قيل عن المتنبى : إنه» ملأ الدنيا وشغل الناس « وها أنا بدورى أطبق هذه المقولة على أبى القاسم الشابى ، الشاعر التونسى الذى أصبح أشهر من علم على رأسه نار . ولا بد فى البداية من أن أنبه الى أننى لا أحمل أحقادا على الاحباء فما بالك بالاموات ، وأننى ثانيا لست من هواة نبش القبور . ولكن الظروف حتمت على كتونسى ان أصحح بعض المفاهيم التى علقت فى ذهن التونسيين ـــ عن وعى أو عن غير وعى ـــ من عباد الشابى . اذ لا بد لى من أن أشير ـــ وللتاريخ شواهد على ما أقول ـــ أننا نحن العرب بقدر ما نحتقر مثقفينا وهم أحياء بقدر ما نقدسهم ونعظمهم الى درجة تفوق حجمهم الطبيعى وهم أموات . وهذا حسب رأيي ناتج عن سببين :
1 - من الممكن أن لا نفهم مثقفينا فى عصرهم ولذلك نترك مهمة فهمهم للاجيال القادمة وبالنتيجة نكون متخلفين ذهنيا وفكريا وعقليا بالنسبة لمثقفينا .
2 - ان اضطهاد مثقفينا وقمعهم فى حياتهم باعتبارهم يشكلون خطورة على السلطة السياسية ، ولكن بعد مماتهم يزول خطرهم ونصبح نكفر عن خطايانا بمدحهم وتعظيمهم وتأليههم أحيانا . وفى كلا الحالتين نلاحظ خطأ فهم العربى للثقافة والمثقف وبذلك نتحمل مسؤولية جسيمة فى تخطئة أيضا الاجيال القادمة عندما نكتشف مبالغاتنا وتقييماتنا الخاطئة لمثقفينا .
انا أرجو ألا يفهم من كلامى أنني ضد من يريد أن ينصب تمثالا لابى القاسم الشابى فى احدى ساحات العاصمة او ضد من يريد ان يرسم له لوحة لتعلق فى مقر اتحاد الكتاب ، انما والحقيقة تقال أريد فقط ان نجعل الشابى فى حجمه الطبيعى ، أريد ان يقيم شعره تقييما موضوعيا ضمن مسار حركة الشعر التونسى المعاصر حتى لا نجنى على من عاصره .
قرأت كثيرا عن الشابى وما زلت اقرأ وآخر ما قرأت كان اقتراحا ورد فى الملحق الثقافى لجريدة العمل لاحد الاخوان يطرح فيه امكانية تنظيم سنة عالمية للشابى تحت اشراف وزارة الشؤون الثقافية . وقدم الكاتب مقترحات عديدة ومتنوعة ومفصلة فى هذا الشأن وله كامل الحق فى المطالبة بمثل هذه التظاهرات الثقافية ، لكن هل يمثل الشابى كل الشعر التونسي ؟ وهل للشابى وأنصاره الحق فى أن يغمر الشعر التونسى ويطفو الشابى ؟ الى غير ذلك من الاسئلة التى تخامرنى كلما قرأت شيئا عن الشابى .
قبل كل شئ أقول للحقيقة والتاريخ ان الشابى شاعر مثل بقية شعراء عصره وان كان يختلف عنهم فى بعض النواحى . والشابى أيضا كان من الشعراء المقلين ـــ وهذا أجله المحتوم ـــ والقلة فى الشعر لئن كانت تعطى فكرة عن الشاعر الا أنها ليست بكافية ولا نهائية .
والحقيقة الثانية التى لا مراء فيها هى أن الشابى غطى كل شعراء عصره وما زال يغطى حتى الآن الشعر التونسى . وهذا الاحساس ينتاب كل انسان زار المشرق العربى وخطر بباله أن يسأل اخواننا هناك عن الثقافة التونسية وبالذات عن الشعر التونسى فيجاب بكل بساطة الشابى ولا نعرف غير الشابى . فيشعر السائل بخيبة أمل ولكن اذا كان لمثقفى المشرق بعض الاعذار اذ من المفروض علينا كتونسيين ان نقوم بدور تعريفهم ـــ ونحن مقصرون فى ذلك ـــ على ثقافتنا وشعرنا الذي أنجب قبل الشابى ومع الشابى وبعد الشابى ، الا أننا نحن كتونسيين أين يكمن عذرنا عندما نركز كتاباتنا ودراساتنا على الشابى فقط ونهمل غيره من الشعراء والنقاد الذين ساهموا فى خلق الشابى وحملوا لواء الشعر معه . الى متى نستمر فى تقديس هذا الشاعر واعلانه عن بقية الشعراء التونسيين فى عصره والعصر الحاضر ! ؟ وعندما نقوم بهذا العمل نتصور أننا نرفع رؤوسنا ونزيد من أهمية ساحتنا الشعرية والأدبية قاصدين بذلك التباهى والمفاخرة أمام المشرق العربى الذى أنجب الكثير من الشعراء وبالتالى ننهال على الشابى مدحا وتعظيما وتفخيما وتكون النتيجة عكس ما نتصور اذ بذلك ندمر أنفسنا ونهمل شعرنا وشعراءنا ونبقى نتسلى ونقدس هذا الشاعر الواحد الاوحد الذى انجبته تونس وأمسكت عن الانجاب . ان تونس أنجبت ولا زالت تنجب وسوف تظل تنجب وعلى التونسيين ان يفهموا هذا . عندما نلقى نظرة ولو سريعة على تاريخ الشعر التونسى المعاصر والحديث نكتشف الخطأ التاريخى الذي ارتكبناه فى حق ثقافتنا وشعرائنا هناك الكثير من الشعراء الذين سبقوا الشابى وهناك
