1 ) الشعراء نقدة :
ان من عادة الشعراء ان يكونوا نقادا وهذا أمر طبيعي فى البشر لان الرجل يقول الشعر أولا ثم يرجع البصر فيتساءل عما قال ليفهم ماهية الشعر وليعلم قيمته . ويستمر فيقارن شعره بشعر غيره . فالشاعر حينئذ منشد من جهة قارئ من جهة اخرى يعيد قراءة قصائده كأى قارئ آخر ويستمع لشعر الآخرين فيستجيد ويرذل وينقد وينصح
وكذلك كان أبو القاسم الشابى . فالشابى رجلان : رجل قال شعرا وأنشده فنشره وهو الشاعر ورجل قرأ ذلك الشعر ونسخه واعده للطبع وقابله بغيره وهو الناقد . ألم يكتب يوم 1933/12/19 " أما الآن فانى انتخب القصائد التى سأنشرها فى الديوان وأجمع تواريخها لارتبها على حسبها. وان قسما كبيرا مما نشر لى لا أريد نشره لأنني أراه لا أهمية له : اما فى روحه أو فى اسلوبه . ولاننى أرى فيه سذاجة كسذاجة الاطفال ابتسم لها الآن واعحب لنفسي كيف سولت لى نشره فى حينه . ولكن هي الايام ... " فالنشر وترك النشر والاختيار والاسقاط من الديوان كل هذا طريقة من طرائق النقد متبعة فى كل عصر وعصر وهو ما يسمى نقد المجلات التى تنشئ هكذا مدارس أدبية . وهذا النقد قد اتبعه أبو القاسم ازاء شعره نفسه .
2 ) من المحاضرة إلى الديوان :
غير ان للشابى نقدا قبل تنظيف ديوانه يوم قام فيفرى 1929 محاضرا عن الخيال الشعري عند العرب . فأول شئ نراه عندما نقابل بين الخيال
الشعرى والديوان هو ان الشابى يهدم فى الخيال التراث الذي يبنى عليه فى الديوان فهو يستغل في أغانى الحياة تراثا ثقافيا انتده ورفضه فى الخيال الشعرى .
والشئ الثاني هو أن المحاضرة لم تلبث أن طبعت وبيعت بواسطة الاكتتاب او الاشتراك : سنة 1929، في تونس المحتلة ، وفي بداية الازمة الاقتصادية العالمية ، كتاب عربي يطبع ويباع في ظرف 8 أشهر انها لمعجزة حقا . بينما يبقى الديوان نسيا منسيا أو يكاد ( او لم يتفضل علينا وعليه أبو القاسم كرو) الى سنة 1955 أعنى احدى و عشرين سنة بعد وفاة الشابى وستة وعشرين عاما بعد الخيال . وانه لمن النقد الادبي أن نتساءل لماذا نجح اكتتاب الخيال بسرعة مدهشة سنة 1929 ولم يتم اكتتاب الديوان قط رغم جهود الشاعر اذ يكتب للحليوى ( جوان 1934 الرسائل ص 153 ) : " قد خبت كل الخيبة من ناحية الاعلان عن طبع ديوانى بالاشتراكات فلم يجبني من أصدقائى ومعارفى الا القليل النادر " .
فلماذا يا ترى أقبل الناس على الخيال وزهدوا فى أغانى الحياة ؟ لامر ما ولحاجة فى نفس يعقوب ! ولربما تصفية حساب له خلفيات اجتماعية واقتصادية وسياسية يجب ان تدرس.
فانا نرى زين العابدين السنوسى مثلا يتكلم عن قلقه " وانكماشه " وصدمته " بعد المحاضرة ومن جهة اخرى يصفق لها ويقدم لها ويطبعها فى مطبعته. فهو يكتب : لما سمعت هاته المسامرة لاول مرة خرجت من قاعة الاجتماع مهتم العقل اكثر مما كنت منبسط النفس . بل يمكنني أن أقول انى خرجت من تلك الجلسة منكمش النفس واجفها مع انى كنت ممن صفقوا لاكثر مقدماتها والمعجبين بدعاماتها ولغتها الشعرية الصريحة " ثم يعود بعد ذلك : " أقول انه خير لعواطفنا ان يصادمها أبناؤنا بأقلامهم "
* أجل ولكن على من يعود الضمير فى " بأقلامهم " ؟ على " أبناؤنا فلذة أكبادنا مثل ابى القاسم وانداده الابرياء البررة او على الغائبين تبعا لجدلية " نحن " و " هم " فى كل مجتمع من المهاجرين والانصار فى المدينة الى المسلمين وأهل الذمة الى سكان العاصمة والافاقيين الى الزيتونيين والصادقيين ؟ ٠٠
ومن هم الغائبون ؟ العرب النصارى مثل زيدان وجبران ونعيمة ؟ العرب المجددون مثل العقاد وطه حسين ؟ الشرقيون أم المستشرقون ؟ أقلام نعيمة وزيدان أم تين ورينان ؟
* وهل كانت الرقابة التى تسلطها الحماية آنذاك محبذة لهذه الصدمة و لهذا الانبهار بالغرب ولهذا التهديم لتراث العرب ؟ فتكون الحماية رابحة من الجهتين : فهي ترى الشباب التونسى يخوض فى مسائل الادب والخيال الشعرى عوض السياسة والنقابة . ثم انها تعلم أن فى ولوع الشباب التونسى بالادب الفرنسى لتوثيقا للعلاقات وربطا للصلة فعسى هؤلاء الشبان المعجبين ان يصيبوا أصدقاء مخلصين لفرنسا واثقين من تفوق ثقافتها وكمالها متعلقين بها إلى الابد ، ولذا لم تر السلطة الفرنسية مانعا من نشر الخيال .
