الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

الشباب والثقافة

Share

هى خواطر لم تأخذ حظها من التفكير والنظر العميق ولم تقطع من طريق المعرفة واليقين الابعضه ، تارة دؤوبة متحسسة هيفى وطورا لجوجة مشوبة هوجاء عمادها العقل والمنطق حينا ونسغها العاطفة والشعور حينا آخر . ألست هى خواطر تتناول الحياة وشؤونها وتدعى الاهتمام بما أوتى الانسان من عجز وقوة وسعادة وشقاء وفناء وخلود ؟ أليست وليدة هاتين الكلمتين : الشاب والثقافه ؟ فهل يجوز لمن يذكر الشباب على حدة والثقافة على حدة أن يسكت عن شؤون وشؤون وهل يجوز له أكثر من ذلك أن يقرنهما بواو هي في الظاهر أو هى من خيط العنكبوت

كلها اسئلة تعتمل فى النفس ويتجاذبها الخاطر وتثيرها الحيرة لان مفهوم الشباب ومفهوم الثقافة أوسع من أن يحدا ولان مدلول الشباب هو حسب المتعارف أبعد من أن يكون للثقافة نسيبا وبها لصيقا . فاحرى بهما أن يتنافرا ويتباعدا كأشد ما تكون النفرة والتباعد وحقيق بكل منهما أن ينفرد بعالمه وينكمش على نفسه معتزا بملكوته منصرفا الى شؤونه

أليس من يذكر الشباب يلمح الى الزمن فى قصر المدة وقرب المدى وانقضاء الساعه ووشيك الرحيل وهل أقتل للانسان وأبعث لحيرته وقلقه من الزمن : سراب خدعه عن وجوده ومعنى وجوده وطلسم ضاعت كلمة السر فيه فلا نداء ولا جواب ؟ أما الثقافة فهى انتفاء الزمن بحدوده واحزائه وهر المدى يمتد ولا انقطاع : فيها الطمأنينة والخلود الى راحة السؤال تتبعه رقية الجواب

الشباب يكمن فيه معنى الزوال والبهرج والعرض بينما بالثقافة يضمن الانسان خلوده فى أعز ما يخلق وأسمى ما ينشئ من منظر جميل وصوت رخيم ، من سامى الاحاسيس وأقوم الافكار

الشباب هو الخطأ فى تقييم الحياة وهو الاندفاع بلا ادراك نحو زلزل فى قوة دفاقه وعزم جارف أما الثقافة فهى الصواب الاصوب والفهم الصحيح لضمان الحياة وهى الوقوف عند مكنوناتها تستجلى الاسرار وتختبر الاحوال

الشباب عبث عابث ولهو ومرح ولامبالاة والثقافة جد ومنطق وفكر ورأى الشباب جهل وضحالة معرفة أما الثقافة فهى العلم وامتلاء المعرفة

الشباب يهدم والثقافة تبنى والشباب يندفع بذاته يبلوها فى خضم الحياة فيستأثر بها وينكمش فيها بينما الثقافة تبتعد أكثر فاكثر عن الذات وتصبو الى ما يشترك فيه بنو الانسان ويجمع بينهم ويوفق بين آمالهم وآلامهم

كل هذه خواطر متعارفة أقل ما يقال فيها أنها تضع حدا فاصلا بين الشباب والثقافة فتبعد بينهما الشقة وتنفى عن كل شاب الاتصاف بهذه الكلمة السحرية التى أصبحت مضغة الافواه على رغم غموضها وتعدد ألوانها وتضارب الآراء فيها . لذا يجدر بى قبل كل شىء أن أضع حدودا لهذه الكلمة وأن أوضحها حسب ما أراه وأعتقده وان كان هذا الرأى انما هو خاطرة لم توضع على محك الحياة ولم تختبر نتائجها اذ هى ترمى قبل كل شىء الى فهم الحياة فهما تعتقده خاصا أو تظن انه هو الحق

فالثقافة عند الكثير هى النظر الصحيح والتحليل القويم والتعمق فى الامور برصانة وتؤدة وانقطاع عن خضم الاحداث حتى يتمكن المثقف من أن يزن الاشياء بعيدا عن المؤثرات وهى عند بعضهم جملة من المعارف والمعلومات يتصرف فيها صاحبها تصرف الماهر الذكى أو هى القدرة على الخلق والاستمرار في الخلق أو هى الاستقامة أو غير ذلك . بينما كل من انعم النظم في هذه الكلمة وأرجعها الى أصلها فى اللغة تبين له المعنى الحقيقى للفظة الثقافة أو على الاقل فطن الى مفهومها الاول وهو بسيط . يقول أهل اللغة : ثقفه: ظفر به وادركه وثقفه بالرمح طعنه وتقف الرمح : قومه وسواه حتى يطاوعه عند الطعن ، فالثقافة هي قبل كل شىء اصابة اتغرض ولكن هذه الاصابة لن تحصل الا بالاستقامة والتقويم والتهذيب ولا يتأتى هذا كله الا بالجهد والمعرفة والعلم . فاصابة الغرض والوصول الى الهدف وطلب الغاية هى العنصر البارز في الثقافة قبل كل شىء ولعلها هى التى تخضع الانسان ، وهو فى طريق جهاده ، الى أن يقوم من فكره ويهذب من آرائه ويتزود أكثر فاكثر من أعمق أعماق الحياة .