الكثير من الذين عاصرووه ولربما كانوا أكثر منه نتاجا وأكثر ابتكارا وأشد منه التصاقا بالشعب وقضاياه وللتاريخ نقول اننا اكتشفنا الشابى من خلال اخواننا فى المشرق العربى وكان السبب فى ذلك الاخ أبو القاسم محمد كرو وتحديدا من العراق أين وطدت دعائم شهرة هذا الشاعر ومنها انطلق الى غزو بلاد المشرق عموما التى تنتظر من الاخ الاصغر ـــ بلهفة ـــ كل ما يصدر عنه وزحف علينا الشابى في تونس منطلقا من العراق وهنا صعقنا واكتشفنا أن هذه البضاعة بضاعتنا ردت الينا وبدأنا نكتشف الشابى ونشبعه درسا وتمحيصا واختص أبو القاسم كرو فى هذا الميدان وقامت أيضا عائلة الشابى بمثقفيها مطالبة بحقها فى الدرس والتأليف وبالتالى التفخيم والتعظيم ولم يضعوه في حجمه الطبيعى وبدأ الشابى يرتفع ويرتفع اسراء ومعراجا لامتناهيا حتى أصبح كالمنطاد وبدانا نبالغ فى ثورته وتجديده والتزامه حتى أصبح برومثيوس الشعب التونسى ، اله من آلهة هذا الشعب التى لا تقبل القدح ولا الذم و لا النقد فهى أرفع من مستوى البشر . لماذا انسقنا وراء هذه الوحدانية الكاذبة والتوحيد فعلا مفهوم اسلامى طبقه مثقفو الاسلام ـــ لارتباط الثقافة الاسلامية بالمساجد ـــ على ثقافتنا : الاله واحد والنبى واحد والخليفة واحد والشعر واحد والقصيدة واحدة كل خروج عن هذه الوحدانية يعتبر هرطقة وكفرا والحادا ونحن فى العالم العربي أحوج ما تكون الى التعددية فى الآراء فى الفكر ، فى الشعراء لان التعدد يثرى والتوحيد يفقر ، والعبارة لجمال الدين بن شيخ .
مفهوم التوحيد يلاحقنا دائما من السلطة السياسية الى الثقافة الى الادب الى الشعر ، وعندما نريد أن نصل إلى هذا التفرد والتوحيد نلجأ الى صيغ المبالغة التى أصبحت خاصية من خصائص العرب وأفعل التفضيل تستعمل كثيرا وتستهلك كثيرا فهذا أعظم شاعر وهذا أكبر قائد ، وذاك أول مطرب والآخر اكبر شاعر وتلك سيدة الغناء وهذا رب العود الى غير ذلك من هذه العبارات التى تعشقها الاذن العربية ، اذن الحقيقة التى لا مفر منها حتى أننا نقدس التعظيم ونعبد التفضيل ، منذ عهد عنترة ومرورا بعهد المتنبى وابن هانئ الى عهد شوقى والشابى والسلسلة متواصلة والمبالغة كانت وما زالت محبوبة فى الشعر العربي ولم تكن أبدا عيبا من عيوبه وأصبحت بذلك صفة تميزهم عن بقية الشعوب .
وعلى هذا الاساس والشعر ديوان العرب عشقنا الطبل وأهملنا العود كآلة موسيقية بدأنا نعبد المدح والمبالغة ولم نهتم بالتقييم الموضوعى ، خلقنا وواصلنا الكلام بالعاطفة بعبدا عن النظرة الموضوعية للأشياء ولربما كان ذلك
ناتجا عن طبيعتنا التى تهوى المبالغة وتنفر من الحقيقة ، تحبذ اعطاء القاب تفوق الحجم الطبيعى للشخص الذي نتعامل معه . كل أحكامنا التى نصدرها تتسم بالعاطفية والارتجالية ولذلك عندما نقرر أن ندرس أديبا ما ندخل وعندنا فكرة مسبقة عن الشخص الذى ندرسه اما ان نكون من اول وهلة معه وبالتالى نصبغ عليه القابا وأوصافا مغالية فى المدح واما أن ندخل ونحن نحمل فكرة ضده والنتيجة تكون ان نمسح به الارض ونمرغه فى التراب انطلاقا من موقفنا العدائى المسبق ، فمن طبعنا الا ندخل موضوعا بنزعة حيادية اذ الحياد لا نعرفه ولا نريد ان نتعلمه . ألم يحن الوقت بعد لان نتعلم أن من ضرورات البحث أن نعطي لكل شخص ماله وما عليه اذا اردنا فعلا أن نرقى بدراساتنا الى مستوى نستطيع من خلاله أن نقنع قارئنا بما نقول .