* وظاهرة اجتماعية اقتصادية : إذا كان النثر يجد من يشتريه فقلما يباع الشعر . ولئن بيع هذا النثر فلربما لان فيه أفكارا ثورية تهجمية . ولئن كسد الشعر فلربما لانه عديم أو قليل الافكار الثورية والطرق التهجمية . وهذا باب مفتوح للتعمق والبحث فى نقد الشابى.
* ثم ان الديوان قد يكون ذهب ضحية آراء صاحبه فى ماهية الشعر وصناعة الشعر . وهنا ينفتح أمامنا باب للمناقشة على الاقل : أغراض الشعر وفنونه - نشره فى الصحف السيارة أم لا .
ان الشعر العربى مغروس متأصل فى الثقافة العربية فله قواعد خاصة وفنون خاصة وأغراض خاصة . وان من قواعده أنه فى أوله جعل للانشاد لا للتدوين وللرواية لا للطباعة . وانما يكون الانشاد فى المحافل والمواسم والاجتماعات والاعياد . فان أنت رفضت هذه الحفلات رفضت عاملا من عوامل سيرورة الشعر . وان من فنونه واغراضه المدح . أجل ان الشاعر يستطيع ان ينبذ المدح وعند ذلك يجب عليه ان يحترف حرفة أخرى يرتزق بها غير ان الناقد لا يحوز له ان يرفض بابا عظيما من أبواب الشعر العربى ولا أن يحتقره ويرذله وخصوصا إذا كانت له دعامة اقتصادية قوية .
ولقد أقبل الشابى في جويلية 1932 ( الرسائل ص 75 ) يسخر من الحليوى اذ اصبح الحليوى " شاعرا مداحة " يسف بمواهبه ونبوغه الى مثل هذه السخافات والمحقرات " وينزل الى النشر في جريدة " الوزير " .
3 ) تكوين الشابى : - عمل الاسرة : ننطلق من اهداء الخيال الشعرى عند العرب لوالده الشيخ محمد بن بلقاسم الشابى سنة 1929. يخاطب الشابى أباه : أقدم لك
" صفحات توخيت فيها صراحة الصدق وجمال الحقيقة " ونقف عند اعتناء أخيه الامين بنشر اغانى الحياة سنة 1955 فى مصر " أيام كان العالم العربى يتعثر بن حاضره الاليم وماضيه القريب المنقوص " حتى نصل الى يومنا هذا سنة 1984 اذ يقوم الاخ عبد الحميد معتنيا بآثار أخيه .
نرى فى هذه المراحل الثلاث ظاهرة اجتماعية تهم النقد فى تكوين الناقد وتضاف جهود الاسرة الشابية وأصالة ورسوخ فى اللعة والادب والوطنية . قام الشابى للحق يدعو اليه لان اباه علمه " أن الحق خير ما فى العالم وأقدس ما فى الوجود" فتوخى فى كتابه " صراحة الصدق وجمال الحقيقة " . اننا لا نشك فى صدقه ودعوته للحق واننا لم نر منه ما يريبنا واننا نشاهد وحدة فى التكوين العائلى بالصدق في القول والاخلاص فى العمل . ان للشابى فى الخيال كل المعطيات ليبنى فاذا به يهدم شغفا بالغرب وانبهارا بأروبا .
- بعض الآراء الرائجة عندما نقرأ المحاضرة ثم مقدمة السنوسى ثم الرسائل المتبادلة بين الشابى والحليوى نجد عناصر قارة وأفكارا موحدة . فيقول السنوسى مثلا اذ يصف النقص الموجود في الادب العربى المعاصر : " و اذا كتابنا يهتفون بنا : فلنترجم !" مستعملا هكذا عنوان مقال شهير لميخائيل نعيمة فى الغرب ( 1923 ) . يطرح نعيمة من خلال النقد الادبى مشكلا حضاريا مازال قائما الى يوم الناس هذا . لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم ؟ وكيف الالتحاق بالغرب أبالترجمة أم بتعلم اللغات الاجنبية ؟ أما نعيمة فلا يتردد فى الجواب ويدعو الى الترجمة اذ يرى العربى فقيرا جائعا عطشان وليس عليه بمحرم أن يستعطى وان يأكل من خبز غيره وان يلجأ الى بئر جاره ليروى ظمأه . وان له لافكارا توافق أفكار الشابى أو ربما أثرت فيها فيقول فى الغربال ص 126 : " نحن فى دور من رقينا الادبى والاجتماعى قد تنبهت فيه حاجات روحية كثيرة لم نكن نشعر بها من قبل احتكاكنا الحديث بالغرب . وليس عندنا من الاقلام والادمغة ما يفي بسد هذه الحاجات فلنترجم ! " فالترجمة تفتح دنيا جديدة وعالما واسعا " فنعيش - حسب نعيمة - بأفكار هذا العالم وآماله وأفراحه وأحزانه " والسلام .
