الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

الشحم والورم

Share

نظر بسطام أمامه يمنة ويسرة فتعجب . لكأن هذه الطريق التى يسلكها اليوم ليست تلك التي ما انفك يقطعها فى كل غدو ورواح . ما للجبال تبدو له هضابا ؟ وهذه الصخور ، وهذه الوديان ، وهذه الادغال ، التى كانت تملأه روعة ورهبة ، مالها ذليلة حقيرة ؟

وابتسم أهذا كل ما كان يخيفه ؟ أمن أجل هذا كان أبواه يوصيانه بلزوم الكهف العائلي ؟

لقد كان يأخذه معه للصيد . فكانت المغامرات وكانت الاخطار . وكان صراع الذراع العارية مع الناب والظفر والسموم . وكانت الغزوات يعودان اثرها منهوكى القوى مثقلين بالغنم السمين .

لكنه لم يغادر الكهف وحده قط . وحتى مع أبيه ، لم يكن يسبق أباه قط وكيف يسبقه وتلك الاصوات المخيفة تنبعث من الغاب بين عواء وخوار وزئير  وصفير فتملأه رعبا وتدفع به الى الاحتماء بالظهر الابوى العتيد .

لقد أفاق اليوم من نومه على أنات توجع أرسلها أبوه الشيخ فخيل اليه انه لم يكن من قبل يعرفه . لم يكن يرى عليه هذا الهزال . لم يكن يرى على وجهه ما رآه اليوم من شاحب الغضون ولم يكن يعرف لشعره كل هذا البياض . فلما رآه اليوم أدرك انه لم يبق له بالظهر الابوى احتماء . ولما رأى اليوم دموع أمه العجوز أدرك أنه مدعو لان يفعل شيئا .

لم يتردد

انتصب من مضجعه فتسلح بهراوة أبيه وتمنطق بخنجره العظمي وانطلق . . انطلق ليختبر ساعده .

فكان الاختبار تدشينا لساعده .

لقد كان عالة على أبويه . كان متعلقا بأذيالهما . كان لهما ظلا . كانت حياته فى حياتهما . لن يجوع اليوم لجوع أبويه . ثم لن يترك أبويه للجوع  والبرد والخوف .

لقد كان جبانا . كان ظهر ابيه ترسا له . كلا لن يجد الخوف الى قلبه

منفذا بعد اليوم ، وهل فى هذا الحصى المتناثر وهذه الحشائش القميئه وهذه السواقى الضحلة شىء يخيف ؟ .

لقد كان ضعيفا . لم يكن قادرا على مسيرة يوم . لم يكن قادرا على ومصارعة ذئب . لقد التفت عضلاته وقوى ساعده واكتنز لحمه وتلبد .  سيدوس الوحوش دوسا سيخضع لقدمه الجبل والغاب فيقتحم على السباع والضباع عرائنها والحجور . ويجتثها من مخابئها ذليلة صاغرة .

لقد كان طفلا ، كان غرا . كان يحسب الزئير والعواء تهديدا . وقد أدرك أن الزئير نحيب وأن العواء بكاء . ليملأن الغاب نحيبا وبكاء.

ولقد أصبح رجلا . هذا الزغب على وجهه يسود فيصبح شاربا ولحيته جمة ، وهذا صوته تتضخم نبراته فيغدو خشنا أجش .

نعم ، لقد أصبح رجلا . هذا الاسد الذى يحمله شاخب الدم شاهدا .

سيعود به إلى الكهف العائلى فيبهر أبويه العجوزين ويكفيهما مؤونة الصيد حتى يبدو الهلال الجديد .

انه يحب أبويه .

يحبهما لانهما انجباه فجعلا منه هذا الرجل الذى هو اياه .

سيجلب لهما الطمأنينة على طعام اليوم وأمن الليل سيقيهما الحر والقر سيضمن لهما الراحة ورغد العيش . سيذود عنهما بهذا الساعد الذى صنعاه

نعم . وسيجمع لهما زهورا لكى يدخل فى قلبيهما البهجة الفواحة التى حرماها .

وحط بسطام عن كاهله الاسد الذبيح . وشرع يجمع الزهور ويقطف الورود .

وفجأة توقف .

رأى فتاة ينوء ظهرها تحت عب كوم من الحطب . راها تنحنى وتتعثر . فاهتزت كبرياؤه .

انه قادر عل أن يكفيها مؤونة هذا الحمل الثقيل . انه قادر على تحمل اتعاب الناس جميعا . كلا ، لن يرضى لنفسه بان يقف هكذا بينما يسيل عرق النساء .