فالثقافة هي عندى اصابة الغرض من الحياة والبصر بشؤونها والنفاذ الى اعمق اعماقها مع الاستقامة . فلن تكون الثقافة ثقافة اذن الا بالحركة والقفزة أى بالعمل وفي العمل المغامرة والمقامرة والخطأ والصواب والعجز والقدرة

ولكن يقول القائل اذا كانت الثقافة هي اصابة الغرض من الحياة . فما هو الغرض من الحياة وما قيمة هذه الثقافة اذا كان الغرض ليس له قيمة فى حد ذاته واذا كانت حركة الانسان هي " عبث " والحياة " عبث " ولا جدوى

ألا يصح أن تكون الثقافة عند ذلك هي النظر الى الامور من بعيد ومحاولة فهمها والاقتصار على تحليلها فى رصانة ولا مبالاة ؛ وأى غرض تعنى اذا لم يكن هناك غرض ؟ بل والحياة نفسها هى بلا غرض . هنا يجدر أن ننظر في معنى الحياة وكنهها ونقول لمن يرى أن كل شىء فيها " عبث " وأن لا منطق يوفق بين شؤونها وليس هناك طريق واضحة للانسان حتى يسير فيها ويأمن كل الغوائل . الجواب بسيط وهو أنه لو وجد منطق وطريق واضحة لكانت مأساة الانسان وهل يوجد عند ذلك الانسان اذ هو سيبقى بهيمة بين البهائم فاين انسانيته ؟ انسانيته هى فى أن يجد المجال ليختبر قواه وليصيب من الحياة ما يقدر عليه ويخلق منها ما يقوى على خلقه . " فالعبث " ليس فى أن يلقي الانسان فى خضم الحياة بدون طريق واضحة ولا حدود معينة بل يكون " العبث " عند تضييق الخناق عليه وقتل انسانيته وكل اسباب الخلق فيه

فاصابة الغرض من الحياة هو ان يكتمل الفرد انسانيته بالخلق ولكن هنا تكمن مأساة الانسان اذ كم عجز وأخفق وتألم وحزن وشقى لانه لم يظفر بسر الحياة الذي يمكنه من الخلق أى من اكتمال انسانيته وهو لعمرى تتضمنه كلمة ربما يستنكف منها الكثير من القراء وينسبون اليها اخفاق الانسان في أعماله وآماله هى كلمة " اللهو " وليست هناك كلمة تجني عليها الناس وحملوها تبعة مأساتهم مثل هذه الكلمة فيجدر أن نرجع بها إلى معناها الصحيح القويم الذى هو فى حقيقة الامر سر حياة الانسان وكنهها لانه لا يمكن أن يتصور الخلق أى خلق الانسان لانسانيته الا " باللهو " وقديما سمت العرب ولدها لهوا جمعا بين معنى مفهوم الخلق ومدلول الاشتغال والشغل ففي "اللهو" نجد الحركة التى تشعر الانسان بوجوده وعملية الخلق التى تتطلب الجهد والجد أى طلب الجديد . فلماذا اذن أصبحت كلمة " اللهو " تحمل معنى الهزل والعبث واللاجدوى ذلك لان الانسان عندما يريد اكتمال انسانته فيخلق و يلهو " يقع فيما له " لها " ويطغى عليه ما نسجه هو بنفسه فيتحول عندئذ من حالة الخلق والتفتح والحركة الخلاقة والتقدم الى الانغلاق والانكماش . فيقدر ما تكون فى عملية " اللهو " من قدرة على المضى قدما والانطلاق فى براءة واستقامة واحياء للمواهب بقدر ما يكون فى الاشتغال " باللهو " العجز والتفسخ والانحلال هذه هى مأساة الانسان أن يعجز عن الخروج مما نسجه هو نفسه كدودة القز أو العنكبوت تموت فى حبائلها .