وعندما يقول نعيمة " فلنترجم ! وعندما يتساءل " فلماذا لا نسد حاجاتنا من وفرة سوانا ؟ " أو " فلماذا لا نرتوى من مناهل جيراننا ؟ " ويؤكد حالنا " ونحن فقراء وان كنا نتبجح بالغنى والوفرة " يجيبه طه حسين فى حديث الاربعاء ( 1923/1/17 - ج 2 ص 36 ) : " ويكفى أن تقرأ عصر بريكليس
وأغسطس ولويس الرابع عشر لتفهم عصر الرشيد والامين والمأمون " وفى الاربعاء 1923/1/31 ( ج 2 ص 53 ) : " سل سانت بوف ينبئك . . " لفهم ابى نواس على ضوء القدماء والمحدثين وسانت بوف توفى عام 1869 ولم يفهم معاصره وابن بلده بودلير . وفي الصفحة نفسها يكرر لنا طه حسين " سل تين ( Taine ) ينبئك . . " وتوفى عام 1893 وسل جول لمتر ( Jules Le maitre ) ومن يذكر الآن جول لمتر بفرنسا ؟ ثم في الاربعاء 1923/2/22 ( ج 2 ص 66 ) : " هذه حالنا ليس لنا مجد ولا مأثرة ( ... ) وما مفاخرتنا بآثار العرب والفراعنة ؟ ضرب من الغرور نخفى به ما نحن فيه من جهل وانحطاط وضعف"
- الشابى لامرتين العرب
بينما يتأثر طه حسين بسانت بوف والشابى بلامرتين نجد الحليوى يكتب للشابى فى 1933/12/10 ( الرسائل ص 124 ) : " وجدت في مجلد العالمين الفرنسية الشهيرة نص الرسائل التى تبودلت بين لا مرتين وسانت بوف الناقد الرومانتيكي الشهير ( ٠٠٠٠ ) وكنت حين المطالعة أحس وكأن صوتا صادرا من نفسى يقول : انت فى هاته الرسالة تشبه سانت بوف وصديقك يشبه لامرتين " .
انه من الضرورى ان نلاحظ : سذاجة كلامهما وانبهارهما بأوروبا . ان الحليوى يعتبر الشابى شاعرا اكثر منه ناقدا . هؤلاء شبان ثائرون على القديم فى بلدهم وعلى الجمود وعلى الرجعية واذا مجلتهم العصرية مجلة العالمين تعتبر عام 1933 رمز القديم ( بعد ظهور مجلة ( N R F ) وبعد ظهور منشور السريالية ( Surrealisme ) وبعد ان كتب بروست كتابه ( Contre Saintebeuve )
- مشاكل التعليم
والشابى عاش ازمة اللغات الاجنبية ولجأ الى الترجمة . فهو فى كل حين يظهر انبهاره بالغرب معجبا الى حد بعيد بأدب الغالب المستعمر ويتأرجح بين مركب النقص ومركب التفوق : مركب النقص عندما يشعر انه بجهله الفرنسية " عاجز عاجز عاجز " ثلاث مرات . ( الرسائل ص 102 ) " وانه ليحز فى قلبى يا صديقى ويدمى نفسى ان اعلم اننى عاجز واننى لا استطيع ان اعلم اننى عاجز عاجز عاجز واننى لا استطيع ان اطير فى عالم الادب الا بجناح واحد منتوف" وقد كان كتب للحليوى فى 1930/6/15 ( الرسائل ص 51)
ان شهادتك "ستدعوك الى ان تداب على دراسة اللغة الفرنسية واستخراج كنوزها ونشر آياتها الرائعة بين ابناء شعبك الضائعين " انى قرأت شخصيا آيات الادب الفرنسى الرائعة وانى لاحب هذا الادب وأتذوفه وأطرب له وأتمتع بجماله وروعته ولكن لا شئ أجمل عندى من آيات القرأن المجيد .
يلجأ الشابى الى الترجمة لانها أداة تجديد ووسيلة من وسائل التجديد تعينه على ثورته على " الجمود" و على "عباد الموت" و "أمساخ القديم" وهنا بتجلى مركب التفوق بالنسبة للادب العربى القديم والشعب التونسي الراقد الملىء بأحلاس الجمود ويرى نفسه كالنبى المجهول فى " البلد القاحل " وبين "عقول الناس الخامدة" ويرى "هذه الجيف المنتنة وهذه الاصنام الخشبية التى تحتل مكانا من الأدب " ( الرسائل ص 63 ) والحق ان ذلك المكان " يجب ان يحتله الاحياء الذين يعرفون كيف ينفخون فى الشعب روح الحياة" وكيف يكون ذلك ؟ بالثورة على القديم ، تلك سنة الله فى خلقه ، وبالاحتكاك بالغرب واللجوء إلى الترجمة ، تلك سنة الغالب والمغلوب .
