ليست مشكلة التجديد في الشعر العربي (*) حديثة العهد . إنها قديمة ترجع إلى القرن الثامن ، في أوائل العصر العباسي . كان النقاد ؛ آنذاك ، يعتبرون الشعر العربي ، من هذه الناحية ، عهدين يبدأ الاول قبل الاسلام بنحو مائة سنة ، آي في آوائل القرن السادس ، وينتهي بعد الاسلام بنحو مائة سنة أيضا ، وتسمى هذه الفترة فترة الشعر القديم . أما العهد الثاني فيبدأ بقيام الدولة العباسية أواسط في القرن الثامن ، حيث بدأت فترة الشعر المحدث .
يجمع هؤلاء النقاد أن الشعر العربى كان فى عهده الاول ، واحدا فى أصوله ومناحيه ، على الرغم من تباينه فى الصياغة والطريقة ومن التغير الذى طرأ على أغراضه فى بداية الاسلام ، اذ قوى شعر النسيب والهجاء ، ووجد الشعر السياسى . لكنه فى عهده الثاني ، تميز بطابع آخر . اتسعت أبعاده لتأثره بالحياة الجديدة ومصاحباتها الاجتماعية والفلسفية والعلمية وحاول ، بالتالي ، أن يعبر عن هذا التأثر بأساليب جديدة خاصة . هكذا بدأ الشعر العربى " يفسد " (1) فى نظر هؤلاء النقاد ، وبدأ شبه اتجاه شعرى جديد تمثل فى بشار ابن برد وابن هرمة والعتابى وابى نواس ومسلم ابن الوليد وابى تمام وابن المعتز والشريف الرضى وغيرهم - وهو اتجاه خرج به أصحابه على عمود الشعر العربي الذي حدده المرزوقى فى مقدمته لشرح " ديوان الحماسة " لابي تمام (2) .
نستخلص مما كتبه النقاد العرب (3) حول مشكلة التجديد ، الامور التالية :
أولا - الشعر الذي ولد مع بشار بن برد ومن جاء بعده من المجددين دخيل على الشعر العربى و " فاسد " كما يقول الآمدى . ولعل في تسميته محدثا ما يشير إلى آن النقاد كانوا يعتبرونه بدعة سرعان ما تزول .
ثانيا - الشعر العربى فى عهده الاول ، وحصرا الشعر الجاهلى ، هو النموذج الفني الاعلى ؛ له جماله المكتمل ، وله قيمته المطلقة الثابتة . هو ، اذن المقياس والقاعدة ، وأصوله نهائية وراسخة لا يجوز الانحراف عنها أو العبث بها أو تخطيها .
ثالثا - يشترط فى كل تجديد حق أن يكون متمشيا مع ذلك النموذج وأصوله (4) .
غير أن شعراء الاتجاه الجديد لم يحفلوا بهذه الاحكام النقدية ولا بمقاييسها . وقد عبروا عن تمردهم عليها ورفضهم لها ، بأشكال متنوعة . اتخذ بعضهم من القرآن الكريم ذاته حجة تؤيده فى تمرده ورفضه . (5) ونلمح في مواقف بعضهم سخرية من خصومهم وإحراجا لهم ، كما نلمح فهما عميقا للنقد وللشعر على السواء (6) . وسخر أبو نواس فى شعره من عقلية الشعراء الجاهليين وحياتهم ودعا للثورة عليهما وتخطيهما ، نحو العقلية والحياة الجديدتين ، (7) فى سبيل إيجاد لغة شعرية جديدة وقيم جمالية جديدة . ورافقت هذا كله محاولات ابتكار إيقاعات وأوزان شعرية لم يألفها العرب (8) .
حين ننظر في ضوء حاضرنا ، الى التجديد الذى حاوله أسلافنا فى الماضى وإلى ما أثير حوله آنذاك ، نرى المفارقات الغريبة التالية :
أولا - كان النقد يسير فى اتجاه والشعر يسير فى اتجاه آخر . كان النقاد يدافعون عن قيم موروثة ، وكانوا يتعلقون بالقديم ويستجيدونه لانه قديم وإن كان سخيفا (9) فى حين كان الشعراء يحاولون التخلص من سيطرة القديم وأشكاله ، ويحاولون أن يكتبوا شعرهم بأساليب جديدة ، قليلا أو كثيرا فليس في تاريخ الشعر العربي ناقد واحد وجه الشعر أو أثر فيه تأثيرا حاسما واكتفى النقد أن يكون صدى للذوق العام ، وتصنيفا للأفكار السائدة ، ودفاعا عن القديم ومطالبة باتباعه والنسج على منواله .
ثانيا - الشعر المحدث الذى اعتبره النقاد " فاسدا " هو الذى صح فى السياق الاخير ، والشعراء يتداولونه الآن أكثر مما يتداولون الشعر القديم الذي اعتبره أولئك النقاد النموذج الاكمل للشعر العربى ، فى حين أن النقد القديم هو الذى يستمر فى حياتنا وفى ثقافتنا ويسيطر ، بشكل أو آخر .