وهل هناك عاطفة أعلق بالانسان من عاطفة الحب وهى كما يعرف الكثير اولها " لهو " أى حديث وأنس وقد قالت العرب : لهت المرأة لهوا بحديث الرجل : أى

أنست به وأعجبها ومن معنى الانس اشتقت كلمة الانسان ولكن أين الخلق هنا ؟ نعم ان الحب مخلوق خلقه الانسان وليس من الغريب ان وجدنا أن الكثير من الباحثين فى عاطفة الحب عند أهل فرنسا فى القرن العاشر وما بعده ميلادى يثبتون أن :  (I' Amour Courtois ) نشأ عن طريق التروبادور ( Troubadours ) أى بواسطة بعض الاغاني والاناشيد ومن الثابت أيضا أن الحب بهذه الطريقة لم يكن معروفا فى الغرب قبل ذلك التاريخ ولا عند أهل اليونان بل أن العاطفة المتداولة هى الصداقة . ومن الواضح اذن أن التأثير لن يكون الا عربيا وأن العرب أنفسهم أو الحضارات القديمة التى ورثها العرب عن أهل الشرق هى الخالقة لهذه العاطفة لتكمل انسانيتها اذ اخفقت فى أحكام الصلة بين الاخ واخيه (ارجع الى مأساة قابيل وهابيل) . لذا فنحن لا نجد صدى فى الشعر العربى للصداقة بين الرجل والرجل بل كثيرا ما يتنكر ابن العم لابن عمه أما عن الصلة بين المرأة والرجل لا الصلة الجنسية فهى الغالبة والوفاء بينهما والهيام ببعضهما بعض هو المتداول وخاصة العلاقة بين الرجل وحبيبته لا زوجته ولعله السر فى أن لا يتمكن العاشق من التزوج بحبيبته أبدا . لهذا نجد عند كثير من شعراء الجاهلية حبا هو أقرب الى المحبة والانس رغم ما يظهر لنا من مادية فيه لان هؤلاء الشعراء عرفوا كيف يتخلصون من عاطفتها التى خلقوها بينما نجد شاعرا مثل جميل أو قيس ليلى يقع فى حبائل حبه فتكون مأساته .

أكاد أجزم أن عاطفة الحب هى من خصائص ثقافة الانسان العربى وبقيت هذه العاطفة تطبعه بطابعها وتجعله لا ينسجم مع العناصر المتشبعة بثقافات أخرى فمن تحدث عن الصداقة فى الادب العربى وأبرز خصائصها هو على ما أظن عبد الحميد الكاتب وقد هلك من أجلها ؟ وابن المقفع ألم يخصص صحائف وصحائف من رسائله تمجيدا للصداقة وألم يترجم كليلة ودمنة وفيه ما فيه من التعمق فى هذه العاطفة ؟ ألم يهلك هو أيضا فى ظروف غامضة ؟ والجاحظ نفسه ألم ير بنفسه الموت واختفى " مخافة أن يكون ثانى اثنين اذ هما فى التنور " كما قال ؟ كل هذا يجعلني أميل الى أن الصراع بين العرب والثقافة العربية وبين العناصر الجديدة يرتكز على فهم كل منهما للحياة فهما خاصا به . ولا أريد أن أقول ان العرب ربما ظفروا بالعاطفة التى تميز الانسان عن غيره وتكمل انسانيته أكثر من أى شىء آخر ، وهى الحب ، العاطفة التى عمت البشرية اليوم وأصبح كل منا يظن أنها غريزية . فتأثير العرب على الغرب كبير جدا من هذه الناحية وان انكر الغربيون ذلك

نرى من خلال هذا أن " اللهو " هو سر من أسرار الحياة عليه ترتكز انسانيتنا

ويكمن خلقنا لمقومات انسانيتنا فان حدنا عنه ووقعنا في حبائله كان عجز  وشقاؤنا وخوفنا . ولعل اخفاق " غيلان " فى سد المسعدى أتى من أنه أراد أن يخلق من دون أن " يلهو " فكان خوفه من العجز فعجز ، وكان ايمانه بقدرته على الخلق فخب : لم يظفر بكنه الحياة فعصفت به الحياة وأراد أن تكون شخصا بعيدا عن ميمونة امراته ولكنه بقى مثيلا لها فى جوهره اذ هى " دودته وداؤه " وليس سد غيلان الا عائقا دون اكتمال انسانيته ظنه الخلق فقتل به انسانيته وحتى فى اسطورة سيزيف أين المأساة ؟ هذا سيزيف يدحرج الصخرة الى القمة وهو ما حكمت عليه به الانهة ولكن لنتصوره أثناء جهده اليس هو يلتذ بذلك الجهد وخاصة عندما يصل قمة الجبل . فهل ينتهى دوره عند ذلك بمعنى موته ، لابد وانه يقذف مرة أخرى بهذه الصخرة الى السفح حتى يرجع من جديد الى عمله ولكن هل سيكون كشأنه فى أول الامر ؛ ان الاسطورة تسكت عمن يدخرج الصخرة الى الاسفل ولا اخال الا سيزيف هو نفسه الذي يدفع بها بدافع " اللهو " حتى يضمن الدوام لانسانيته .