والمشكل يكمن فى هذا السؤال : فالى أى حد نستطيع الثورة على القديم وكيف ؟ والى اى حد نستطيع ان نلجأ الى الترجمة والارتواء من أبار جيراننا ؟
- الخيال عمل ثورى
انما الخيال فى الحقيقة نقد شاب غير راض قد سئم الحياة الثقافية فى بلاده فثار على جميع اعوان التكوين والتعليم لان له حسابا مع بعضهم يريد تصفيته ولكنه ينبغى ان نلاحظ ان شر الدراسات النقدية هي التى تمليها تصفية الحساب . "فاذا كان الحب يعمى عن المساوى فالبغض ايضا يعمى عن المحاسن " ( سهل بن هارون ) . فعدم الرضى بالحالة الراهنة فى الادب العربى والتعليم التونسى والحياة النقابية يفسر بعض التفسير هذا الهجوم على التراث وهذا الميل الى التحطيم والتهديم . ان شر الفتنة عدم الرضى . اياكم والشباب المتحمس اذا كان غير راض ، فالرجل رجلان : رجل راض يعمل ويخلق ويبدع ويكون ، ورجل غير راض يعمل ليهدم من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر . فالشابى يوم محاضرته شاب فى العشرين من عمره كله حماس وصدق ورقة شعور ولكن تكوينه تكوين زيتونى أعنى ان له كفاءة لغوية وثقافية ووطنية لا سبيل الى الشك فيها غير انه ينقصه شيئان هامان
فى نظرى : كونه لا يحسن اللغات الاجنبية حتى يضع الاشعار التى دعا الى الاعجاب بها موضعها من تاريخ الادب الغربى - كونه لم يجدد قراءته للنصوص العربية القديمة لا للشعر القديم ولا للنقد القديم . فبهرته اوروبا وشغفته حبا والناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد وليس لهم فى الموجود الراهن وفيما تحت قدرتهم من الرأى والهوى مثل الذى لهم فى الغريب القليل وفي النادر الشاذ وكل ما كان فى ملك غيرهم ( راجع وفرة سوانا و آبار جيراننا فى نص نعيمة ) . لان الغريب أبعد فى الاوهام وكلما كان أبعد فى الوهم كان أطرف وكلما كان اطرف كان أعجب وكلما كان أعجب كان أبدع ( سهل بن هارون ) أضف الى ذلك تعظيم الدولة الغالبة وتعظيم كل ما يأتى منها فانك لتلقى بوهمك على قول ممثلها من الجمال والبلاغة ما ليس فيه . ان قيمة الدولة تزيد فى قيمة أدبائها وشعرائها . وانى ازعم ان قيمة الادب والمفكر تزداد بقيمة الدولة التى وراءه بل أذهب الى ابعد من ذلك وأرى صلة بين العملة والأدب : قل لى ما هى عملتك اقل لك ما هو أدبك . فانظر إلى فيلم دالاس مثلا انما سر نجاحه الدولار وقيمة الفيلم - رواجا فى الاسواق وتغلغلا فى الاوهام - بقيمة الدولار لا بالخيال والابداع .
ان رقة شعور الشابى وصدقه وبراءته كل ذلك جعله يتأثر الى حد بعيد بكل جديد ولو كان منحولا أو منقوصا . فهو شاعر حساس يتذوق اكثر مما ينقد أو ينقد كرحل حساس كان مفطوما فى الزيتونية محروما وفتح عينيه فوجد نعيمة وطه حسين فاتبعهما فى الخطأ وفى الصواب . والملاحظ ان طه حسين بمركب التفوق ( لانه أزهرى سربونى) والشابى بمركب النقص ( لانه لا يعرف الفرنسية ) ثم نعيمة بانفتاحه للغات والشعوب والاديان يصلون ثلاثتهم الى نفس النتائج ويقفون نفس الموقف .
تلك هي تناقضات شاب متحمس : من جهة التأصل فى أسرته وتكوينه والرسوخ فى لغته وثقافته والصدق فى وطنيته ومن جهة اخرى الانفصال عن التراث والانعزال عن الشعب والمجتمع والحط من قيمة الشعر العربى وانكار الخيال عند العرب .
4 ) ايجابيات وسلبيات
يجب ان نعترف ان الشابى اصاب في اشياء وأخطا فى أشياء . لقد أصاب في لغته الشعرية وفي ذوقه العربى ولقد اصاب في وسع علمه وفى تحصيله ولقد أصاب في طموحه وتحمسه : انه ليعبر بحق عن اجماع
الاجيال اذ يصف واقعه المنقوص ويتعطش الى مستقبل أفضل . لقد أصاب الشابى عندما يقول ان الشعر الذي يعجبني ليس ذلك الذى أعجب آبائى وأجدادى . ولكنه مخطئ من ظن أن كل ما أعجب الاجداد لا يعجب الاحفاد ويصبح حتما وبحذافيره أدبا ميتا لان اللغة واحدة والثقافة واحدة والقومية واحدة ولان فى كل أدب ميزات باقيات خالدات تربط الاجيال . ولقد أصاب الشابى عندما يقول : انى اليوم حسب ذوقى وشعورى أفضل هذا النوع من الادب على ذلك النوع الآخر الذي كان صالحا للعصور الماضية . ولكنه أخطأ عندما أراد أن يعوض جمال الشعر الجاهلى بجمال شعر لامرتين وأسيان لان كليهما قديم من وجهة التاريخ ولان كل واحد منهما اعجب اجيالا ثم انصرفت عنه أجيال غير ان الشعر الجاهلى عربى والشعر باللغة قبل كل شئ لا بالخيال . انما الشعر باللغة واللغة تسلسل ألفاظ والالفاظ أصوات موسيقية لها معنى نظفر به من بعد . فكل شئ تهتز له مشاعر الانسان ويطرب له حسن عند جميع البشر غير انه لا يصح ان نستحسن ما حاد عن عبرية العرب ونبا عن لسانهم .