ثالثا - إن ما اعتبره هؤلاء النقاد فى الشعر المحدث خروجا على عمود الشعر العربي وانفصالا عنه ، نعتبره نحن الآن انسجاما معه وتكملة له . لقد أدرك بعض أسلافنا ضرورة التجديد ، وحاربوا فى سبيله ، وكسروا أطواقا كثيرة ، ومهدوا له ، الا انهم لم يخلقوا الجديد حقا ، وبقى الشعر العربى ، قديمه وحديثه ، أسير قالب واحد .
فحتى أبو نواس ، الشاعر الذى يعنينا من وجهة النظر الشعرية الحديثة أكثر من أي شاعر عربي قديم آخر ، كتب الكثير من القصائد التقليدية ، مسايرة وتقربا ومرضاة ، ولم يكن ثوريا كاملا .
هكذا لم يتمكن أسلافنا المحدثون ؟ من النهوض بالشعر العربى نهوضا حقيقيا (10) ورثوا شعرا قائما على الحساسية العفوية فتبنوه وأضافوا اليه عناصر فكرية وجمالية جديدة ، لكن هذه الاضافة لم تغير من شخصية الشعر العربى التقليدية ، فاستمر كما كان ، وبقى مادة تصهر وتصاغ ، ثم يعاد صهرها وصياغتها مرة ثانية .
لقد نشأ الشعر العربي وعاش فى عالم من الثبات ؛ ثبات الاطر الجمالية والموضوعات والاساليب واللغة والوزن . هذا الثبات ولد التكرار ، والتكرار أدى إلى أن تصبح الموضوعات أو المعانى آلية مجردة . فالشعر العربى ذو بنيان واحد ، تقريبا ، فى صيغه وأفكاره وحتى عواطفه ، وهو حشد هائل لمجموعة من الصفات المتعارف عليها ، في الجمال والمروءة والكرم والشجاعة وغيرها .
هذا الثبات عائد الى ثبات فى القيم والنظرة . كان عند العربى مثل أعلى للرجل ، ومثل أعلى للمرأة ، وكان الشاعر يحرص أن يكون ممدوحه أو حبيبته صورة حية عن هذا المثل أو ذاك . والمثل صفات كان كل شاعر يطلقها على كل رجل أو إمرأة ، بحيث يتعذر أن نتعرف على امرأة بعينها أو رجل بعينه من خلال هذه الصفات . ذلك أنها ليست صفات شخص نراه ونعيش معه بل صفات انموذج مجرد قائم فى الذهن . من هنا كان مضمون هذا المثل يتكرر لذلك أصبح جافا ورتيبا . ومن هنا نشأ اهمال المضمون باعتباره مهذولا للجميع ، كما كان النقاد العرب يقولون ، واتجهت العناية الى الصياغة .
لقد اكتفى الشاعر العربى أن يحصر دوره فى صياغة المادة التى وضعها بين يديه التقليد ، صياغة جميلة وجديدة ما أمكنه ذلك ، واكتفى النقد أن يلاحظ شكل هذه الصياغة وطرائقها ، وأن ينظر فى براعتها وجودتها ، أو في تفاهتها وابتذالها . ولا نجد ناقدا قديما واحدا درس الشعر فى عصره من حيث هو تجربة تضيء وضع الانسان وتفتح أمامه أبعادا انسانية مجهولة .
(3) لهوراس كلمة يقول فيها : " كان آباؤنا خيرا منا ، وآباؤهم خيرا منهم ، ونحن خير ممن سيأتون بعدنا " ، تلخص هذه الكلمة ، اذا أعطيناها دلالة شعرية ، وضعنا الشعرى فى الماضى والحاضر معا . فالمفاهيم الشعرية التى سادت فى ماضينا بقوة التقليد لا تزال مستمرة فى حاضرنا بهذه القوة نفسها . بل انها ازدادت حدة وتعقدا ، لكى تتمكن من الصمود أمام الحاضر المتغير الحي ، فارتبطت باتجاهات حضارية تتعلق بالمعانى الاخيرة للانسان والقيم أصبح الشعر جزءا منها ، وأصبح الخروج على القيم الشعرية الموروثة خروجا على هذه الاتجاهات ومصاحباتها السياسية والاجتماعية كلها . هذه المفاهيم صورة معادة عما كانت عليه فى الماضى . فهى تعتبر التراث الشعرى العربى (11) راسخا ومقدسا ، شأنه فى ذلك شأن اللغة التى تنقله . وترى أن كل ابداع أو تجديد حق يتحتم أن ينطلق بدءا من مقاييسه وأشكاله . فهناك نوع من ارتباط الشاعر بهذا التراث ارتباطا قدريا يوجهه ويقوده .
