب الان ! اذهب " فابى عمر الذهاب وتابع الاشقر قائلا : " لماذا تسمرت هناك " وانتقل الطفل فى حركة ملؤها التحدى الا ان الكلام الفاحش الذي فاه به الاشقر جعله قرمزي اللون وحدق فيه حمدوش

بعينين كعينى الضبع واخذ يقهقه . وانصت الطفل الى هذا الضحك مشمئزا ثم غاب في الزقاق وكان ضحك الاشقر يتبعه وقد تحول إلى سخرية لاذعة . وعندما رجع امسك به الاشقر بغتة من اذنيه وضرب براسه خشب المسداة فافلت عمر من قبضته وصب عليه سيلا من السباب فاصفر الاشقر وحمل عليه رافعا قبضتى يديه . فدافع الطفل على نفسه قدر المستطاع فكان يوالى ضرباته في كل وجهة على غير بينة . وقد شد ازره غضب بارد . وكان حمدوش قد غاظه هذا الدفاع فاهوى على راقبة عمر بضربة واحدة جعلته يصيح كالوحش . فصاح . النساجون : " حمدوش ! ماذا دهك . ستقتله وستقضى باقى ايامك فى السجن "

وكان عمر لم يطعم في ذلك اليوم ولم يكن نظره يتبين شيئا وكان يخيل اليه انه ينقصه محور الارتكاز . وكانت رجلاه ترتعشان فتخونانه وكان يشعر بما بجري له شعورا مريضا . وانقض على خصمة فصوت حمدوش بصوت مخنوق " اتركنى اتركنى " . وكان عمر متعلقا به ضاغطا على جوزة عنقه كالملزمة وفي فترة من الزمن خيلت له لا نهاية لها غرق فى غيبوبة كغفوة الفجر فشخر الاشقر شخرة واضطربت يداه ثم تدحرج تحت احد الانوال . وبقى عمر يترقبه فى وسط المعمل ، ومضت دقيقة واثنتان وثلاث ثم استوى حمدوش واقفا متغير اللون . فصاح الطفل بكل قواه : " يا أشقر ، يا دنتى ، يا يهودى ! " وانكب حمدوش على الطفل وقرب وجهه من وجهه وحدقتاه تنقدان شرر كالوحش . وحدق فيه عمر بدوره ونفخ له فى انفه قائلا : " يا ابن الكلبة "

وتلقى على وجهه لمعة حارة ، برقا خلبا طرح به الى الارض . لكن لم يلبث ان قام من جديد وقفر قفزة على حمدوش وبكلتايديه قبض على رجل خصمه وبحنق عجيب انشب فى عضلاته انيابه فنبح حمدوش تالما وكان عمر يتوقع ان يقتل غير ان شيئا من ذلك لم يقع بل الذى رآه بعثه على الاستغراب . ذلك ان عكاشة بدفعه واحدة ازال الاشقر الذى تراجع حتى ارتطم بالسلم وسقط جالسا على الدرج الاول ، فانفجر المعمل كله ضاحكا واحمر حمدوش احمرارا واندفع بقفزة نحو عمر وفي حنجرته تغلي اصوات غريبة متقطعة . فالتقطه عكاشه من يده فحاول الاشقر التخلص منه وامسك بقبضة عكاشة غير انه لم يتوصل الى فتحها ، فصاح : " خل سبيلى " فخلى سبيله واستوى حمدوش قائما يرتعش شاحب اللون لا يتحرك امام عكاشة ثم دار على قدميه دورة وانتفض انتفاضة وأصلح ثوبه وصعد الى نوله .

وفى آخر هذا اليوم صاحب عكاشه عمر وكانا يمشيان جنبا الى جنب والطفل يشعر بالرهبة تتطرق الى نفسه .

" ما كان كان فلا نعد اليه . لكن في المستقبل يا اخى يجب ان تسير سيرة حسنة . . اياك والخصام " وكان عمر على وشك ان يحتج ويلاحظ ان الاشقر هو البادى . الا ان عكاشة اتم كلامه قائلا : " . . والا فانى انا الذى ساؤدبك احسن تاديب ! فحذار " وكانت عينا عكاشة تلمعان سرورا وقد سر الطفل فى اعماقه من نظراته الحارة العطوفة . وعدل عن بسط شكواه .

