الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

السوال

Share

. ١١ الى منذ مدة ونحن فى قريتنا حيارى تنهش أفندتنا الحيرة وتنخر عقولنا المتعبة الاوهام والوساوس . لم نعد ننام ملء جفوننا ولم نعد نأكل بشهية خبز الشعير والتمر واللبن . ولم نعد نقبل على لعبة " الخريقة بنفس الحماس الذي كان يلتهب فى نفوسنا

أصبحت الشمس عندما تغيب تبعث فى أعماقنا أشياء حزينة بائسة بعد أن كانت بأشعتها الحمراء على أعالي منازلنا الطوبية تبعث فينا الامل في انتظار يوم جديد أكثر سعادة وهناء أصبح لسمرنا فى الليالى المقمرة طعم لا نستسيغه بعد أن كان شيئا نتلهف اليه كل ليلة لنستمتع بحكايات " راس الغول " و " الجازية الهلالية " ونفرغ ما فى صدورنا من اشجان وهموم .

منذ ثلاثة أيام والسؤال المحير يدور فى أدمغتنا كالوجع سؤال يطرح فى كل مكان فى دكان الحلاق فى حلقات لاعبى الخريفة فى المقهى الصغير . سؤال يلقى فى كل مناسبة وفي غير مناسبة ولا نجد له جوابا شافيا ينيا السبيل ويزيح كابوس الحيرة والحزن عن أفئدتنا المضطربة وعقولنا المتعبة

لماذا حبس المعلم عبد النبى نفسه فى البيت ؟

قد يبدو هذا السؤال بسيطا وسهلا ولكنك اذا حاولت أن تجد له جوابا فشلت فشلا ذريا ورجعت خائبا وقد داهمتك فلول الحيرة فتوقن انك أم لغز عويص الحل غامض كغموض الغريب الذي يجيء قريتنا زمن جني التمور .

لنبدأ أيها السادة الافاضل من البداية ربما تفهمون ما خفي من الحكاية فى ذلك اليوم كانت السماء مغشاة بسحب خريفية رمادية وكانت قريتنا هادئة بين احضان الواحة الحبلى بعراجين الدفلى الجو ساكن والهواء ندى

وفي بطحاء القرية كان هناك بعض الاشخاص فى يوحى بنزول الغيث وفى بطحاء القرية كان هنا تتظار قدوم الحافلة وقد ارتدى بعضهم قشابة لاتقاء قطرات المطر المنتظرة . هؤلاء الاشيخاص في الحقيقة ليسوا بمجهولين : هناك الاخضر الفمراوي ، وهو زاهب إلى صفاقيس رفقة ابن عمه قدور لاجراء فحص عند اختصاصى على اذنه التى ما فتثبت تؤلمه منذ ثلاث سنوات ويجلب بالمناسبة بعض المواد الكيمياوية للقضاء على دودة الارض والاعشاب الطفيلية فى بستانه ، وهناك أيضا حميد المروكى ، قيل إنه سيرحل الى العاصمة ليشتغل حارسا لبعض المؤسسات هنااء أما سفرة مصطفى بوزيان وهو كما يدعى من قدماء المناضلين فقد بقيت مجهولة لحد الآن رغم أن بعض الشائعات تروج أن سفرته هذه تهدف الى الاتصال ببعض المسؤولين للحصول على منحة شهرية وقطعة أرض من أراضى الاحياء الجديدة بأطراف القرية