تجد هذه الاتجاهات فى الماضى ملجأ أمينا ثابتا ضد الحاضر الذى يتحول بشكل مفاجئ وغريب . فالماضى يقدم لها صورة محددة كاملة تريحها وتطمئنها ، بينما الحاضر متموج وليس له صورة ثابتة . اذ يصر اصحابها ، اذن ، على أن يبقى الشعر قائما على التقليد ، فلأنهم يرون أن ذلك يحفظ استمرار الثقافة ، ويوحد بين الماضى والحاضر . هذه الثقافة التى يشيرون بها ، ثقافة تعليمية . وكل ثقافة تعليمية هى ، بطبيعتها ، دائرية ؛ ذروة التقدم فيها هى طقس العودة الدائمة الى الماضى ، فليست الحياة فى هذه الثقافة ممارسة دائمة للمغامرة ، بل بقاء في ظل الحكمة والموعظة . ان في القديم ، كما كان يرى النقاد العرب وكما يرون حتى الآن ،
ضمانا ليس للاصول الاولى فحسب ، بل للحاضر والمستقبل أيضا . كأن ما كتب فى الماضى ، كتب فى مناخ من الكمال وانعدام الخطأ . هكذا يصبح القديم حقيقة أولية تؤدى الى اعتبار الشاعر القديم خالقا أعطى له ، بامتياز خاص أن يكتشف ، منذ اللحظة الاولى ، أسرار الشعر والجمال كلها . ومن هنا كان للقديم فى الحياة والذهنية العربيتين ، سحر يقتل عبقرية الحديث وجماله . فنحن قلما نكتشف عظمة الاحياء بيننا ، وربما اكتشفناها بعد أن يدخلوا في الماضى . كأن الماضى مخلوق على مثال نفسه ، وكأنه نور حياتنا - يضيئها ويحيينا .
لا تملك الذهنية التى تقدس القديم هذا النوع من القداسة ، الا أن تستمر فى إعادة تركيبه وفى احيائه ، فالثبات عندها قانون دائم . انها تعيش على قناعات نهائية في الفكر والروح ، وكل ما يهددها في هذه القناعات يزيدها تمسكا بالقديم واستعصاما به ، ويزيدها حدة وشراسة فى مهاجمة خصومها حتى أنها قد تضحى ، فى سبيل ذلك ، جميع القوى الثقافية الخلاقة .
هذه الذهنية لا تفهم النمو الشخصي المستقل عن التقليد والماضى ، ذلك أنها تعيش فى حالة شبه دينية - حالة من الوحدة الكاملة مع التقليد والماضى فلكل شيء جذوره فيهما ، وكل شيء يستمد قوته منهما ، وكل معرفة متضمنة ، سلفا ، فيهما . بهذا يصبح التكرار والتذكر أكثر أهمية من الاكتشاف والخلق ، ويصبح القديم أساسا ومحورا .
والحق أن القديم هو مركز الجاذبية والثقل في الثقافة العربية ، فهى لا تفهم الانسان الا وارثا ومكملا ، بحيث أن الحاضر والمستقبل ليسا الا نوعا من شرح القديم أو التعليق عليه .
(4) تستند الحركة الحديثة فى الشعر العربى الى الاسس الآتية : أولا - التمرد على الذهنية التقليدية ، الذى بدأه الشعراء القدامى , وانضاجه وايصاله الى اقصى ما تتيحه التجربة الشعرية - دون اى نوع من انواع الخضوع للتقليد . فلا يتم التجديد بالعودة الى التقليد أو بالتلاؤم مع أشكاله
الشعرية . ان فى مثل هذه العودة انفصالا عن الحاضر ، وتقييدا للحساسية ، وخيانة للواقع . التقليد ثبات والحياة حركة ، فمن يبقى فى التقليد يبقى خارج الحياة وكما أن الامانة للتقليد نفى للحياة ، فان الامانة لاشكاله وأساليبه الشعرية نفى للشعر . وكم يتحتم على هذا التمرد أن يكون جذريا وفذا اذا تذكرنا أن التقليد فى بلادنا ليس مجرد ايمان واقتناع وانما هو نظام حياة ونظام فهم للحياة أيضا .
ثانيا - تخطى المفهوم الذى يرى فى الشعر العربى القديم وثيقة جمالية وأنموذجا لكل شعر يأتى بعده ، أو مقياسا له ، أو اصولا أخيرة . هذا يؤدى الى تخطى الموقف الحضارى الذى يرافق هذا المفهوم - الموقف الذى يعتبر أن للتراث الشعرى العربى قيمة ، بحد ذاته ، وفي استقلال عن التراثات الشعرية الاخرى ، وأنه ، لذلك مبدأ وأصل وعالم مكتف بنفسه له خصائصه الحاسمة ونظامه المقدس ، وأن التقدم والابداع تشبه به وعودة دائمة صوب عصره الذهبي .
هذه الاسس التي تستند اليها حركة الشعر الحديث نفصلها في النقاط التالية :
أولا - الناحية الفنية : القصيدة العربية القديمة مجموعة أبيات ، أى مجموعة وحدات مستقلة متكررة لا يربط بينها نظام داخلى ، انما تربط بينها القافية وهى قائمة على الوزن ؛ والايجاز طابعها العام . وقد فسر هذا الشكل بسيطرة الروح القبلية عند العرب ، وبضرورات الحفظ والترنم .