" يا اخي ! لا تخالط كثيرا عملية السرداب . انك تندم " وكان الطفل لا ينبس ببنت شفة وبقيا يسيران هكذا طويلا . ثم وقف عكاشة وقال له ضاحكا انه صاحبه الى مكان بعيد نوعا ما ثم قال : " لا خطر الان فى ان يقطع الاشقر عليك الطريق " وتابع قائلا : " انك دخلت المدرسة ولا بد انك تعرف الشئ الكثير . وكان ينظر الى عمر نظرة غريبة وقال : " نعم انه من المؤسف ان يكون العمل فى معمل للنسج . ان حرفتنا لا قيمة لها . انظر حالتى انا . انه اقصى ما يمكن ان تكون يوما ما بدورك . انتظر انك ستبقى هكذا الى آخر حياتك فتفكر قليلا وستفهمنى " وعاوده الابتسام الا انه كانت على وجهه فى هذه المرة مسحة سوداء .

وقال " انظر مثلا صقالى : فانه لا يحسن الا اعمال الاطفال رغم انه انهك قواه امام النول . انى اتمنى ان اموت قبل ان اصل الى ما وصل اليه يجب ان تتعلم شيئا اخر يا اخى . وعن قريب كل شىء سينجز بالالة ولن تمضى عشر سنوات حتى لا يوجد ولو نساج واحد سترى هل انا على صواب ام لا " وافترقا .

وكاد الليل ان يخيم على الكون وكانت الريح باردة تهب من الشمال وتفرس الجو . وكان رذاذ من المطر يجلد المدينة فى كل حين وان كف المطر فالسماء المتراكمة سحابا اسود بقيت تنذر بالخطر وكان عمر لا يسمع لا الفرح يغرد فى نفسه كانه عصفور مختبئ . ولم يكن لانذارات عكاشة الا وقع خفيف فى نفسه لم تترك اى اثر

وفي الغد اقترب عكاشة منه ووضع يده على كتفه وقال : " لا باس عليك اليوم ؟ هل هدأت "

فهمهم عمر عبارة مهموسة وهو متحرج الا انه كان فرحا فضحك عكاشة وقال : " حسنا "

كان عمر منكبا على عمله وكان السرداب يطن فى حركة خفية دائبة تنتقل بين ركام غريب من الانوال والمغازل والحلالات وكان ينظر الى الظلال التى كانت تشوه وجوه النساجين وكانت الساعات تتوالى متماثلة سوداء تضفى على السرداب ضجرا لا تقشع فيها . وكانت المكوك تصر والامشاط تصطك

وبعد اسابيع قليلة من الركود فى السرداب اقتنع الطفل بالجد الذى يكتنف حالته الجديدة . فهو يقدر الان مدى المجهود الذى يقوم به . وقد دخل بجهد في واقع افسح واعمق . وكان هذا الواقع يهيمن عليه غير ان نوعا من الرضى تولد عن اتقانه لعمله وقد غمره بلا عنف ولا ضجة وهو يحمل فى شعور خفي بالجد الذي يتملكه آخر كل يوم . وحتى صرخات " عينه " اخذت تقل فهي ما زالت توبخه او هى تظهر ذلك غير ان شيئا غريبا سحريا اخذ يكتنفها .

وفي كل سبت كان يرجع الى المنزل وفي جيبه عشرون فرنكا وهي اجرته وكان يضع هذا المال في يد امه وهى تتمنى له هامسة وفى نفس واحد : " لتكن السعادة حليفتك . احسنت ايها الاب الصغير ! " وكان يخلص الخيوط المتمردة ويفكرون في ذلك الحين وصله لحن رقيق عذب من قعر السرداب يقول : " يا اميمة يا اميمة ، يا امي الصغيرة " وارتعش عمر كأن الجو قد برد فجأة وكان " زباش " هو الذي يغنى بصوت خافت . وشيئا فشيئا ملىء السرداب بلحن هزج رقيق لا تزيد قوته على صرصرة الصرصور ، وتبعه لحن اخر ثم آخر . . وكان الصوت يتحرك كالرقاص كما يتحرك خيط من دخان فى سماء شتاء بارد ، وكان " زباش " وهو يجهد نفسه في مدة صوته لم يلاحظ اهتمام من حوله به . وكان وجهه يلوح من بعيد جامدا كوجه محتضر ولا يبعد ان يكون هو نفسه غير عارف بالسبب الذي من اجله اخذ يغنى . ثم بدا يتنفس بصعوبة وينقطع عنه النفس من لحظة الى اخرى ثم قال وهو يتهد : " اه " وتوقف عن الغناء واغلق عينه وخيم صمت ثقيل كأنه الرصاص غير ان الطفل فى عزمة ميئوس منها حاول محاولة اخرى وانبعث صوت