ثم ان الشعر الجاهلى قطعة منا لاصق بتراثنا . واذا نحن نطرب لما نطرب له ونضحك ونبكى ونغنى ونتغزل ونحب ونبغض على هذا النحو فبفضل قصائد شعرائنا وألحان مغنينا وآداب خاصتنا وعامتنا . نعم يجب الانفتاح على العالم والالتفات الى آداب الامم الاخرى ولكن يجب ايضا ان نأخذ حذرنا وان ننتبه الى العبقرية الخاصة بالامة العربية والى العبقرية الخاصة باللسان العربى .
فلماذا يقصر الشابى الشعر على الخيال ، والخيال على الطبيعة الاوروبية وعلى المرأة الرومنطيقية وعلى الاساطير الاجنبية ؟ لا لشئ لانه قرأ فتأثر بما قرأ . وليس والحق يقال بون شاسع بين ما كان يطالع الشابى في العشرينات وما يدرسه طلبتنا الآن : نقد طه حسين وتاريخ زيدان نظر نعيمة وآراء جبران . . . فأين التقدم ؟ وهذا هو المشكل .
ان الشابى المتحمس ربما كان له حساب مع " أصحاب العمائم " وكل من ساهم فى جمود الأدب العربى . فلقد أصاب بقدر ما ثار عليهم وعلى الجمود وأخطأ بقدر ما جمد الادب العربى القديم هو بدوره وسلبه "هذه الروح القوية
المضطرمة الشاعرة " اولا لان عملية التجميد في ما سماه بعضهم عصور الانحطاط قد ساهمت في صيانة التراث وحفظه وروايته وتبليغه . فعلينا الآن أن نجتهد وان نكتشف كنوز القديم بقراءة جديدة . ثانيا لان الشابى قد ظن انه سيقتنى من " وفرة سواه " كل ما يشتهى وانه سيصبح غنيا باستغنائه عن تراثه وافتقاره لتراث الجيران . والحق ان فى تراثه الغث والسمين وان فى تراث جيرانه ايضا الغث والسمين وان ما يطمع فيه من ملك الغير ليس فى القمة من الجمال ولا فى طليعة التجديد .
أصاب الشابى عندما يطالب أدبا حيا يوافق حياتنا وخطابا عصريا يتابع زماننا وأخطأ إذ فضل لامرتين على امرئ القيس لانه ينقص بذلك الادب العربى حقه ويوفر حق الادب الاجنبى يظلم الشاعر العربى ويحابى الشاعر الغربى . ولانه بدفنه الماضى " الميت " يغلق باب المستقبل فكيف نستطيع ان نشيد مستقبلا أفضل ان لم يكن لنا ماض نفهمه ؟ والحق انه ينبغى ان نبنى على الماضى وان نرمم الماضى وان نستعمل بعض انقاض الماضى . ان فى البكاء على الاطلال مثلا لمعانى كثيرة : يستطيع الراغب فى التجديد ان يرى فى "قفانبك" دعوة الى التكميل والمثابرة دعوة الى ترميم البناء المتداعى للسقوط والى احياء الماضى الذى لا يعود . واذا نحن وقفنا موقف الشابى من هذا الشعر القديم وجدنا أنفسنا بين اثنتين : اما ان نقف لنفكر ونقدر ونعتبر ثم نعيد الى الربع حياته بالعمل والكد والثبات والاستمرار واما ان نستأنف السير ونغادر الربع وننفصل عن الحى أو بعبارة أخرى ان نهاجر الى أدب آخر والى قوم آخرين .
والعمل جماعى يسير بتسلسل الاجيال : كل جيل يأتى بلبنته لبناء الصرح اما الشابى فلم يهيئه تكوينه للرجوع الى أمهات الادب العربى وقراءتها قراءة جديدة على ضوء النقد الحديث وطبقا لمطامح العصر فزهد فى بضاعتة وأقبل بشغف على صنع الخارج وبضاعة فرنسا ( وما أدراك ! ) فوقع على لامرتين وكان يستطيع ان يصادف ) (Aragon) أو (Eluard) أو ( Andre Breton)
ان الشابى أصاب فيما اراده من ادب حى يتماشى مع ارواحنا وأذواقنا واصاب في طموحه الى رفع رأس تونس عالية بين الامم بما فيها مصر "الفرعونية" حسب تعبيره ولكنه أخطأ حينما ضيق من مفهوم الشعر ( انما الشعر تنسيق عذب لالفاظ محسوسة ) وأخطأ حينما اعجب اعجابا بعيدا بلامرتين وأسيان فظلم العرب وحابى الغرب .
5 ) الشابى يظلم العرب
نظر الى الشعر العربى فوجده سخيفا هزيلا خاليا من الخيال فدعانا إلى الاستماع الى ما قرأه مترجما من شعر أسيان ولامرتين وغيرهما من الشعراء الرومنطقيين . ماذا يقول الشابى ؟ يقول : "عاش العرب فى وسط لا يعرف سحر الجمال الطبيعى . فكان الادب العربى خاليا من الشعور بجمال الطبيعة والحديث عنه الا اصواتا ضئيلة" . ثم "هل تجدون بين شعراء العربية هذه الروح القوية المضطرمة الشاعرة ؟ هذه الروح التى تنظر الى الطبيعة كلها ككائن حي يترنم بوحي السماء ؟ " ان الشعراء العرب لم ينظروا الى الطبيعة نظرة الحى الخاشع الى الحى الجليل وانما كانوا ينظرون اليها نظرتهم الى رداء منمق وطراز جميل ( ٠٠٠) نظرة فارغة "
فنقول : ان الذى بأيدينا لعلى شئ من الجمال والروعة لا تظفر به الا بتكوين آخر وعقلية أخرى لا نجدها كما رأينا لا فى نقد الشابى ولا فى نقد نعيمة ولا عند طه حسين . فلنجدد تكويننا ولنجدد قواعد النقد عندنا ولنجدد نظرتنا لفنون الشعر وأغراضه وانغرس كل ذلك فى صميم ثقافتنا وقرارة أنفسنا .