مقابل هذه القصيدة العربية القديمة التى لا تزال مستمرة ، بشكل أو آخر ، حتى اليوم ، تنهض القصيدة العربية الحديثة . وإذا اردنا أن نقارن بينهما نجد أن الاولى ، اذ تقوم على وحدة البيت المتكرر المستقل ، وعلى القافية التى تنظم هذه الوحدة المتكررة ، واذ تلتمس جماليتها ، بالتالي ، فى جمالية البيت المفرد ، فان القصيدة الحديثة وحدة متماسكة ، حية ، متنوعة ، وهى تنقد ككل لا يتجزأ ، شكلا ومضمونا . والقصيدة القديمة صناعة ومعان ، بينما الحديثة تجربة متميزة . والقديمة لغة ذوق عام وقواعد نحوية وبيانية ، والحديثة لغة شخصية . ولا ضير فى تكرار المعانى بالنسبة لمفهوم القصيدة القديمة ، اذا كانت
صياغتها جيدة ، فى حين أن الفرادة وجدة الرؤيا من أهم عناصر القصيدة الحديثة ، والقصيدة القديمة قائمة على الوزن السهل ، المحدد ، المفروض من الخارج ، بينما تقوم القصيدة الحديثة على الايقاع ، والايقاع نابع من الداخل , لذلك هو ابتكار واستخدامه يتطلب قوة وبراعة وموهبة أكثر مما يتطلب استخدام الوزن . وهناك شكل واحد (12) فى القصائد القديمة كلها - بينما لكل قصيدة حديثة شكلها الخاص . وفى حين لا يتطلب ادراك الشكل فى القصدة القديمة جهدا ، فان ادراكه في القصيدة الحديثة يتطلب وعيا شعريا كبيرا . فهو يتناول معرفة الاجزاء فى مادة القصيدة ، وعلاقات هذه الاجزاء بعضها بالبعض الآخر ، وائتلافها فيما بينها ووحدتها . ومن لا قدرة له على هذا الادراك ، لا يقدر أن يفهم القصيدة الحديثة ولا الاشكال الشعرية الحديثة .
أضف الى ذلك أنه ليس من جوهر الشعر ، فى المفهوم الحديث ، أن يحفظ أو يطرب ، أو أن يكون موجزا أو موزونا ، أو محددا بالانواع الشعرية القديمة . هكذا يقلق الشعر الحديث ويثير ويقلب المفاهيم ، ويطول ويتنوع ، ما شاءت التجربة والموهبة أن يطول ويتنوع .
ثانيا - الناحية اللغوية : اللغة العربية شكل وجرس ، فى الدرجة الاولى أى قواعد مجردة قبل أن تكون انبثاقا من الحياة أو تطابقا مع الواقع . انها لغة ثانية إلى جانب اللغة اليومية الجارية . انها كما يعبر جاك بيرك لغة هبوط على الحياة لا صدور عنها (13) . لذلك هى لغة فكرية أو ذهنية ، وليست لغة حياتية ، ومن هنا ثبات أشكالها وتراكيبها .
التعبير الشعرى جزء من الحالات النفسية والشعورية ، والتعبير لغة . اللغة ، اذن ، كائن حتى يتجدد بتجدد هذه الحالات . واذا كان الشعور الجديد يعبر عن نفسه تعبيرا جديدا ، فان هذا يعنى أن له لغة متميزة ، خاصة يتضح ذلك اذا عرفنا أن مسألة التعبير الشعرى مسألة انفعال وحساسية وتوتر ، لا مسألة نحو وقواعد . ويعود جمال اللغة في الشعر الى نظام المفردات وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر ، وهو نظام لا يتحكم فيه النحو ، بل الانفعال أو التجربة من هنا كانت لغة الشعر لغة ايحاءات ، على نقيض اللغة العامة أو لغة العلم التى هى لغة تحديدات .
ان الشاعر العربى الحديث حقا يؤمن أن على اللغة أن تساير تجربته بكل ما فيها من التناقض والغنى والتوتر ، وبابعادها كلها . بذلك تبطل اللغة أن تكون ثقافة الذهن كما كانت فى الماضى ، لتصبح ثقافة الحياة ؛ تبطل أن تكون نموذجا جامدا ، لتصير كائنا تاريخيا .
ثالثا - الناحية الحضارية : ان تحرر الشاعر العربى الحديث من قيم الثبات فى الشعر واللغة يستلزم تحرره أيضا من هذه القيم في الثقافة العربية كلها . ولعل هذا الثبات فى الشعر واللغة عائد الى طبيعة هذه الثقافة بالذات .
ان الثقافة العربية ، فى جوهرها ، ثقافة دينية ذات بعد مدني - أى أنها نشأت فى أحضان الدين وتحت راية الدولة التى تحميه وتحكم باسمه . وتاريخ الفكر العربى يرينا الى اى حد كانت السيطرة الدينية قوية وحاسمة على المفكرين والفلاسفة ، مما اضطرهم الى توجيه ما يكتبونه فى اتجاه التوفيق بين العقل والدين ، بحيث جاءت الفلسفة العربية الاسلامية بعيدة عن الدين والفلسفة فى آن معا ، واقتصر دور الفلاسفة على أن يكون دور وساطة ونقل هذه الثقافة كما أشرنا سابقا ، تعليمية ، لذلك هي ثقافة غير شخصية : اى أنها لا ترتكز على تجربة شخصية ، بل على أفكار مجردة . انها طاعة لا حرية ، وتلقن لا اكتشاف . من هنا تتضح دلالة البعد المدنى فى هذه الثقافة ، ويتضح خطره أيضا : لا حرية - هذه هى البداهة الاولى فى حياة الشاعر العربى ، ليس على صعيد التجربة الشعرية فحسب ، بل أيضا على صعيد التجربة الميتافيزيقية - ومن ثم فى الحياة التى يحياها . فأى شاعر عربى يجرؤ أن يضع هذه الثقافة بأصولها الدينية والآلية ، موضع تساؤل أو شك أو رفض ، كما فعل نيتشه ، مثلا ، وغيره فى أوروبا ، بالنسبة للمسيحية - حضارة ودينا ؟
الثقافة العربية ، والحالة هذه ، عالم مغلق ، لا معنى فيه للزمان . فالعربي ، من الناحية الحياتية يتطور وفق حركة لا نهاية لها ، فى حين أنه مرتبط ، من الناحية الثقافية بقيم ثابتة يعتبرها صالحة لكل زمان ومكان . وفى هذا تناقض فاجع يعيشه كل منا .