عذب رقيق في ظلمة السرداب الثقيلة ، كل هذا ولم يجرؤ احد على الكلام . ومرة اخرى فى غير قوة تلاشى اللحن فهمس الطفل " لا حيلة لى على ذلك " .

واذا بصوت " شول " الغليظ يقطع الصمت ويقول : " يا زباش " فاجابه الطفل : " ماذا تريد "

قال : " هل تريد ان نسكر الليلة " آه انى اريد ان امتلىء خمرا آه ! ايها الرفاق الاخيار وكأحسن ما يكون وكان الآخرون ساكتين كأنهم اطياف خرساء قد تملكتها حركة قلقة . وقال " شول " كأنه يتعته السكر : " اى اخى " وتفوه بكلمات غريبة

- هنا بالضبط من غير ان تتحرك . وتمطق زباش طويلا واردف بانات غير مفهومة : اوه - اوه

- وقال حمدوش ان روح زباش مريضة ايضا - فقال " غوطى لا مين " بشدة : " انك تفسد عليه روحه " ونظر اليه شول شزرا وكشر عن لثة ضاربة الى الزرقة وقال : " اى ضرر فى ذلك : أفلا مجال للهزل "

واحتج مصطفى رزاق بصوته الاغن : " انه لا يمكن ان يلحق ضررا بالروح ؟ كيف يتسنى افاد الروح فهى كهذا النور " والقى بنظرة الى المصابيح المضاءة المتدلية من خيوطها .

وبعد فترة الراحة هذه استؤنف العمل في صمت . وتحامل النساجون بمراج حاد على الانوال كانهم خرس . ولاحظ عمر عينى شول تلمعان سرورا وتبدو منهما سخرية لاذعة وقد اثقله العنف القلق الذى كان يجوب المعمل . واحس كأن شخصا من اشخاص الاحلام المزعجة متعلق بكتفيه وقد غاصت فيهما مخالبه الحديدية . وكانت فى ذلك الحين تمر كل لحظة فى بطء مريع ورقت حتى الى شفتيه رغبة خانقة فى الصراخ معبرا عن حقده لهاته الحياة .

- هذا " العرف " قد اقبل ايها الاخوان ! وكان زباش هو الذي اعلن مجيئه لانه كان دائما يترصد كل ما يجرى في

الخارج . وفعلا فقد ظهر العرف بعد قليل في اعلى الدرج وتمادى العملة في النسج الا بعضهم فقد رفع راسه فى تردد ثم رجع الى عمله فى حركة جنونية . وكان اضطراب هؤلاء الرجال وخشيتهم امام العرف يحزن القلب وسال العرف " ما هى بوعنان " وفى لسانه لوكة قائلا

" نحن شجعان . ابنائى ! هلموا ايها الاطفال الشجعان ! ليسرنى ان اراكم تعملون "

وتابع قائلا باسلوب فاجأهم به " حقيقة لا يستحق شئ في هذه الدنيا ولا انسان ان يحزن من اجله . فلا فائدة فى الهم كل شىء فان

وحرك يده في ارتخاء وفاه بحكم غامضة فلسفية او اخلاقية ، لا ادرى وبقى ناظرا امامه كأنه يحاول ان يتذكر شيئا ثم أشار اشارة خاطفة وفي لهجة قاطعة . قال :

" استمروا . ان العمل خير من كل شئ . واثر هذه الكلمات ارتقى درج السلم ورجع مثلما اتى مستقيم القامة ثقيلا تنبئ كل خطوة يخطوها عن نبل لا ريب فيه ، فقال الاشقر ساخرا : " ان العرف ثمل " فغمغم شول " هو مملوء غباوة "

" عن مجلة الاداب الفرنسية عدد ٦٩١ "

اشترك في نشرتنا البريدية