ثم هل يحل أن نفلت ما فى ايدينا لنقبض على ظل ما فى أيدى الجيران ؟ والغرب يرفضنا على كل حال لاننا لسنا منهم ولن نكون لهم اكفاء ابدا . فمن منا نال جائزة نوبل فى الآداب ؟ لا نعيمة ولا طه حسين !
أضف الى ذلك أن نقاد الغرب يكذبون " زعماء نهضتنا " الذين يشكون فى صحة الشعر الجاهلى أو في قيمته . فاقرأ ما كتبه جاك بيرك ( Juques Berque ) مثلا سنة 1979 اذ يجعل مسألة الانتحال مسالة ثانوية بالنسبة لقارئ القرن العشرين ويجعل من المعلقات أدبا رائعا مليئا بالخيال والوجدان والغناء . ان قارئ القرن القرن العشرين حسب جاك بيرك لا يهمه أقيلت هذه الاشعار فى القرن السادس أو الثامن بل الذى يهمه جمالها وقيمتها . وان القارىء الغربى ليبتهج بما فيها من لذة التنعم كما فى شعر هوراس ومن الجلال والعظمة كما فى أعمال هوميروس ومن الحكمة المريرة كحكمة هزيودس ومن التفنن مثل تفنن أريوستو . فيظهر جاك بيرك اولا ان هذا الادب ليس بميت بل هو استئناف للحياة بواسطة الذكرى والغوص على خبايا الماضي وبواسطة التنقل فى الفضاء الشاسع ويربط ثانيا هذا الادب بشعراء اليونان والرومان ونهضة ايطاليا ويرى فيه ثالثا بعض عناصر الخيال كمخاطبة الصحب فى الارض القفار ووصف الوحوش . ان المنازل قد أقفرت واذا بالشاعر يريك فيها الحياة
والنشاط والحركة والاهل والصحب والحبيب والرياح والامطار وتتابع الحوادث والمشاهد واذا أبعاد القصيدة تمتد وتتسع فى خيالك وتترامى أطرافها الى ما لا نهاية له يدعمها التجاوب بين الشاعر المنشد والمستمعين المشاركين . بماذا ؟ باللسان . باللسان العربى المبين .
أما تلك الرومانتكية التى نراها فى أيدى جيراننا ويسيل لعابنا عليها فهى فى الاصل مشتقة من سيرة بطل تلك الرواية التى يسميها الغرب ( Roman ) فهي قصة انسان ينعزل عن مجتمعه وينفصل عن قومه بشذوذه أو بجنونه أو بأحلامه وان لنا لابطالا من هذا القبيل قد يروى سلوكهم عطشنا ويغذى خيالنا من مجنون ليلى الى أبطال الاغانى الى أشخاص ألف ليلة وليلة . ثم ان تلك الرومانتيكية مدرسة من مدارس الادب الاوروبى الكثيرة فليست المدرسة الوحيدة ولا أعظم المدارس ولا أحدثها . ولئن بقى شئ من هذه المدرسة المنقرضة فليست فى نظرى تلك القصائد الباهتة فى تصنعها الغثة فى لطفها الضعيفة من كثرة رقتها بل انما هو عملها على تأصلها ورسوخها فى التراث القومى وثباتها على أهدافها القومية ان فرنسا مثلا اكتشفت بنشأة الرومانتيكية ان لها ماضيا وان هذا الماضى يجب ان يحفظ يجب ان يصان . فعملت عباقرتها على ذلك .
ثم ان الشابى قد ظلم العرب في نظرتهم الى المرأة اذ يقول :"نظرة الادب العربى الى المرأة نظرة دنيئة سافلة منحطة الى اقصى قرارة المادة . لا تفهم من المرأة الا انها جسد يشتهى ومتعة من متع العيش الدنئ . أما تلك النظرة السامية التى يزدوج فيها الحب بالاجلال والشغف بالعبادة ، أما تلك النظرة الروحية العميقة التى نجدها عند الشعراء الآريين فانها منعدمة بتاتا أو كالمنعدمة " . ( ص 72 ) فالشعراء ليسوا زهادا ولا رهبانا وما كان ينبغى لهم ان يحتقروا الجسم الجميل ولا ان ينصرفوا عن التمتع بملاذ الحياة ولئن فعل بعضهم فذلك أمر يخصه ويخص فنه وقريحته وهذا ما يتجلى فى الغزل العذرى عندنا .
أما الآريون كما يقول فما هذه العنصرية التى لا عهد لنا بها في تونس ؟ وتدل هذه الكلمة ككثير من الجمل والآراء في الخيال على أن الشابى متأثر بمذاهب النقد التى ترجع كل شئ الى العرق والسلالة الى الوسط والطبيعة الى الزمن والعصر وقد فاته أن يقرأ ابن قتيبة اذ يقول : " ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوما دون قوم بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده فى كل دهر " فلا فضل للآرى على السامي ولو فى
التغزل بالمرأة وإنه لما قام أبو القاسم يعلم : " نظر الآداب العربية الى المرأة كنظرها إلى الطبيعة او ادنى لا سمو فيه ولا خيال " ولما قام يسأل سؤاله الانكارى : "هل وجدتم بين نوابغ الشعر واحدا يقول فى المرأة مثل ما يقول لامرتين" لم يجبه احد وكان من الصالح ان يجيبه احد : نعم انى لا ابدل بيت امرئ القيس او ابيات بشار بن برد بكل ما كتب لامرتين وليس هذا من باب التعصب بل من باب التذوق والانصاف ومن باب التقدم بالمناقشة فالشابى يخالف من سبقه ونحن نخالفه . تلك هى الجدلية .