فاقترب . وطلب منها أن تحمل كتفه ما يرهقها فأجابت مبتسمة لاهثة : - لقد اعتدت حمل هذا واكثر .

فانتزع منها الكوم انتزاعا وتمتم :  - عبثا يستأسد الغزال

فنظرت اليه فى خفر واعتداد وقالت :  - وعبثا يتغزل الاسد

ونظر الى قامتها وهى سأئرة أمامه تهديه الطريق ، فأمتلأ نظره بغير ما كان مشحونا به .

تذكر انه شاب . هذا الدم الجارى فى شرايينه يذكره انه رجل شاب .  هذه العضلات وذلك الاسد الملقى هناك ، تذكره أنه ذو قوة يأنعة . وحتى هذا القلب فى صدره يخفق لغير ما كان يخفق له . فلم لا يلبى هذا النداء الجديد

لقد كان عالة على غيره . ولقد اصبح غيره عالة عليه . فلم لا تكون له عائلة .

نظر الى الفتاة السائرة امامه . هى مثله يانعة الشباب .

قالت له ان اسمها عاتكة وان أباها افترسه الوحوش وأن أمها عجوز وانه لا بعل لها .

فتعالت دقات قلبه المزعجة . وخيل اليه ان هامسا يهمس :  " انها هى ، ستكون هى "

واخذ يحادثها عن نفسه ، عن ابويه ، عن الاسد الملقى هناك ، عن الغد الملىء بالامل العريض . فاصغت خاشعة تشرب حديثه المتدفق كأنما تنهل ماء  السماء .

وفجأة قالت مشيرة الى كوة فى الجبل :  - تلك دارنا .

فارتعش وأجاب : - الا تريدين أن نجدد اللقاء ؟

واتفقا على الهلال الجديد موعدا ، وافترقا بعد أن أهداها باقة الزهور . وعاد الى كهفه العائلي يحمل الاسد الصريع . فنظر اليه أبواه فى اعجاب وقرأ فى عيونهما أملا وابتهال .

قالت الام للاب حينما جن الليل وانتشر الظلام :  - ولدنا اليوم رجل .

فأجاب الاب بين انكسار وانتصار : - أستطيع الان أن أموت هانئا . لقد ضمنت بقائى

أجابت الام : - كلا ، لن أنال الهناء حتى أضمن له البقاء .

وأفاق الابن من نومه على همس . فاذا مصيره فى الميزان . واذا أبواه يتفقان على أن يجمعه بابنة عمه زواج .

لم ينم باقى الليل ، تقلب وتقلب

هذا المصير فى الميزان اثقل وطأة من حمل السباع .

نعم انه حر فى أن يختار ، لكنه اختيار بين أمرين احداهما مر .

أيبر بألوعد أم يبر بالوالدين ؟ أيختار حرية العقوق أم يختار الطاعة للجميل ؟ أيفضل  اعتبار نفسه أصلا أم يفضل اعتبارها فرعا ؟

كلا لن يتنطع ، لن يتمملكة الغرور ، لن يتمرد الفرع على الاصل الحقيقى المتمثل في أبوية ، هما خلقاه . هما خلقا قلبه . فان خفق لغير ما اتفقا عليه فقد تمرد على خالقيه .

كلا ، سيحطم آمال يوم فى سبيل آمال العديد من الاعوام ،  ثم ، هل ترضى به عاتكة فرعا مقطوعا ؟ هل ترضى به عاقا ؟ كلا ، لن يرضى لنفسه بأن يكون الزوج الشريد .

وانتظرت عاتكة موعد اللقاء . وانتظرت اللقاء فى الموعد . وانتظرت اللقاء بعد الموعد . انتظرت بدون جدوى .

وعلمت يوما أن بسطاما تزوج بابنة عمه .

أطل هشام من زجاج السيارة على مشاهد الطبيعة وهى تتلاحق وتتدافع  فتعحب ، لكأن هذه الطريق الذى يطويها اليوم ليست تلك التى كان يطويها فى كل عطلة حينما كان يزاول تعلمه بالعاصمة . ما للحقول تبدو له قفارا ؟ وهذه المدن ، وهذه القرى التى كانت تملأ ، شوقا واعتزازا ، مالها ذليلة  وسخة ؟ وهذه الجموع التى تحوس بينها السيارة فى كل قرية ، مالها كئيبة محنية الظهور ؟

وتنهد

أهذه هي الارض التى كانت تدعوه بالشوق والحنين ؟ أمن أجل هذا الفراغ دعاه أبواه الى العودة فى هذه العطلة القصيرة ؟ وتذكر أباه

لقد كان يقوده الى مدرسة القرية صبيا ويرافقه الى المدرسة الثانوية شابا . كان يأبى عليه أن يعود الى المدرسة وحده ، كان يقول انه يخشى عليه زحام العودة ويخشى أن يحتاج الى شىء طارىء فيفقد السند .

