الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

الشعر الشعبى بين الواقع واجبال

Share

أعجب دائما بقدرة الشاعر في حالات الاشراق والتجلي على تجاوز الواقع الذي يهز مشاعره لكشف الستار عن واقع من نوع آخر أوسع وأرحب هو من صنع وجدانه وخياله التصق بالنفس حتى يختلج بخلجاتها .

وهذا الشنفرى يصف لنا بدقة فى قصيدته الشهيرة : " لامية العرب " حياة الضباع والصعلكة والتمرد التى يعيشها بين الذئاب الجائعة الضارية التى تقاسمه محنته وضياعه فى الخلوات المجدبة التى تجعل من البحث عن القوت عملية منهكة .

واذا به يلجأ إلى أعالي الجبال بعد الطواف المضنى فى الصحارى ليعيش عند الاصيل لحظة من الدعة والطمأنينة والأنس تمحو فى نفسه ساعات الانقباض والوحشية والاغتراب : فيقدم لنا مشهدا بديعا نرى فيه الصعلوك الأشعث الأغبر قابعا تحيط به إناث الوعول السود فى صفرة تتهادى فى خطاها فيخيل اليه انها عذاري لبسن أثوابا طويلة يطفن حول صنم من الاصنام . وتشهد نفسه عملية تحول عجيبة عندما يفطن بأن الاراوى وهي إناث الوعول لا ينفرنه فيحس أنه تحول إلى وعل طويل القرن توسط الاراوى مزهوا مختالا

مشهد هادىء ساكن في أعالي الجبال يضمخه ذهب الاصيل المذاب . عواء الذئاب الجائعة تشق الفلاة عدوا وغارات الشنفرى المفزعة فى ليالي الشتاء المظلمة الباردة تبدو تافهة وقد انتهى به المطاف وذاق النعيم

ترود الاراوى الصحم حولي كانها عذاب عليهن الملاء المذيل

ويركدن بالاصال حولى كاننى من العصم ادفي ينتحي الكيح أعقل

وهذا عدى بن زيد يتأمل في صروف الدهر في قصيدة حزينة ويلاحظ انه لا يوجد على سطح الارض انسان فى مأمن من سطوة الايام ولو بلغ أعلى الدرجات في العزة والثروة والفلاح وان الموت فى جميع الحالات قاهر للجميع وقبور الملوك العظام تملأ الرحب . فيعود الى نفسه ويرعوى متحدثا على لسان النعمان بن المنذر ملك الحيرة . وتبرز عند ذكره قبور كل من ماتوا وكان لهم فى الحياة دوى وشهرة صورة أوراق الخريف التى تتلاعب بها الرياح وهي صفراء ذاوية خفيفة لا تقاوم :

فارغوى قلبه وقال فما غبطة حي إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح والملك والنعمة وارتهم هناك القبور

ثم صاروا كانهم ورق جف -فالوت به الصبا والدبور

إن الشعر الشعبي التونسي قادر في بعض الاحالات على بلوغ هذه القمم من الابداع الفنى

- ساتي ببعض الامثلة انتقيها مما جمعه والدى المرحوم عبد الرحمان قيفة فى الربع الاول من هذا القرن

أبدؤها بصورة حزينة يرسمها خيال شيخ يلاحظ واقع ما آل اليه . انه اصبح يمشى منحنيا ومتوكئا على عصا . فيبرز من وراء ذلك الواقع المعيش مشهد حقل من الشعير أو الحنطة انعفقت سنابله لان ريحا شمالية غربية أتية من المناطق الجبلية فى البلاد التونسية وهى أعنف الرياح قد جعلت سطحه وأمالت أعالي سابله :

الشيب ورائه   رجلى مع العكاز ولوا فى ثلاثه    

حتى زرعى طاب وبياض سفافه عقف من الارقاب والريح جبالي

صورة هذا الحقل الذي تهب عليه ريح عاتيه وقد نضجت حبوبه فابيضت اعالي سنابله صورة تسكن أعماق النفس سجلها الشاعر مرارا فى حياته فتجلت في لحظة من التأثر العميق في اتساعها ورحابتها معبرة بالصورة عن حالة نفسية معينة . هي صورة نفسية مخزونة إذا صح هذا التعبير تقابل الصورة الواقعية الدقيقة التى رسمها فى البيتين الاولين . وتتجاوب معها دون معاكسة لانها لا تتطابق مع الصورة الواقعية فى جزئياتها وتفاصيلها بل هي

وليدة جزئية واحدة لها وزنها وابعادها وهي انحناء البدن وتقويس اعلاه . لقد لعبت تلك الجزئية الموحية فى هذه العملية شبه الكيميائية دور مطلق شحنة متفجرة .