الشابى يريد المرأة روحا وقطعة فنية من فنون السماء فليذهب هذا المذهب و ليبدع فيه وفلان يراها جسما يشتهى ومتعة من متع الحياة فليذهب مذهبه و يبرز فيه فاذا أتى أحدهما أو كلاهما بشعر جميل كتبناه له وعرفنا فضله ونظرنا اليه من حيث الفن لا من حيث الاخلاق لان الشعراء ليسوا انبياء ولا أولياء ثم انه ليس بمحرم لا على الانبياء ولا على الشعراء ولا على الرسامين - أريين كانوا او ساميين - ان ينظروا الى جسد المرأة من حيث هو جسم جميل يشتهى وبعبر عن شتى معانى الحياة المحسوسة الملموسة . وهذا ما فعله الفنانون فى اوروبا ذاتها من اليونان الى عهدنا هذا بقول الشعر ورسم اللوحات ونحت الاصنام .
وفي الخلاصة ان الشابى قد ظلم العرب اذ جعل من طبيعتهم وعنصرهم البشرى عائقا يحول بينهم وبين السمو فى الفكر والنظر الى صميم الاشياء والتحليق بين الالهام والخيال . ولقد قال : وما احسب أن من عاش بين هذا الطبع الجموح وتلك الطبيعة العارية بمستغرق فى الفكر او متعمق فى الشعور وانى له يمثل ذلك والطبع العجول يحتثه ولا يدعه يتريث فى فكر او فى عمل والطبيعة الكاحة لا تحرك فى نفسه المشاعر ولا تحيى دفائن الاحساس " (الخيال ص 131 ) فهو يعيب أدبه وثقافته بما يعيبهما به أعداؤهما باوروبا .
ثم ظلم العرب اذ قضى على أدبهم بالفقر أو بالموت . فيقول تارة ( الخيال ص 105 ) " فانا اذن عندما اقول ذلك الرأى عن الأدب العربى لا ازعم انه لا يلائم اذواق تلك العصور ولا ارواحها . ولكنني اقول انه لم يعد ملائما لروحنا الحاضرة ولمزاحنا الحالى ولاميالنا ورغائبنا فى هذه الحياة ( ٠٠٠ ) لقد أصبحنا نتطلب أدبا جديدا أدبا قويا عميقا يناسب أذواقنا فى الحياة الحاضرة وهذا ما لا نجده فى الادب العربى ولا نظفر به لانه لم يخلق لنا وانما خلق لقلوب أخرستها سكينة الموت " . ويقول تارة اخرى ( ص 106 ) : " لقد اصبحنا نتطلب الحياة . . . ولكن لنعلم قبل ذلك اننا جياع عراة وان تلك الثروة الطائلة
الضخمة التى ابقاها لنا العرب لا تشبع جوعنا ولا تسد خلتنا ( . . . ) فلا خير فى أمة عارية تكتم فقرها . . . ولا خير فى شعب جائع يظهر الشبع "
6 ) الشابى والانبهار بالغرب :
واذا كان لا بد لنا ان نقتدى بالغرب فبأى غرب نقتدى يا ترى ؟ بغرب اسيان وقد انتحلت أشعاره فى القرن الثامن عشر أو بغرب لامرتين شاعر القرن الماضى ؟ فلماذا نترك قديمنا لقديم الجار ؟ ان هذا الادب الجديد الذي يدعونا اليه وهذا الشعر الحى الذي يقدمه لنا هو " طعام بايت " وغذاء القرون الماضية نستطيع ان نطبق عليه كلام الشابى فى الشعر العربى الذى "لم يعد ملائما لروحنا الحاضرة ولمزاجنا الحالى . . . " ونستطيع ان نقول فى شعر أسيان وفي شعر لامرتين ما قاله الشابى فى بعض اشعاره التى ابتسم لسذاجتها وعجب كيف نشرها .
ان شخصية اسيان ، يعلم الله ، شخصية مركبة انما خلقت لتقوية الشعور القومى الاوربى وتعزيزه خلقها الشباب رمزا وجعلها مثلا أعلى بعد فترة قلق . ينشر ماك فيرسون عام 1760 باديمبورغ ديوان شعر وينسبه الى اسيان بطل اسطورى يرتقى الى القرن الثالث . أكان شاعرا أم هل ذكرت الشعراء قصته قديما ؟ وأعاد الرواة حوادث حياته فى ديوان مخطوط من القرن الثانى عشر اكتشف سنة 1807 بعيد كل البعد عن الاشعار التى انتحلها ماك فيرسون ولكن الذى جعل القوم يعجبون بها رغم ضعفها ويجدون لذة حتى فى سخافتها ويتنعمون برتابتها ويسبحون بحمدها هو أمل شباب العصر في احياء التراث واكتشاف الابطال . فمثلها كان هوميروس جد الشعر فى شعوب اليونان وأوربا الجنوبية وجب اكتشاف اسيان الشاعر الاسكوتلندي وجعله جدا للادب والشعر فى شمال اوربا . ثم أخذ الشعراء هذا التراث فصبغوه بصبغتهم وطبعوه بعبقريتهم ونوعوه ودققوه ولم يكتفوا بالاقتداء والترجمة بل أتوا بأدب جديد يفوق الاصل .