وتذكر أمه وهى تشيعه بدموعها وتدس فى حيوبه النقود خلسة وتدعو له بالسلامة والصلاح

كان يعرف ما لقيه أيوه في سبيله من عنت الدهر وما رضيت به أمه لاجله من حرمان . كان يعرف هذا منذ كان صبيا رغم انه لم يسمع منهما قط تذمرا أو شكوى . فانكب على الدرس حتى بزكل زملائه وظفر بالمنحة الحكومية التى ضمنت له المأكل والمبيت وأدوات الدرس .

كان يعرف ما يلقاه بلده فى سبيله من عنت الدهر وما رضي به قومه لاجلة من حرمان . كان يعرف هذا منذ أصبح شابا رغم أنه لم يسمع منهم قط تذمرا أو شكوى . فازداد على الدرس انكبابا حتى انتزع نجاحه من البلاد الاجنبية انتزاعا .

لقد كان طالبا ، كان طفلا . كان جدولا . كان كل المطلوب منه أن يطيع أن يخضع ، أن يسمع ويصمت وأن يخفض الصوت ان سئل . كان واجبا عليه أن ينقاد للجموع صاغرا . كان فرعا . كانت حياته فى حياة الاصل الاجتماعية .

ولقد أصبح الطالب المطيع عالما يأمر . أصبح الطفل رجلا . اصبح الجدول ينبوعا . أصبح الفرع أصلا .

لقد آن أن يتكلم فيسمع الناس . وآن أن يرفع صوته فوق أصواتهم . وآن أن يمتد وقد انتزع منهم حياته .

هذه الشهادة التى يحملها تعنى كل هذا وأكثر

سيعود الى قريته عودة الظافرين . سيعود الى قومه عودة السند الامين وسيفخرون . ويحق لهم أن يباهوا به وقد انبثق من صلبهم أول دكتور فى العلوم الذرية .

وتذكر ما جاء في احدى رسائل أبيه . لقد قال له ان القوم فى بلده يهدمون القبور ويبنون على أنقاضها ما ينفع الاحياء .

وخيل اليه انه انه المحراب الجديد . وانه سيقوم على القبور منبعا يحيى شعاعه الرميم .

وابتسم نعم سيكون الشعاع الذى يحيى الارض الموات .

انه يحب قريته لانها انجبته فجعلت منه هذا الرجل الذى هو اياه .

سيجود عليها من علمه بما ينبت الرمال ويفجر الصخور ويستنزل السماء سيذود عنها بهذا الدماغ الذى صنعته .

لقد آن أن يسخر قواه لخدمتها كما سخرت قواها لخدمته .

وصل الى منزله العائلي فاقتبلته أمه مزغردة تعلو وجهها البهجة والبشر واقتبله أبوه مسلما ترفع رأسه الفرحة والفخر . واقتبلته عائشة ابنة عمه اليتيمة ، تلك التى قضى بجوارها أحلى أيام الصبى .

قال لها : كنت أول الناجحين

قالت : - هنيئا لك

قال : - بل هنيئا لنا

لقد كان يعلم انها خطيبته الموعودة . كان يعلم أنها أمنية العائلة وكان يعلم انها تنتظره كما انتظرته فى شوق يلجم ضجيجه الحياء .

قال لها : - سأعود الى فرنسا فأقضى بها شهرا كى أودع الاصدقاء وأربط الصلة الدائمة بالاوساط العلمية ، ثم أرجع اليكم .

رفعت رأسها فى ابتهال فاردف : . . ثم ارجع اليك .

وحان موعد السفر القصير . ورافقته عائشة مع من رافقوه الى المطار .  واتفقا على التراسل كل أسبوع .

ثم طار

وانتظرت عائشة نهاية الاسبوع وانتظرت رسالة الاسبوع . وانتظرتها بعد نهاية الاسبوع والشهر . انتظرت بدون جدوى .  وعلمت يوما أن هشاما تزوج بفرنسية .

اشترك في نشرتنا البريدية