من الضرورى ، فى هذا الصدد أن نشير الى مظاهر التمرد في التاريخ العربي ، على الصعيدين الشعرى الخاص والثقافى العام ، ضد هذا الثبات الذي تحدثنا عنه ، وضد الحدود التى يضعها بين الانسان والمعرفة . فهناك على الصعيد الشعرى شبه اجماع بين الشعراء والنقاد العرب القدامى على الفصل بين الشعر والدين . وكان هذا الفصل بمثابة الرد على الاتجاهات الدينية التى كانت تحارب الشعر فتعتبره عنصر غواية وتضليل أو تخضعه للأخلاق . (14)
لكن هذا التمرد ، على الصعيد الشعرى ، كان سلبيا واكتفى بأن يبقى الدين " بمعزل عن الشعر " كما يعبر القاضي الجرجانى . أما التمرد ، على الصعيد الثقافي العام ، فكان جذريا ومتنوعا ، يعارض ايمانا بايمان ، وحقيقة بحقيقة وثقافة بثقافة (15) .
لا بد للشاعر العربى المعاصر ، فى ضوء ما قدمنا ، من أن يتخطى قيم الثبات في تراثه الشعرى القديم وفى تراثه الثقافى ، على الجملة ، لكي يقدر أن يبدع شعرا في مستوى اللحظة الحضارية التى يعيشها . وكما هو طبيعي الا يعتبر أن في تراثه الشعرى قيما نهائية ، كذلك طبيعى أن ينظر الى تراثه الحضاري من هذه الزاوية . هكذا يصبح التراث العربى ، شعرا وثقافة ، جزءا من الحضارة الانسانية المتراكمة ، المستمرة ولا معنى لهذا التراث الا بقدر ما يندرج فى هذه الحضاره الانسانية ، وبقدر ما هو انسانى ، وبقدر ما قوامه الحرية والعقل ولا يلتمس الشاعر العربى المعاصر ينابيعه فى تراثه فقط ، وانما يلتمسها في هذا الكل الحضاري الشامل .
رابعا - ناحية الخلق الشعرى : ليس فى تاريخ الشعر العربى ما يشير الى اعتبار الشعر خلقا او رؤيا ، فقد اعتبر احساسا وصناعة . لهذا قلما وجه الشعراء القدامى عنايتهم للمضمون ، بل تركز اهتمامهم على الصياغة الشكلية ولم يكن الناقد العربى ينظر أو يهمه أن ينظر في ما أضافه الشعر أو يضيفه من عناصر التجديد ، وفي أهمية هذه العناصر بالنسبة للحياة العربية ، الثقافية والروحية ، وانما كان يكتفى بأن يبحث فيه عن المتعة واللذة . وهذا مما أدى بالشعراء الى عدم الاهتمام بايجاد أنواع شعرية أخرى غير الانواع التى ورثوها
ولا نجد تعليلا عميقا لذلك غير واقع الثقافة المغلقة التى نشأ فيها الشاعر العربي وتشرب أصولها ، ولم يخرج عليها ، أو لم يستطع تخطيها ، لعلة أو لاخرى .
ان من طبيعة الشعر الذى هو نبوة ورؤيا ، والذي هو خلق ألا يقبل أى عالم مغلق نهائي وألا ينحصر فيه ، بل يفجره ويتخطاه ، فالشعر هو هذا البحث الذى لا نهاية له - البحث الذى يظل بحثا . لذلك لا يقدر الشعر ان يتفتح ويزدهر الا فى مناخ الحرية الكاملة - حيث الانسان مصدر القيم ، لا الآلهة ولا الطبيعة ؛ حيث الانسان " هو الكلى على الاطلاق والحقيقة " (16) كما يقول محيي الدين بن عربي .
من هنا يتضح ما قلته آنفا من أن الشاعر العربى الحديث حقا ، لا يتخطى فقط الاشكال الشعرية التقليدية ومضامينها ، وانما المفهوم التقليدى ذاته للشعر . فلم يعد الشعر ، في وجهة النظر الحديثة ، مجرد شعور أو احساس ، أو مجرد صناعة ، بل أصبح خلقا ، وأصبح الشعر هو الانسان ذاته فى استباقه العالم الراهن وتوقع العالم المقبل . انه " خرق للعادة ، كما يعبر ابن عربى ، أي تغيير لنظام الاشياء ونظام علاقاتها ، وتغيير النظر الى العالم . من غير الطبيعى ، اذن ، أن يخضع الشاعر لقانون مفروض عليه . انه يخضع فقط لمواهبه وطاقاته ، فهو مبدع كل قانون أو نظام شعري .