تشنج أعصاب الباحث هو الذى يجرنا الى مهاترات ومبالغات يمكن تجنبها عندما نتشبع بالروح العلمية ولكن أين الروح العلمية من تلك الاحكام التى نطلق على الشابى من أنصاره وأعدائه !؟ فالاوائل وضعوه فى مصاف هميروس ودانتى وشكسبير أو حتى أكثر من ذلك ، وأما الاعداء فقد قالوا ان الشابى مات ولم يترك سوى بيتين من الشعر :
اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر !
ولا بد لليل ان ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر . .
الخطأ بين عند الاتجاهين ومن الضرورى ان نغير مثل هذه المواقف . أنا شخصيا لقد سمعت الكثير والكثير عن الشابى وعن شعره » الذى لا يزال ينير درب الشعب التونسى والامة العربية والانسانية جمعاء « . هل أصبح الشابى نبى القرن العشرين الذى جاء رحمة للعالمين فى شتى أصقاع الارض ؟ لماذا هذه المبالغة التى لا تفيد الشابى وشعره ولا الشعر التونسي ولا النقد المنهجى ؟ اذ لابد أن يلقى هذا الكلام عرض الحائط فى يوم من الايام وان يعاد تقييم شعر الشابى بنظرة موضوعية علمية فى مساق دراسة الشعر التونسى عموما . واذا أردنا أن نرقى بحركة النقد ، إذا أردنا فعلا أن نخلق شعرا حديثا يجارى العصر والحضارة ، يستطيع التعبير عن الازمات التى يعيشها الانسان العربى المعاصر وخاصة التونسي الذى يعانى أزمة تحول اجتماعى اقتصادى سياسى حادة لا بد لنا من اعادة النظر فيما نقول عن الشابي وأن نبتعد عن هذه التصرفات التى تدل على ضآلة الانتاج وضحالة الفكر والثقافة
فى تونس » إذ أن ضآلة الانتاج فى ذلك العهد لم تحملهم على العناية بنقده أى نقد الانتاج الادبي ، و نقدوا أخذوا بالعاطفة أو بالغوا فى التعميم أو تسرعوا فى الحكم أو أكثروا من المدح والاطراء عند ايراد المحاسن او القدح والازراء عند ايراد المساوىء او تأثروا فى مقاييسهم بما بينهم وبين من ينتقدون كلامه من مودة او موجدة او حب او بغضاء اما بما يؤملون لديه من نفع او يخشون من مضرة . . . « (1) هذه النظرة التأثرية الانطباعية التى نتعامل بها مع الشابى ينبغى ان تستبدل بمنهج نقدى أكثر تقدما وأكثر علمانية .
اعتمادا على ما قلت سابقا ، واذا عدت للشابى وشعره المتشبع بالروح الرمانسية فاننى واضع الشابى فى حجمه البشرى الطبيعى بعيدا عن المبالغات الفارغة مع مجموعة ساهمت بدور كبير فى خلقه وابداعه صحبة شعراء خلفوا لنا شعرا تونسيا يحق لنا أن نجعله من جملة تراثنا الشعرى الذى لا يقتصر على شعر الشابى فقط وانما يعتبر الشابى بحق رافدا من روافده . ان محاولات الاصلاح التى قامت فى أواخر القرن التاسع عشر بقيادة خير الدين باشا ومحمد بيرم وابن أبى الضياف ومحمود قابادو والتى هيأت العقلية التونسية لتقبل الجديد فى الافكار والثقافة والعلم ، اتت ثمارها منذ بداية القرن العشرين . ومما ساعد على انتشار هذه الافكار التجديدية الصحافة التى دخلت البلاد التونسية بعنف مؤثرة على العقول ومثيرة النفوس ومحركة الهمم حتى يستطيع التونسى مسايرة ركب التقدم ومتابعة الافاقة الحضارية التى أصبحت تهز كيان المجتمعات العربية الاسلامية منذ العشر سنوات الاولى من القرن العشرين وفى الصحافة الادبية التى بدأت بالظهور والانتشار نرى تهجمات على الشعر التقليدى وعلى محمود قابادو بالذات ممثلا للنموذج الشعرى التقليدى »ديوان قابدو أفشل عزائمنا وأدخل الريب فى قلوبنا حتى كدنا نتحقق أن شعراء الازمنة المتوسطة وهم لم ينالوا شهرته، لاهم ولا شعرهم يسمى شعرا الا فى عرف البسطاء القاصرين ولو أراد القراء مشاطرتنا أسفنا على حصول الشهرة دون دواعيها ٠٠٠ « (2)
بدأت الحملة على القديم اذن منذ بداية القرن العشرين وبدأ جيل الشباب يطرح أفكارا حديدة وشعرا جديدا ونظرة تقييمية جديدة للشعر والشعراء وبدأ الشباب يطرح أفكارا مغايرة للموروث وتنظيرات للشعر » العصرى « كنقيض للشعر التقليدى او الشعر القديم وحدد مفهومه فى مجلة خير الدين كالآتى » التأثير على الهمم وتنبيه الاحاسيس الشريفة فتهب الى القيام بواجب الحياة« ويعنى أيضا : » دعوة الامة كى تفيق من مرقدها وتحس وتشعر وتنهض . . .« (3) حسب تعبير جريدة اظهار الحق ، فالشاعر الحق » هو الذى تتفجر المعانى من قريحته فيزنها بميزان المرسن ويصوغ لها على قدرها قوالب من الالفاظ والتراكيب كاحسن صائغ للحلى وأمهر سباك للمعادن كلما شعر بشأن صوره بقلمه كما يحسن نقله بدون تهافت منه على ترصيع الكلام » بجواهر البديع وتدبيجه بحلل المجاز والتشابيه « حسب رأي عبد العزيز المسعودى فى مجلة السعادة العظمى ( 4 ) .