وانتقل الآن الى الغزل الشعبى عندما يسمو الشاعر الى مستوى الكشف والتجلى وأختار مقاطع تصف شعر الخليلة وعينها وقوامها متحولا من حالات الهدوء والسكينة الى الحركة البطيئة الفاتنة ثم الحركة السريعة الضارية

الشعر الاسود الكثف المتدلى على جانبى بدن المرأة يوحى بالثقل والهدوء والسكينة فيثير فى نفس الشاعر صورة صحاوية هادنة جميلة . وهي صورة الظليم أى ذكر النعام يحضن ادحي انثاه . والادحى هو بيض النعام اذا كان فى الرمل كومة سوداء ضخمة جائمة دون حراك فى فضاء شاسع من الرمال البيضاء :

وغثيت محدر زنزي خليقه قطاطي دقيقه

ظليم بسكرى سالك على طريفه    كارك على مدحاه

تعودنا فى الشعر الفصيح والشعبى العاديين بتشبيه نظرة المرأة بالنبل ترسله فيصيب حتى أصبحت الصورة مبتذلة فقدت تأثيرها لكثرة استعمالها

منطلق هذا الصنف من الصور هو الفزع الذي يشعر به الانسان عندما تطلع المرأة الجميلة الفاتنة عليه وترميه بلحاظها . فعند ذلك تحمر وجنتاه تارة ويصفر وجهه تارة اخرى وتصطك ركبتاه وتعلو عينيه غشاوة ويعجز عن الكلام ويهم بالفرار على حد قول أحد شعراء يونان

فالمرأة فى تلك الحالات تبعث في النفس فزعا يشبه فزع الانسان اذا شاهد جيشا زاحفا . يقول صاحب " نشيد الاناشيد " فى التوراة :

أنت جميلة يا حبيبتى كجيش زاحف

فالشاعر الشعبى فى حالة الحب الصادق الذي يستولى على النفس كلها يرى عندما ترميه المرأة بنظرتها مدفعيه ( طبجيا) واقفا على برميل البارود بقرب المشعل من جعبة المدفع لاطلاق القذيفة

والعين مدفع كسحوا باروده    كواه طبجى واقف على برميله

؟ متون حور تجاوزه الزمن لان المدافع أصبحت لا " تكوي " بهذه الطريقة لكنه حافظ على قوة ايجائه .

أما قوام المرأة أو قدها عندما تقبل علينا فانه أوحى بصور وتشابيه متداولة معروفة . فهي تشبه بشجرة عالية مستقيمة لينة تتثنى وأكثر الاشجار تداولا هو شحر السرول لانه يمتاز بتلك الصفات ، اما التشبيه بالغصون الناعمة اللينة كغصن البان فحدث ولا حرج .

فالصورة النباتية تبرز عندهم عندما تميس المرأة دون ابداء الخيلاء والسطو . عبقرية الشاعر الشعبى اذا كان موهوبا وتناول هذه الصورة تكمن فى قدرته على بث الحركة والحيوية فيها . فالمرأة تتمايل وتميس فتوحى بلين جسمها كشجرة سرول هب عليها النسيم . ولكن اذا هبت عليها ريح وهي مغروسة على ربوة فى " قصر " بدوي فان تمايلها يوحى بالعنف

خد صالحه برف عقب الشهر زهى فى النظر

قد صالحه سر وله فى قصر

خد صالحه برف وفين يليح رعده كسيح

قد صالحه سر وله يوم ريح

واذا كانت الريح عاتية فان شجرة السرول تثير الاعجاب لانها تغالب الريح فتسترجع كلما امالتها هذه استقامتها لحين فترى من فوق الجدار جدار القصر أو جدار البستان :

الفد سرولة على العين مثلناها رهيف عودها يجواد فى التمثيله

هفاها نسوم الريح لين تكاها لواها رقت فوق الجدار طويله

ولكن طلوع المرأة على الرجل الذى يهيم بها قد يثير فى الوجدان معانى العظمة والاحتفال .

وفي هذه الحالة نرى الشاعر الشعبي يشبهها بالسفينة العائمة فى الماء والمشاهد البحرية نادرة فى الشعر العربي عموما وفي الشعر الشعبى أيضا

ولكن لا يشبهها بأية سفينة لان الغرض ليس فقط الاشارة إلى حركة معينة للمرأة عند قدومها وهي التمايل بل ايضا الى ما تبعثه فى النفس من عواطف مختلفة وأهمها الاجلال والفزع

فهي إذا تهادت سفينة مستطيلة ذات مجادف مما يستعملها المجاهدون فى البحر الذين سموا بالقراصنة . وكان السلاطين العثمانيون يستخدمون ذلك النوع من السفن لخفتها وسرعتها وذلك لحمل الهدايا وفرمان الولاية لباي تونس عند توليه شؤون الايالة :

الفد قرصان داخل  غريفه وحامل وسيفه

للباى جاب الحكم والوثيقه  م الى كبير سماه

وعندما تكون المحبوبة ذات عنف وسطوة ودلال يعبر الشاعر الشعبى عن تأثره بتقديم مشهد عودة مظفرة من غزوة قام بها قرصان من قراصنة تونس وهو يعلن عن فوزه باطلاق نيران مدافعه وهو داخل الى الميناء :

الفد مركب محرب  زاير بحور الزخيمه

بمدافع الكور يضرب  م الروم جايب غنيمه

للوكر روح مسرب  هكاك هزعت فظيمه

هكاك هزعت فظيمه

هكذا طلعت قطيمة (تصغير فاطمة ) فجأة . وفي المفاجئة اثارة لخوف الشاعر فيرى أمامه مشهدا حربيا كان عاديا فى عهد من العهود

تلك أمثلة اقتنيتها تبين أن الواقع يدعو الى تجاوزه اذا عثرنا على العنصر الملىء شحنة الذى يختفى وراءه ويقدر أن يولد واقعا من نوع آخر أعمق والصق بالنفس

اشترك في نشرتنا البريدية