هذا الخرق للعادة يتيح تغيير العالم ، فاذا كان مستحيلا أن يكتب الشاعر شعرا جديدا اذا لم يتغير من الداخل ويعش تجربة جديدة ، فان أهمية هذا التغير تزداد في تغير علاقاته مع العالم وفي تغير العالم ذاته . ان من مآسي الشاعر العربي المعاصر أنه يجد نفسه دائما محاصرا سجينا داخل الحياة اليومية , بقيمها وثقافتها الفاسدة المبتذلة ، وداخل المظاهر التي هى حدود وحجب دون الحياة الحقة . وربما ألف بعض الشعراء هذه المظاهر ، لعلة ما ، ورآها العالم الوحيد الممكن بحيث أنه يخنق أى غليان داخلى فى أعماقه ، معتبرا اياه عبثا ولهوا ، ويرضى أن يحيا فى جو منسحق أخرس يقضي على أخص خصائصه الانسانية .
من هنا طموح الشعر العربى الحديث أن يصير نبعا من الشرار والفتوة ،
أن يصير قوة غريبة خلاقة تبعث برؤاها الجزء الغامض من حياتنا ومصيرنا ، وتضيئه وتغنيه . انه يصير الفعل الذى نبدع به وجودنا ونعيد ابداعه باستمرار . كانت مهمة الشعر العربى فى القديم أن يلاحظ العالم ، فيجتره ويصفه أما دوره فى الوقت الحاضر فهو أن يعيد النظر أصلا فى هذا العالم ، أن يبدله ، أن يخلق ويرتاد ويجدد . انه ، الآن ، مغامرة فى الكشف والمعرفة ووعى شامل للحضور الانسانى .
(5) ليس فى اتجاه الشاعر العربي المعاصر هذا الاتجاه ، ازدراء للماضى أو انقطاع عن التراث ، كما قد يخيل للبعض ، وإنما هو استجابة للوضع الحضاري الراهن .
ومن البداهة أن الشاعر العربى المعاصر لا يكتب فى فراغ ، بل يكتب ووراءه الماضى وأمامه المستقبل ، فهو ضمن تراثه ومرتبط به . لكن هذا الارتباط ليس محاكاة للأساليب والنماذج التقليدية ، وليس تمشيا معها ، ولا بقاء ضمن قواعدها ومناخها الثقافى - الفنى - الروحى . فليس التراث عادة فى الكتابة أو مواضيع طرقت ومشاعر عونيت وعبر عنها ، انما هو طاقة معرفة وحيوية خلق ، وذكرى فى القلب والروح .
للارتباط بالتراث ، من هذه الناحية ، معنيان نوضحهما فيما يلى :
أولا - إذا كان يتحتم على شعرنا المعاصر ، لكى يكون جديدا حقا ، أن يقبض على لحظته الزمنية الحضارية ويصدر عنها ، فلا يكون اعادة أو اجترار أو اى نوع من أنواع الخضوع للتقليد ، فان الارتباط بالتراث هنا يكون ارتباط خلق واضافة واستباق .
ثانيا - واذا كان من غير الجائز شعريا ، أن نحكم على الحاضر بمقاييس الماضي ، فذلك يعنى أن هناك نوعا آخر من الإرتباط بالتراث ، هو ارتباط التقابل والتوازي والتضاد . ان الشاعر يظل ضمن تراثه مرتبطا به ، وان كان غير منسجم مع معطياته التقليدية أو متناقضا معها . فليس التراث الحي خيطا وحيد اللون ، أو صوتا يكرر نفسه ، بل هو قوى متنوعة ومتناقضة ، تنوع الحياة وتناقضها .
انا بقدر ما نحن بعيدون ، تاريخيا وحضاريا ، عن أبى نواس مثلا ، قريبون منه . لكن يبقى لنا وجودنا الخاص وتجربتنا الخاصة ، وبقدر ما ينبغي أن نعي صلتنا به ، علينا أن نعي انفصالنا عنه . ان للأثر الشعرى وجودا بحد ذاته مستقلا عن اشكال الوجود التى صدر عنها ، واذا كان هذا الاستقلال قائما بالنسبة للحاضر فكم هو بالاحرى ضرورى أن يكون قائما بالنسبة للماضي .
ثم ان رفض التقليد الذى نتحدث عنه والذى بدأ يتغلغل فى الثقافة العربية ويوجه الحركة الشعرية الحديثة ، ليس مجرد كلام سهل ، بل فعل خلاق . صحيح أنه يولد الغموض والفوضى ، ويثير الشكوك والتناقض ، الا انه ، في الوقت نفسه ، علامة الحيوية والوضوح ، وانه لدليل تحول أن تكون الفترة الشعرية الراهنة فترة ازمة ، ودليل ولادة رؤيا جديدة للشعر العربى . وبقدر ما ستكون تجارب هذه الفترة وأفكارها عميقة وجذرية ، فسوف تزداد هذه الازمة اتساعا وحدة .