هكذا بدأت تطرح مفاهيم جديدة للشعر ، بدأ المنظرون للشعر يدعون الى الابتعاد عن المحسنات البديعية التى كانت من المقاييس المتبعة فى تقييم الشعر والشعراء بدأ الحث على ايجاد شعر بسيط صاف وخال من كل الزخارف التى علقت بالشعر العربى فى عصور الانحطاط . أصبح المطلوب من الشعر أن يعبر عن خلجات النفس بعيدا عن الشكليات والقوالب الفارغة التى تآكلت عبر الزمن ، لكن هذه المحاولات التجديدية كانت تصطدم بالقديم ، بالافكار التقليدية المترسخة فى الاذهان والجهل الذى يعشش فى عقول التونسيين وحجب عن أذهانهم تذوق الجديد والتحمس اليه . وهذا أحد الشعراء وهو صالح بن على النجار القيروانى يشكو من الجهل الذى كبل التونسيين :
لقد فقدوا الاحساس والرأى والحجا ولم يبق فيهم من اليه تترجم
فكيف تناجيهم وتحسب أنهم قد انتبهوا والجهل قد ساد فيهم
فقل لى يا أخى ماذا يكون دواؤهم وهل ينفع العقار اذ هم تحزموا (5)
ان هؤلاء الداعين الى الامل والايمان بالمستقبل والتشبع بروح الحرية التى ستقود حتما الى الانتصار ، الانتصار على الظلم والطغيان ، على الجهل والتحجر هذا الصمود وهذا التحدى لن ينتهى أبدا : فاستعملوا ما شئتم لكسر هذه الاقلام ، وابذلوا ما استطعتم لنزع تلك الفكرة واستعملوا ما بأيديكم من حول وطول لاخماد تلك النيران فترون رأى العين أن الاقلام الحرة لن تنكسر وأن الافكار الثابتة لا تتزعزع وأن نيران الحمية فى الوطنيين لا تخمد أبدا . . . « (11)
ما أروع هذا الاصرار وما أنبل هذا الايمان بالمستقبل ! ! مستقبل الشعب ولو آمن الشابى بمثل ما آمن به هؤلاء الناس ، هؤلاء المثقفون ، هؤلاء الكتاب لكان رائد الشعر التونسى بدون منازع ولكن هيهات الشابى انسحب من ساحة المعركة الى غابته لا يلوى على شىء حتى يبثها أحزانه ونقمته على الشعب ذلك » الشعب الذى أبصر الحرية فى الافق الهائل قادما نحوه لا ينهزم و لا بتصدع ولا تؤثر عليه المصادرات وان عظم كربها ولا الارشادات وان اشتد خطبها . . . ذلك الشعب السائر فى سبيل الحرية المصمم على نيل حقوقه مهما كلفه ذلك . . . « (12) .
وسط هذا الايمان بالمستقبل المشرق لهذا الشعب المكبل بالاغلال حدد دور الاديب ودور الشاعر وأنيط بعهدته حمل مشعل التقدم والاضطلاع بمسؤولية الريادة لقيادة هذا الشعب الخامل تحت اكوام الجهل والفقر وفى خضم الصراعات الفكرية وهذه المفاهيم المتناقضة أحيانا ، اعطيب تعريفات جديدة لمفهوم الشعر ودور الشعراء نرى مصطفى خزندار الذى انتخب أميرا لشعراء تونس والمغرب العربى أسوة بأحمد شوقى نراه يعرف الشعر تعريفا يكاد يكون رومنسيا » الشعر يجيش بالصدور فتتنفسه الالسنة على اختلاف لهجاتها فهو فى كل الامم عنوان الرقى ولسان الشعور وصوت الضمير ورائد الوجدان وترجمان الاحساس ، وما تلكم القواعد الفنية الا تعريف للنظم فهى المظاهرة التى يظهر فيها النور الباهر بل هى الاوانى التى يسكب فيها الرحيق الحلال ٠٠٠ « (13) ان هذا التعريف للشعر لا يبتعد كثيرا عن التعريف الرومنسى الذى تبناه الشابى وخريف والحليوى والبشروش ومن تبعهم .