كذلك ان من بين أساطيرنا الشعبية أن آدم عندما نزل الى الارض أخذ يلهو بشئ من القمح يدقه على حجر ثم صنعه خبزا وأخذ يلتقفه فافلت منه القرص وأخذ يتدحرج نحو السفح فجرى وراءه آدم كالطفل يجرى وراء الكرة فكتب عليه من ذلك الوقت هو وابناؤه أن يبقى الى أبد الآبدين يجرى وراء قوته . فحتى قوت الانسان سببه " اللهو " فماذا يكون من أمر بني آدم لو لم يجر أبوهم وراء هذا القرص ؟

ثم ان أخص خصائص الانسان اليوم هو العلم . وبربك كيف نشأ العلم ألم يكن " لهوا " من الذين يبحثون عن الكيمياء ؟ ألم يضع أول العلماء أنفسهم سخريه بين الناس ؟ ألم يكن العلم مغامرة ومقامرة وانطلاقا نحو المجهول ؛ ثم هو اليوم اصبح من متممات انسانية الانسان وأصبح أيضا سببا فى مأساته وخوفه ؟

لذا فالانسان ليس ملاكا لانه عند ذلك يفقد أخص خصائص انسانيته وهو " اللهو " أى بما فيه الخلق وهو ليس أيضا شيطانا اذ هو بذلك يفقد براءة " اللهو " وانطلاقته فاختار اذن أن يكون " بهلوانا " و " مهرجا " أفلا نعحب له ونضحك ونتجاوب معه فى الملاعب ؟ وبعد كل هذا يمكن أن نمضى الى أبعد حد فنقول ان الرياضة وهى " لهو " هى من الثقافة أى من العناصر المكملة لانسانية الانسان .

فلم يبق اذن الا ان أقول ان الثقافة ترتكز على عنصر " اللهو " الخلاق اذ هو الذى

تقوم عليه انسانية الانسان وانها تبتعد بهذه الصفة عن الصورة التى يحاول الكثير من الناس أضفاءها عليها وهى صورة الوقار الخاوى والنظر العميق الذى لا يؤثر لا قليلا ولا كثيرا فى الحياة . فالثقافة اذن تقترب أشد القرب من الشباب وتشاطره هذه الخاصة التى طالما اتصف بها دون غيره وظلت عيبه الوحيد ولكنه ليس بعيب ولعل السبب فى ميل الكثير من الفلاسفة وخاصة " روسو " الى السذاجة والفطرة هو ما وجده فى الحضارات والثقافات من زيغ عن طريق الحياة الحق وما لمسه من تنكر لمعين الحياة الاصلى وهو " اللهو " . كذلك وحدنا شاعرنا الشابى يعنون ديوانه ب " أغانى الحياة " وهل أقرب الى اللهو من الاغنية كما نجد عدة قصائد تتردد فيها كلمة الحياة وخاصة لفظة اللهو وكأنه قد سئم " ثقافة " القوم فى ذلك الوقت ورآها بعيدة عن كل حياة فقال :

وأرى ابن آدم سائرا فى رحلة العمر القصير

ما بين أهوال الوجود ، وتحت أعباء الضمير

متسلقا جبل الحياة الوعر كالشيخ الضرير

دامي الاكف ، ممزق الاقدام ، مغبر الشعور

متنرنح الخطوات ما بين المزالق والصخور

هالته أشباح الظلام ، وراعه صوت القبور

ودوى اعصار الاسى ، والموت ، فى تلك الوعور

هذا هو الوجه الذى عرفه الشابى لابن آدم وقد أثرت فيه الدهور وأشباه الثقافات وزيفها وهو لا يريده هكذا بل يريده ويريد منا أن تكون متشبعين بكنه الحياة :

"واللهو" ، والعبث البرئ الحلو مطمحنا الاخير

لا نسأم اللهو الجميل وليس يدركنا الفتور

فكأننا نحيا بأعصاب من المرح المثير

وكأننا نمشى بأقدام مجنحة تطير

أيام كنا لب هذا الكون والباقى قشور "

وليس معنى هذا كله أن نرجع الى طفولتنا بل المهم ، أن نحافظ على نسخ الحياة فنزكيه وننميه حتى لا تتحجر ثقافتنا .

هذه خواطر خطها القلم تحتاج الى زيادة فى التمحيص ومزيد من البحث ولعلى سأرجع الى بعض منها بالدرس ان سنحت الفرصة

اشترك في نشرتنا البريدية