لا يستطيع الشاعر أن يبني مفهوما شعريا جديدا الا اذا عانى أولا فى داخله انهيار المفاهيم السابقة ، ولا يستطيع أن يجدد الحياة والفكر ، اذا لم يكن عاش التجدد ، فصفا من التقليدية ، وانفتحت فى أعماقه الشقوق والمهاوى التى تتردد فيها نداءات الحياة الجديدة . فمن المستحيل الدخول فى العالم الآخر ، الكامن وراء العالم الذى نثور عليه ، دون الهبوط فى هاوية الفوضى والتصدع والنفي .
لقد انتهى عهد الثقافة الشعرية القديمة وعبثا نتمسك به وننفخ فيه ، عملنا اليوم هو أن نتخطاه الى عهد آخر وشرط هذا التخطى أن يتفجر مدهشا ومفاجئا ، لكي يستطيع أن يهز برودة الحياة وتقاليدها الجامدة .
هذا يفرض على الشاعر أن يتفرد لا فى الاشكال الشعرية فقط ، بل فى التجربة وابعادها ، كذلك ، يفرض عليه أن يجرب حتى الطرف الاقصى ، امكان تحوله ، متجاوزا العقبات التى تنهض في وجهه ، قاذفا خياله وشعوره خارج كل طريق مرسومة . فالشعر الذى يتكيف مع الواقع الثقافي الموروث ، يخون قضية الشعر الحق ، ذلك أن هذا الواقع ليس الا تنميقات واقنعة ، أعني أشكالا من الحياة خارج الحياة .
ثم ان العالم اطلاقا ، العالم الذى نعيش فيه ، لا يجوز أن يكون ولا يصح أن يكون ، غاية للشعراء واطارا لهم .. انه وسيلة لخلق عالم انضر واغنى . فما أضيق العالم وما أكثر ابتذاله ، اذا كان العالم الواقعي ، عالم الحساسية المشتركة ، هو العالم كله . ليس هذا العالم الواقعى الا بوابة تصلنا بالعالم الكبير الآخر ، العالم الذى يفتحه الشعر ويقود اليه .
والحق أن الشعر العربي بدأ يقرع أبواب هذا العالم الكبير الغني ، ذلك أنه ابتدأ ان يكون فعل خلاص وتحرر ، وان يكون حيث ينقلب دفعة واحدة شكل الفكر والحساسية وحيث يصبح العالم افقا من السر لا نهاية له .
(1) " أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ، ثم اتبعه أبو تمام .. ففسد شعره " ، ( الامدى ، الموازنة ص 13 ) .
(2) المرزوقي ، مقدمة شرح ديوان الحماسة ص 9 وما بعدها . يجعل عمود الشعر " خصالا " منها أن يكون الوصف صادقا فى العلوق ممازجا فى اللصوق ، يتعسر الخروج عنه والتبرؤ منه " وأن يكون المعنى وافيا شريفا صحيحا يقبله الذوق ويختاره ومنها أن يكون الوزن " يطرب الطبع لايقاعه ويمازجه بصفائه ، كما يطرب الفهم لصفاء تركيبه واعتدال نظومه ، " وأن تكون القافية " كالموعود به المنتظر ، يتشوقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه . ، ومنها " أن يقوم كل بيت ( فى الشعر ) بنفسه غير مفتقر الى غيره . " ثم يقول : " هذه الخصال عمود الشعر عند العرب ، فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها فهو عندهم المغلق المعظم والمحسن المقدم ، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والاحسان ، وهذا اجماع مأخوذ به ومتبع نهجه حتى الآن ."
( 3 ) نشير ، على الخصوص ، الى الكبار بينهم كمحمد بن سلام الجمحي وقدامة بن جعفر وابن رشيق والآمدى والجرجاني .
(4) يقول أبو عمرو بن العلاء عن الشعراء المحدثين : " ان قالوا حسنا فقد سبقوا اليه ، وان قالوا قبيحا فمن عندهم . " ( - الاغانى ، جزء 17 ، ص 12 . ) ويقول ابن الاعرابى وهو لغوى مشهور ومن أوائل النقاد : انما اشعار هؤلاء المحدثين مثل الريحان يشم يوما ويذوى فيرمى به ، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا ."
وكان اسحاق الموصلي يقول عن أبي نواس : " هو كثير الخطاء وليس على طريق الشعراء . " ومرة خاطب أبا تمام يلومه لانه لا يسلك مسلك الشعراء قبله - ؛ " يا فتى ، ما أشد ما تتكئ على نفسك ."
ويصف الجرجاني في كتابه " الوساطة " نقاد الشعراء المحدثين بأنهم فريق " يعم بالنقص كل محدث ولا يرى الشعر الا القديم الجاهلى وما سلك به ذلك المنهج وأجرى على تلك الطريقة . " وكان هؤلاء النقاد يسمون شعر بشار وأبى نواس وأضرابهما " ملحا وطرفا " وكانوا يستحسنون " منه البيت بعد البيت استحسان النادرة " ويجرونه " مجرى الفكاهة " ، أما أبو تمام وأضرابه في نظرهم ، فلم " يقرضوا بيتا قط ، ولم يقعوا من الشعر الا بالبعد ." ص 38 ، الاغاني - الجزء الرابع ، ص 273 ) .