ان الجهل الذى يخيم على عقول التونسيين والذى ضرب على أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون الجديد ولا يتذوقونه . ظاهرة الجهل لم يفهمها الشابى فكانت سببا من أسباب انسحابه وهروبه وانهزاميته فى ميدان المعركة التى كان ينبغى ان تطول وتطول والنصر فيها سيكون حليف الصامدين ، ان حياة الشعب التونسى وما يقاسيه من ظلم وعبودية ، من جهل وفقر صورها شاعر شعبى من القيروان أصدق تصوير :
صنايعنا ماتو
وجاع الفقير وعيلتو وبناتو
بر النصارى جلب ماكيناتو
والجهل راه عمى لنا عينينا (6)
هذه حال الشعب التونسى الذى لم يفهم الشابى وهو محق فى ذلك اذ كيف يفهم الشعر الذين لا يعلمون والذين يعيشون حياة مليئة بالتعاسة والجهل وكان من المفروض على الشابى أن يقوده الى ما فيه الخير والصلاح والرشاد ، فالمدينة عظيمة بشعرائها كما يقول ناظم حكمت والشاعر رائد فى كل العصور والريادة تتطلب من جملة ما تتطلبه الثقة بالنفس وبالمستقبل وبالشعب . وتستمر التنظيمات النقدية وتزداد وضوحا وتتطور نحو الرديكالية فهذا عبد العزيز المسعودى الذى ينادى بالشعر العصرى ونبذ الشعر القديم ومثل هذه التنظيرات هى التى هيأت ظهور الشابى » وبعضهم سلك مسلك الاهاجى فى الوقت الحاضر ومدح الاقدمين وتوصل بها الى تقبيح حال المجتمع فى عيون ذويه حتى كان أدعى الدواعي الى فقدان الامل العمومي « . (7) مما سبب الانهزامية والتشاؤم بمستقبل هذا الشعب الذى يعانى ويلات الاستغلال والفقر والجهل . فالشعر حسب رأي عبد العزيز المسعودى لم يعد فيه مكان للمدح والهجاء والفخر بل ان رسالته تجددت فى ظل هذه الظروف » فالشعر معنى عظيم يدرك بالوجدان . . وإن الذين حصروه فيما عرفوه به ضيقوا واسعا وجعلوه اسما على غير مسمى « ويضيف» ولكتاب الافرنج ومن قلدهم من كتابنا المعاصرين أساليب غير متعارففة من قبل فى الكتابة الشعرية منها استعمال ( الشعر في النثر ) فترى الكاتب يوزع انواعا من الكلام مختلف
ان كل التعريفات ـــ كما راينا ـــ أو محاولات التنظير للشعر التونسى فى بداية القرن العشرين تدور كلها حول الاسئلة التالية كيف يكون الشعر ؟ و ما هى رسالة الشاعر ؟ وما هى آفاق التغيير ؟ ولكن الشعراء الذين سبقوا الشابى الى التنظيم والممارسة الشعرية والخلق الفنى وخاصة خزنة دار وسعيد أبو بكر وزين العابدين السنوسى والهادى المدنى فهموا الشعر على أنه التصاق بالشعب اكثر منه تعبيرا عن احساسات فردية اذ أعطوا للشعر دورا اجتماعيا أكثر منه دورا جماليا أو تنفيسا عن مشاعر فردية وتركوا لنا أبياتا وقصائد شعرية قريبة من الالتزام بالمعنى الحديث للكلمة ، فهذا الهادى المدنى يقول :
هلم نزعزع الدنيا بصوت تخر له جبابرة الزمان
أو تلك الصرخات التى أطلقها الشاذلى خزنه دار معبرا بها عن التصاقه بالشعب وايمانه الراسخ بانتصاره :
يا أيها الشعب الكريم تيقظا هبت رياحك والزمان مواسى
كن فى المبادىء صادقا وافتح لها نهج الثبات وأعين الحراس
ان حب الشعب والالتزام بقضاياه ، هذه القضايا التى تشغل الشاعر فسخر لها حياته وضحى فى سبيلها بالكثير وانسلخ عن طبقته :
شغلت عن الجميع بحب شعبى رعاه الله والاخلاص نام
لقد كان خزنه دار فى شعره أقرب الى الالتزام السياسي ـــ الاجتماعى منه الى الدعوة الى نظرية فنية جمالية . لقد ناصر خزنه دار الطاهر الحداد ودافع عنه دفاعا مستميتا عند اصدار كتابه » امرأتنا فى الشريعة والمجتمع « لقد عبر عن ألمه الشديد تجاه الاضطهاد والقمع والتعذيب الذى يتعرض له الشعب التونسي في انتفاضاته المتتالية مثل حادثة سوق الاربعاء أو حادثة المرسى أو حادثة الزلاج ، كل هذه الانتفاضات ناصرها خزنه دار وأدان المعتدين أدان التعذيب والقهر ، أدان الظلم والاستبداد :
وليس هناك ضعف بل بلاد يداها للشقا مغلولتان
وظل المجرم العاتى طليقا كسلطان بدا فى مهرجان