في فى الناحية الاخرى من البطحاء كان حمه الهامل " ناشطا فى هذه الآونة كان ينظر إلى السماء تارة وقد وضع يده على أم رأسه وتارة يتفرس فى وجوه المارة مبتسيما ثم مقهقها وفي بعض الاحيان يغم بكلام غامض ويتقدم نحو احدهم ويطلب منه " دورو " فيتخرج هذا الاخير فيدخل يده الى جيبه ويقدم له قطعة نقدية صفراء فيتفحصها حمه الهامل جيدا ثم يرجعها اليه طالبا منه بالحاح " دورو ويعثر عليه الاطفال فيتحلقون حوله ويدورون مرددين ضاحكين : الهامل سروال مايل وتمتد الايدى عابئة بموضع ما من حسده فيحاول التخلص منهم مهددا بقبضته عاضا على لسانه ولكنهم لا يحفلون بتهديده ووعيده فيستمرون فى عبثهم وعندما يفشل فى التخلص منهم برفع عقيرته بالصياح مستغيثا بحموده الحلاق فيجئ هذا الاخير مسرعا وموساه فى يده وحين يراه الاطفال يفرون تاركين حمه الهامل وهو يحاول ستر عورته

وتراءت من بعيد الحافلة وهي تتقدم مثقلة كوزة سارحة فاستدارت الاعناق واتجهت العيون الى جهة الشرق واقتربت الحافلة وعلى سطحها رزم واكياس واقفاص الجديان وأشياء أخرى وراءها سحب من الغبار ولما وقفت نزل بعض الاشخاص متعبين وصعد آخرون . . ولما غابت من جديد حبلى بكتل المتراص خيم السكون على المكان ولم يبق فى البطحاء الا رجل طويل أخذ يجول بنظراة هنا وهناك ثم تقدم نحو دكان حموده وتكلم معه بضع كلمات ثم رجع الى مكاة وحاول حمل ادباشه الكثيرة ولكنه عجز فى هذه الآونة كانت قطرات المط بدأت تنزل رذاذا فسمعت أصوات الاطفال يهزجون بانشودة المطر .

" يا نو يا خالتى " صبي على قطايتي " " قطايتي ذهب شي لدار خالتى الكعب

خرج حموده من دكانه ونادى حمه الهامل فجاءه كاليربوع المبلل فطلب منه أن يساعد الرجل على حمل أدباشه وغمزه بعينه وفرك ابهامه بسببه خفية فتهلل وجهه وانطلق الى مهمته خفيفا كالارينب .

فى اليوم الموالى كان خبر وصول المعلم عبد النبى قد انتشر فى قريتنا كلها كما تنتشر النار فى الهشيم

كل من في قريتنا صار يعلم الآن أن المعلم عبد النبى قد وصل وسيباشر عمله بالمدرسة الصغيرة

ابتهجت قريتنا كثيرا حيث اننا منذ مدة طويلة ننتظر فتح المدرسة ذات الفصل الواحد ووصول المعلم وها هى احلامنا تتحقق وآمالنا تزهر .

فى كل يوم يركض أطفالنا الاميال العديدة للالتحاق بمدرسة القرية المجاورة يذهبون فى الصباح وقد اخذوا معهم ما يلزمهم من طعام ولا يعودون إلا مع الاطيار العائدة الى أوكارها متعبين مجهدين .

منذ اليوم الاول الذي نزل فيه قريتنا أحببناه بصدق وعفوية رغم أن فى عينيه أشياء غامضة وحزينة يكتمها .

ش ١ يقول حموده الحلاق : " فى بعض الاحيان يزورونى فى حانوتى فيجلس هادئا وعلى شفتيه ظل ابتسامة حزينة . اسأله عن أحواله وعن علاقاته بتلاميذه الجدد فيجيبني باقتضاب ويصمت . وعندما افرغ من اشغالى اجلس حذوه واخرج علبة السجائر واقدم له واحدة فيجذب منها نفسا طويلا ينفثه في الهواء ببطء .

كيف وجدت قريتنا ؟ - بسمة الفجر اللطيفة تطل من نافذة الحلم على وجه الزمن المغبر - هل أنت سعيد بين ظهرانينا ؟

- سعادة الشحرور الفار من قيود الحضارة إلى الآفاق الواسعة

١,٤ كان دائم الصمت لا يتكلم الا اذا وجب الكلام فى الاول حسبناه كارها للعيش معنا ولكن تأكد لنا العكس اذ انه هو الذى طلب من الوزارة نقله الى القرية .