كان أدباء الشمال كالايتام فاذا بهم يجدون فى أسيان جدا لهم فقلدوه وعظموه ثم فاقوه وتجاوزوه علما منهم ان كل أمة تحتاج الى مثال رمزى وان كان خرافيا وان كل شعر يحتاج الى شاعر افتتاحى ، اما اسيان اليوم وفى عهد الشابى فهو نسى منسى . ولئن لم تشعر المانيا مثلا انها اصبحت بفضل
( Goethe ) غنية لا عن اسيان ولا عن هوميروس فما اخال العرب قد باتوا بفضل الشابى أغنياء عن الاعشى أو عن امرئ القيس .
اما لامرتين فالشابى يعتبره في مارس 1934 سنة وفاته ( الرسائل ص 142 ) فى القمة من الشعراء يمثل فى أعمق معانيه واسمى آفاقه واجمل تعابيره " فكيف لا نبتسم لهذا وقد ظهر فى فرنسا من الشعراء مثل رامبو ( Rimbaud ) وملارما ( Mallarme ) وأرافون ( Aragon ) و ايلور ( Iuard )واندري بروتون ( Andre Breton ) وغيرهم ؟ وكيف لا نعجب من هذا وقد قال بضعن الادباء الفرنسيين فى لامرتين ما يقرب من هذه العبارة : " انه شاعر صالح لمبيت الطالبات العذارى " ؟
فإذا كان لا بد لنا أن نقتدى بالغرب فلنقتد بالطليعة وبأجد الجديد . وأمامك مدارس الرمزية والسريالية والمستقبلية وأمامك فلان وفلان من اصحاب التجديد . واذا كان لا بد لنا من ان نقتدى بالغرب فلنتيع طريقة التقدم لا المحاكاة وطريقة التجاوز لا الترجمة .
وليس الجديد حتما مرادفا للغربى ولا العصرى حتما مرادفا للأوروبى .. لشعوب أوروبا ذوقهم ولنا ذوقنا وان لهم شعورهم ومقاييسهم وأغراضهم ولنا شعورنا ومقاييسنا وأغراضنا . فقبيح بنا أن نصنع فى الادب والشعر صنعنا فى لغتنا العامية اذ جعلنا فى " الطريق العرب" و "البلاد العربى" و الدار العربى " الخ . . . كلمة " عربى " مرادفة لكلمة "قديم" وكل ما هو اجنبى أو فرنسى أو من سلعة الخارج رمزا للجديد وعنوانا للتقدم والحضارة .
وبينما كان الشابى يعجب بلامرتين كان قوم لامرتين يزدرونه ويسخرون من قصائده الضعيفة فى رقتها الرتيبة فى مبالغاتها وكان قوم لامرتين يعجبون بأراغون مثلا وأراغون هذا سيكتب في الستينات أجد ما يوجد فى تجديده مجنون ايلزا ( Le Fou d’Elsa ) على نمط مجنون ليلى وعلى مثال كتاب الاغانى في أخباره وأسانيده وأشخاصه .
فلعل الثروة التى نطمع فيها لانها بأيدى الجيران موجودة أيضا عندنا ولكن كنوزها مدفونة فى أرضنا كامنة في نفوسنا يجب ان يبعثها باعث العمل والتكوين والاجتهاد وان يقدحها قادح الثقة بالنفس والايمان بالاصالة والقيم الصحيحة .
7 ) الخاتمه :
انما أردت بهذه الملاحظات أن ألفت الانظار الى خطر الاستغاثة بالخارج لتلافى النقص بالداخل . فالاستعانة بالاجنبى ( إذا ضاقت نفسك أو مسك الفقر ) طريقة لا أحبذها لا فى الادب ولا فى السياسية . انه من الافضل ان نثق بأنفسنا وبأبناء وطننا قبل استطراف الغريب وتقريب البعيد وذلك بالتكوين والتعليم والتضامن بين الافراد والاجيال .
وانا قد رأينا من جهة نقادا ليس لهم تكوين عربى ولا جدارة لغوية لا يشعرون بالعربية من الداخل غير انهم تشبعوا بالعلوم الانسانية الحديثة فينقدون فاذا نقدهم ينقصه التذوق والائتناس والمشاركة الوجدانية .
وقد رأينا من جهة اخرى نقادا ليس لهم تكوين عصرى بالتضلع في مناهج البحث واللغات الحية ولكنهم يحسنون منذ نشأتهم لسانهم وثقافتهم فينقدون واذا نقدهم كنقد الطائفة الأخرى فى سلبياته : زهد فى الشعر العربى وحط من قيمته . فلعل التضلع فى العلوم الحديثة من جهة وتذوق العربية من جهة يكونان شرطا لازما ولكن غير كاف . الشرط اللازم والكاف هو التعاطف والمحبة .
وبعد فان الخيال الشعرى عند العرب عريضة كلها ثورة وبيان كله شعر فهو عمل يبقى عافيا صافيا لان انتقاد التراث تراث يحفظ ويحترم .