المواضيع فوق لوح النخيل ليركب منها الجملة المطلوبة له فى غرضه المخصوص كما يفرغ الرسام انواعا من الادهان المحلولة لايجاد اللون المناسب لرسم شكل أحب ترسيمه . « (8)
ان هذه الرؤية السابقة لاوانها والمتقدمة جدا بالنسبة لعصرها لامتزاج الفنون الجميلة ببعضها البعض وتلك المقارنة الراقية والشفافة بين الشعر والرسم جاءت غاية فى الروعة وغاية فى الشاعرية فقيم الشعر العصرى ينبغى ان تكون القيم البديلة لما يطرحه الشعر التقليدى وأن يكون المفهوم الجديد مماشيا لروح العصر الذى ينتجه فهو » تنبيه الاحاسيس الشريفة فينا ( الشعر العصرى ) الذى يكسب النفوس تحمسا ويذكرها بالنخوة والشهامة فتهب الى القيام بواجب الحياة وتسعى لنوال الخيرات وأكثر ما يكون الشعر الرقيق مؤثرا فى الامم التى لها شعور رقيق وادراك لطيف . ولا نقول باطلا ، اذا ادخلنا فى زمرة هذه الامم شعبنا التونسى الذى اثبت التاريخ رسوخ قدمه فى الادب وبراعته فى الفنون غير أنا نعترف بتقاعس أبناء العصر عن قدح زناد أفكارهم الذى لا نشك فى أنه سيورى انوارا تستضيء بها العقول و لا تنقص قائحهم فى الاجابة واللطف عن قرائح اخواننا المصريين الذين تقدموا شوطا بعيدا فى هذا الميدان . . . « (9)
وهل خرج الشابى عن هذا التعريف ، عما قاله هذا المنظر اذ أن المتفحص لقصائد الشابى يكتشف أن هذا الاخير لم يخرج عن التعريفات والتنظيرات التى طرحها من سبقه من أدباء تونس . اذ الاوضاع مزرية والظروف قاسية والحالة يرثى لها ولكن الامل فى الانتظار موجود والايمان بالمستقبل راسخ لا يتزعزع والحرية التى ينبغى على كل تونسى أن يتشبع بها ويرفع صوته عاليا مناديا بهذه القيمة الانسانية الخالدة ويناضل فى سبيل افتكاكها : » الهجوا دوما بذكر الحرية وذكر رجالها علها تنبعث فيكم وراء ذكرها روح جديدة نبعثكم على الاقتداء بمن تسربل بها ، اذن فلتعش الحرية وليعش انصارها الداعون اليها . . . « (10)
وتستمر التنظيمات للشعر العربى على مستوى الشكل والمضمون وتشتد فى فترة الثلاثينات ذلك العصر الذى شهد انقلابات وتحولات هامة على الساحة التونسية فى كل المجالات وأصبح الشعر العربى فى تونس يخوض بحق صراع المدارس والاتجاهات ولا نستغرب بروز آراء ودعوات جريئة جدا مثلما فعل زين العابدين السنوسى عندما قدم للجزء الثاني من ديوان خزنه دار حيث طرح أفكاره بشجاعة نادرة حول تطور الفنون قائلا " نعم ان مرور الزمن اثر فى بهحته من حيث ابتعاد ذوق هذا الجيل عن الموسيقى والانغام الاندلسية الا ان ذلك أمر ضرورى والفن دائب التحول بطبيعته لان الاذواق تستبدع الطريف بطبيعتها وتميل الى التحول على أية حال . « ( 14 ) ويستمر السنوسى فى تحليل نظرته للشعر مضيفا : » على أننا لا نكاد نجد من لا يعتقد أن اسقاط القيود الزائدة مساعد على استثمار مواهب قد يوقف تيارها ذلك الارهاق الذى لا طائل تحته من القواعد الفنية والقوانين . انه لا يرى فائدة فى محاول كبح جماح لعاطفة التطور فى الاوزان الشعرية والموسيقى لا وزنا وقافية واحدة لكننا نلاحظ أن ذلك التطور يحب أن يكون طبيعيا لا من نوع التعلق بالشذوذ والتفرد وهو لا بد واقع « (15)
ان هذه الدعوة الصريحة الى شعر التفعيلة أو البيت الحر ( Vers libre ) كانت حسب رأيى أهم خطوة يخطوها الشعر التونسى فى هذه الفترة وفى الفترات المتتالية انها حسمت بحق وعى التونسيين بضرورة تطور الفن شكلا ومضمونا وتعتبر دعوة السنوسى هذه دعوة متقدمة جدا حتى على المستوى العربى ، وهذا وان دل على شئ فانما يدل على وعى التونسيين دائما بكل جزئيات ودقائق الثقافة العربية التى كان ولا زال لهم باع كبير فيها خلقا وابداعا وتجديدا .
ان هذه المحاولات التنظيمية هى التى مهدت لظهور الشابى ، هى التى أعطت لتجربته الشعرية العمق النظرى والخلفية الفكرية التى تتطلبها كل عملية ابداعية ، كل عملية خلق وتجديد فى كل الفنون على اختلاف انواعها .