كالطائر المسكون بالاشجان كنا نراه يسير فى شوارعنا الضيقة وغالبا ما كنا نراه يتحول فى الواحة الساكنة يمشى ببطء واضعا يديه فى جيوب سروال الباهت اللون

٢ في الطلاق قال لذكرنا بن جارنا عبد الكريم الملاخ وهو يحدث آباه فى حانوت الحلاق قال " يا أبي منذ أول يوم دخلنا القسم مع معلمنا الجديد تعلمنا أن نحب الالوان الهادئة اللطيفة لانها تتكلم بصمت وبدون ضجة لتقول اشياء رقيقة فى غاية الشفافية والسمو ، تعلمنا أن نعشق الازهار البرية ونعطف على العصافير فنرمى لها الحب وفتات الخبز " .

من يومها تأكد لدينا أن المعلم عبد النبي يحمل فى داخله قضية . . قضية ما تثقل كاهله وتجعله كنورس جريح يصارع العواصف ليصل الى الشواطى الدافئة

الزمن هنا فى قريتنا يتمطط ويطول وكل الاشياء تمر رئيبة حتى تفقد نكهتها وطعمها إلا المعلم عبد النبي هذا الشخص الطويل كتلابيب أمسية شتائية حزينة ذو الوجه الباهت لونه الواعد بأشياء غامضة فانه يظل لغزا مستعصى الحل مفتوح المصراعين لجحافل الليل المجهولة كل من فى قريتنا فهمناه جملة وتفصيلا إلا هذه الشخصية المتجذرة فى تخوم الحيرة

" لكى نتفاعل مع الاشياء لا بد أولا من فهمهما فهما دقيقا " .

انطلاقا من هذا المبدأ حاولنا بكل الطرق والاساليب أن نستدرجه فى الحديث ليفتح لنا قلبه وليجكى لنا عن نفسه وهمومه ولكنه فى كل مرة يردنا خائبين حائرين بأجوبته الضاربة فى أعماق المطلق

المعلم عبد النبى هذا الشئ المفتوح المغلق

لم نر له شبيها فى أهالى قريتنا إلا فى مسعود الصامت هكذا يحلو لنا أن نسميه لكثرة صمته وانشغال الدائم وكثيرا ما اتهم بالجنون والبلاهة فالمعلم

عبد النبى ومسعود الصامت يشتركان فى الصمت والتأمل وكثيرا ما نراهما يمشيان سويا وقطيع الماعز أمامهما وسحب الغبار ترتفع عند المؤخرة وعند وصولهما الى ساحة القرية يودع المعلم عبد النبى صديقه بكلمات مقتضبة ويمضى بينما ينهمك الآخر فى تشتيت القطيع على الازقة والشوارع .

اليوم تمر ثلاثة أيام دون أن نرى له وجها ثلاثة أيام وأط ي وجهها ثلاثة أيام وأطفالنا يذهبون  الى المدرسة ويعودون وفي عيونهم الصغيرة تساؤلات وأشياء حزينة ثلاثة ايام بأكملها لم يحضر بالمدرسة نحن فى الحقيقة لم نتعود على غيابه ، حتى - حبيب ، حسى فى أشد حالات مرضه فكان يتحامل على نفسه ويقوم بواجبه كاملا . لقد قال ذات يوم : " هؤلاء الاطفال يحتاجون الى عناية فائقة ثلاثة أيام لم نر وجهه بصافحنا بطيبته وببراءته المعهودة

سألنا عنه كل الناس فما ظفرنا بجواب يريحنا سألنا حموده الحلاق فأكد لنا جهله التام باختفائه وسألنا الراعي مسعود فحرك رأسه علامة النفي ولم ينبس ببنت شفة وظل ينظر الى الافق نظرات طويلة نظرات صوفي يستلهم من السماء معانى الحقيقة والاسرار الكبرى .

اجتمعنا فى حانوت حموده الحلاق والحيرة تكاد تفتك بنا والاسئلة الموجعة تدور فى رؤوسنا المتألمة .

سم . ٠١ - قد يكون ذهب الى أهله لزيارتهم .

- مستحيل فدكانى مفتوح طول النهار فلو ركب الحافلة أو أية سيارة أخرى لرأيته

غص الحانوت بنا فخرجنا إلى الساحة ثم اتجهنا رأسا الى منزله فوجدنا بابه مغلقا وقفنا ننتظر بدون جدوى وضعنا آذاننا على الباب ربما نسم حركة أو صوتا داخل المنزل فلم تسمع شيئا تعبت أرجلنا من الوقوف فاعترانانا اليأس جلسنا على الارض صامتين .

الحاغ ولاية : ١٣٠١١ جاء حمه الهامل من آخر الشارع مهرولا وبعض الاطفال يلاحقونه فلما وصل قربنا تراجعوا عنه وانصرفوا أخذ يحملق فينا الواحد بعد الآخر مبهوتا من صمتنا وسكوننا تلهى بعض الوقت بأكل تمرات وضعها فى حجره وبعد أن أتى عليها جذب قميصه الى فوق ليمسح فمه فظهرت عورته اقترب م احدنا وطلب منه " دورو " فلم يجبه فتوجه الى غيره فلم يجبه وظللنا صامتي وفى أفئدتنا تفرخ الحيرة القاتلة غم بكلمات مجهولة ثم أطلق قهقهة طويلة وابتلعه طريق الواحة .

قال على السائح المؤدب ساخرا : " لقد سمعت بعض الشائعات تقول : إن المعلم عبد النبي يقرأ كتب السحر والتعاويذ والشعوذة كذبت أول الام ولكنى رأيته بهذه العين التى سيأكلها الدود يحمل كتبا كبيرة مجلدة ، انها كتب السحر ولا شك ، انى اعرفها جيدا ، ولكن الساحر لا يفلح ، اجيبوني الآن ، أين ذهب معلمكم هذا ؟ قد يكون فى قلب الصحراء حمله عفريت هنا وقد يكون فى تخوم الارض سجينا عند المردة ، ماذا تنتظرون من شخص امتهم السحر ؟ لقد علم اطفالكم ايها الجهلة الميوعة والجنون والبدع " .

انغرست كلمات المؤدب فى قلوبنا كالابر الموجعة فى الحقيقة ما صدقنا هذا الكلام ولا أعرناه أهمية اننا نعرف جيدا حقده على المعلم عبد النبي ١١ . فمنذ أول يوم وضعة وهو يشهر به وبأساليب التعليم الحديثة ويتهم المدرسين بابتعادهم عن الدين فتجاهلنا قوله وما اصغينا اليه

رابنا أمام الباب في انتظار شئ ما يزيح الكابوس عن قلوبنا المكدودة ويجلى الاوهام عن عقولنا المتعبة الدنيا كلها حائرة حزينة لم يعد لها طعم تستسيغه أين أنت أيها المعلم عبد النبى لقد شغلت عقولنا وحيرت أفكارنا ؟

تركنا أشغالنا وواحتنا وها نحن امام بابك تدق فى قلوبنا نواقي الالم والمكابدة فمتى تنجي لحظات الوجع الممتد فى عتمة الجرح ؟ عيوننا أرقها النظ الى هذا الباب الواقف بشموخ يحجب الحقيقة . قلوبنا تنغرس فيها مخال الحيرة المنتشرة كالسرطان المرعب

وقف أحدنا فاتجهت كل العيون اليه وقف لحظات ساكنا كالجلود ثم تجه ببط نحو الباب المغلق دون أن يتلفت الينا وقف أمام الباب برهة طرق لباب مرة مرتين ثلاث توقف الطرق انتظرنا شيئا ما . . انتظرنا ساعة ساعتين ثلاث اربع . . اجتاحتنا اعاص اليأس من جديد . وقفنا صامتين كجذوع اشجار مسلوبة الاوراق تحركنا راجعين فى حركات بطيئة رتيبة وقمر شاحب اللون يحتجب ببطء وراء غصن شجرة النبق العتيقه . ؟

اشترك في نشرتنا البريدية