اذن يتبين من خلال ما وضحت في السابق ان الشابى لم ينزل من السماء ، بل وجد أناسا هيأوا له الجو النظرى والمناخ الفكرى الملائم لظهور التيار
الرومنسى الذي اعتنقه فيما بعد ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية هناك شعراء آخرون يختلفون معه من حيث وظيفة الشاعر والشعر وقدموا للشعب التونسى خدمة حليلة فى فترة كان أحوج ما يكون الى مثل هذه الخدمات ولذلك يبقى فى غير محله أن تقول عن الشابى كلاما يفهم منه خلو الساحة الادبية التونسية من غيره من الشعراء وفى الحقيقة بهذا العمل ندمر ثقافتنا ومثقفينا ونظلم شعرنا وشعراءنا وبلادنا أيضا التى نخاف عليها من الاتهام بالضحالة بعد كل ما قدمت للثقافة العربية طوال تاريخها الحافل . ان الكثيرين الذين تعرضوا الى الشابى أشاروا أيضا الى آرائه التنظيرية أو النقدية ـــ ان صح التعبير ـــ لكننى وجدت مع كامل الاسف ان الشابى قد أصدر عدة أحكام ارتحالية عن الشعر والشعب ومن جملة احكامه هذه قوله :
» ان الشعر الحق أجل وأسمى من أن يوكل أمر تقديره الى فكرة الشعب « (16) ان هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التى لازمت الشابى طوال حياته الشعرية فهو فيلسوف ونبى وشاعر وبرومثيوس الى غير ذلك من النعوت والاوصاف التى يطلقها على نفسه عمقت الهوة بينه وبين الشعب المسكين . ان تأثره بالفكر النيتشوى والنظرة الرومنسية الانطوائية جعل بينه وبين الشعب التونسى حجابا ليس من السهل تخطيه ، فظل المسكين حائرا بين نزعته الفردية الاستعلائية وبين المشاكل التى تخلخل أركان المجتمع التونسى فى تلك الفترة . لم يكن الشابي ذلك المثقف العضوى الذى يستطيع فهم حركة التاريخ والانحياز كلية الى جانب الطبقات المسحوقة والمناضلة فى سبيل الكرامة والخبز والحرية بل بقى يتغنى بفرديته بنزعة رومنسية موغلة فى تشاؤمها وانطوائيتها فالشعر عنده اما رومنسى أولا يكون : » ان الشعر يا صاحبى هو ما تسمعه وتبصره فى ضجة الريح وهدير البحار وفى بسمة الوردة الحائرة يدمدم فوقها النحل ويرف حواليها الفراش فى النغمة المغردة يرسلها الطائر فى الحقل الفسيح وفي و شوسة الجدول الحالم المترنم بين الحقول وفي دمدمة النهر الهادر المتدفق نحو البحار وفى مطلع الشمس وخفوق النجوم وفى كل ما تراه وتسمعه وتكرهه وتحبه وتألفه وتخشاه ، فهل تسالني عن الشعر ؟ هكذا يجيبك الشاعر وهكذا يتحدث اليك الفنان . « (17 )
هكذا ينظر الشاب إلى الشاعر والفنان فهو لم يخرج عن التعريف الرومسنى للشعر ولم يضف جديدا عما قاله السنوسى وخزنه دار وغيرهم من المنظرين الداعين الى التجديد الشعرى . والخطأ الذى وقع فيه الشابى دون أن يشعر منساقا يعاطفته وايغاله فى الرومنسية أنه حاول أن يطبق المفهوم الرومانسى للشعر ـــ الذى يفترض ان يكون مدرسة من جملة العديد من المدارس ـــ على الشعر كله . وبدا ذلك واضحا فى محاضرته الخيال الشعرى عند العرب الذى اتهمه بأنه خيال مادى ضحل لا يرقى الى ما فى أدب الغرب الروحى من انطلاق وحرية وتحريد . يبدو ذلك من محاولة تطبيق المفهوم الرومنسى على الشعر العربى اذ استشهد بقطعتين شعريتين لشاعرين من أكبر شعراء الرومانسية واكثرهم غلوا فيها وهما لامرتين وغوته فبين» أن هذين الشاعرين نظرا الى الطبيعة كلها باعتبارها كائنا حيا يترنم بوحى السماء فيثير فى حنايا يا النفس هواجع الفكر وسواحى الصور . « (18)
لقد اتهم الشابى العرب بضحالة الخيال وماديته ونسى او تناسى بأن يقرأ الشعر العربى كاملا والصوفى منه بصفة خاصة ولو قرأ لعمر الخيام مثلا لوصل إلى نتائج وأحكام غير التى أطلقها بأعصاب متشنجة . ولكن الشابى كان مدفوعا بثورته الرومنسية المثالية فبالغ فى أحكامه وتشنج فى استخلاص نتائجه وعمم جزئياته دون مبررات منطقية ، وعلل هروبه باسباب واهيه منها شعوره بتفرده وتميزه واستعلائه عن الآخرين ، ولولا تشكى بعض أفراد عائلة الشابى من كثرة استشهاد الذين يكتبون عنه بشعره لحاولت أن أعطى مثالا من شعره على كل فكرة قلتها وعلى كل حكم أصدرته ولبينت بذلك مغالاة الشابى فى التعلق بمذهبه الفكرى الثقافى الذي كان فى مرحلة من المراحل تقدميا فى أوربا ومبنيا على أساس فلسفى اقتصادى سياسى اجتماعى ولكن الشابى اعتنقه متأثرا ودافع عنه معاندا وناضل فى سبيله موغلا . من مزايا المدرسة الرومنسة الاوربية تحطيم الكلاسيكية وقيودها ولكن سرعان ما انغمست فى الانطوائية والتشاؤمية والسوداوية والهروب من الواقع اليومى الى الطبيعة والغاب وهذا موقف خطير جدا بالنسبة لامة شعب يناضل فى سبيل استقلاله وتحرره من قوى الاستعمار والظلم والاضطهاد . إذا كان للهروب فى أوربا مبرراته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فان هذه المبررات تغيب أو تنعدم في الساحة التونسية .
كانت نظرة الشابى للعالم مغرقة فى مثاليتها فالطبيعة التى يصورها فى شعره طبعة مثالية فهى جنات عدن تجرى من تحتها الانهار لا أشواك فيها ولا سوام ، لا حشرات ولا زواحف لادغة ، طاهرة مطهرة واذا حاولت ان أجد لها صورة أرضية فان نظرى يتجه الى بلدان اسكندنافيا أما غاباتنا نحن فتختلف اختلافا كليا عما صوره الشابى ، فغابات الجريد المقصودة أساسا والتى تلفحها الصحراء كل يوم بلهيبها القاتل ورملها الزاحف وشمسها الحارقة لا تمت الى غابات الشابى الشعرية بصلة . فلو هرب الشابى الى الصحراء لكان أصدق مع نفسه وشعوره ووجدانه ، ففى شحوب الصحراء يبرز شحوب وجوه سكانها ، وعريها الذى يشبه عرى اجساد التونسيين الرازحين تحت وطأة الفقر والمهانة فهم أبعد ما يكونون عن تدوق رائحة الزهر والاستمتاع بمنظر الفراش المتطاير فهم فى حاجة الى رغيف يسد رمقهم لان منظر الخبز أهم لهم من منظر أى شىء آخر مهما كان جميلا .
ان الشابى الذي حاول أن يكون مع الشعب سرعان ما قفل حقائبه وانسحب مهزوما خائبا الى الغاب طاويا عبقريته ونبوءته وفلسفته لتذهب فى مهب الريح بينما ظل محمد على الحامى والطاهر الحداد ومحيى الدين القليبي والهادى شاكر وفرحات حشاد وغيرهم من الذين ناضلوا فى سبيل التغيير ورفع الظلم ، وافتكاك الحرية وجدوا فى النهاية آذانا صاغية وعزائم صادقة وشعبا يضحى فى سبيل أن تعيش تونس حرة عزيزة .
فى الختام أرجو الا يفهم كلامى غير ما قصدت ، أردت أن أضع الشابى الشاعر والمناضل فى حجمه الطبيعى ، أردت أن أرد للساحة الادبية التونسية فى الثلاثينات اعتبارها كساحة أدبية عربية رائدة لم تقتصر على الشابى فقط أردت أن أرفع ملابسات عقدة نقص تولدت عندنا منذ زمن بعيد ودفعتنا الى نزعة اقليمية ضيقة نريد من خلالها أن نبرز على قدم المساواة مع كل ما يظهر فى المشرق العربى وقد تنبه الشيخ عبد الحميد بن باديس الى هذه الظاهرة عند التونسيين منذ أن ولوا مصطفى خزنه دار امارة الشعر أسوة بما فعل
المشارقة بأحمد شوقى وقرر على صفحات جريدة الشهاب أن الجزائر لا تعترف ومنهم الامارة وأشار بوضوح الى اقليمية التونسيين أردت بهذه الدراسة أن اجعل الشابى ضمن مسار حركة شعرية تونسية يمثل هو احدى حلقاتها . لم أنف عن الشابى صفة الشاعر وانما قلت : إنه لم يكن الشاعر الوحيد وانه لم ينزل من السماء أو لم يخلق من العدم . أردت أن أبين أن شعراء اخرين وجدوا معه فى الساحة الادبية ويختلفون عنه ايدلوجيا فحاولت ان اوفى لكل ذى حق حقه ، وليكن في علم التونسيين ان هناك من شعراء تونس من مات شهيدا فى السحن مضحيا بنفسه فى سبيل الوطن وهو المرحوم على الشواشى الذى غاضه موقف الباى محمد الصادق من الاحتلال الفرنسى فقال :
مدعي الصدق بين العحم والعرب لقد تحولت من صدق الى كذب
هل مسك الضر أم لاحت طلائعه على سما قصرك الموعود للعب
بعت الورى للعدى بخسا بلا ثمن تبت يد البائع الملعون فى الكتب