( 5 ) حين سمع بعضهم قول أبي تمام :
لا تسقني ماء الملام فانني صب قد استعذبت ماء بكائي
أخذ وعاء وذهب يطلب منه في شيء من السخرية قطرات من ماء الملام هذا ، فيجيبه أبو تمام بانه لن يعطيه ما يريد أن يأتيه بريشة من " جناح الذل " وهو يشير الى الآية : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ... " ) ( الاسس الجمالية في النقد العربي ، عز الدين اسماعيل ص 186 ، القاهرة 1955 )
(6) يروي الخليل بن أحمد عن رجل أنشده قوله : ترافع العز بنا فارفنععا ، فقال له الخليل : ليس هذا شيئا . لكن الرجل رد قائلا كيف جاز للعجاج أن يقول : تقاعس العز بنا فاقعنسسا ، ولا يجوز لي ؟ - ( ابن شرف القيروانى ، رسائل الانتقاد ، ص 326 )
ولقي ابن مناذر بمكة حمادا الارقط فقال له : أقرىء أبا عبيدة السلام وقل له : يقول لك ابن مناذر : اتق الله واحكم بين شعرى وشعر عدى بن زيد ، ولا تقل ذلك جاهلى وهذا اسلامى وذاك قديم وهذا محدث ، فتحكم بين العصرين ، ولكن أحكم بين الشعرين ودع العصبية . - ( الاغانى ، الجزء 17 ص 12 )
( 7 ) الامثلة على ذلك في شعره كثيرة ، نكتفي منها بايراد ما يلي :
لتلك أبكى ولا أبكى لمنزلة كانت تحل بها هند وأسماء
حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها وأن تروح عليها الابل والشاء .
دع الاطلال تسقيها الجنوب وتبلى عهد جدتها الخطوب
بلاد نبتها عشر وطلح وأكثر صيدها ضبع وذيب
ولا تأخذ عن الاعراب لهوا ولا عيشا ، فعيشهم جديب
أحسن من سير على ناقة سير على اللذة مقصور
عاج الشقى على دار يسائلها وعجت أسأل عن خمارة البلد
لا يرقئ الله عيني من بكى حجرا ولا شفى وجد من يصبوالى وتد
قالوا ذكرت ديار الحي من أسد لا در درك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس واخوتهم ليس الاعاريب عند الله من أحد
ببلدة لم تصل كلب بها طنبا الى خباء ولا عبس وذبيان
وما بها من هشيم العرب عرفجة ولا بها من غذاء العرب خطبان
لكن بها جلنار قد تفرعه آس ، وكلله ورد وسوسان
قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس
( 8 ) من الشعراء الذين حاولوا ابتكار أوزان جديدة أبو العتاهية ، وحين قيل له أنه خرج على العروض قال : " انا اكبر من العروض " - الاغاني , المجلد الثالث ص 254 ، وتضيف الاغانى قائلة عنه : " وله أوزان لا تدخل فى العروض ."
ومنهم من حاول الخروج على نظام القافية الواحدة . فكتبوا قصائد سميت المزدوجات ، كبشار بن برد ، وأبان بن عبد الحميد اللاحقي ، وأبي العتاهية ، وابن المعتز .
بل أن من الشعراء من حاول التخلى عن القافية . فقد ورد فى كتاب " العمدة " لابن رشيق ( الجزء الاول ، ص 120 ) أن " الامين بن زبيدة قال لابى نواس مرة هل تصنع شعرا لا قافية له ، فقال : نعم ."
ويورد الباقلانى فى كتابه " اعجاز القرآن " ( ص 84 ) مثالا على شعر خال من القافية هو هذا المثال :
رب أخ كنت به مغتبطا أشد كفي بعرى صحبته
تمسكا مني بالود ولا أحسبه يغير العهد ولا
يحول عنه أبدا فخاب فيه أملي
( 9 ) ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، ص 16 . (10) لهذا الفشل أسباب ، منها ما يتصل باللغة والدين والثقافة اجمالا ومنها ما يتصل بشخص الشاعر نفسه ومواهبه ، ليس هنا مجال الكلام عليها .
(11) القديم الذي كان النقاد العرب يعتبرونه النموذج الاكمل ، والمحدث الذي كانوا يعتبرونه فاسدا .
( 12 ) تجدر الاشارة الى الاستثناءات فى بعض قصائد ابى نواس وابن الرومى ، فقد ادخلا العنصر التحليلى بحيث أصبحت معهما القصيدة العربية التى هى تركيبية بطبيعتها ، قصيدة تحليلية .
ثم هناك في النقد العربي القديم ما يشير الى نوع من الوحدة في القصيدة فالجرجاني يتحدث عن " استهلال ، وتخلص ، وخاتمة " والمرزوقي في مقدمته للحماسة يتحدث عن " التحام النظم والتئامه " لكن ذلك يظل بعيدا عن المفهوم الحديث للوحدة . فوحدة القصيدة الحديثة تقوم على بنيتها الشعورية والفكرية . كذلك وجدت فى الشعر العربى القصائد الطويلة ، لكنها كانت مجموعة من العواطف والمعاني والآراء ، وليس هناك فكرة عامة توجهها وتسيطر عليها .
(13) راجع " العرب أمس وغدا ، ص 173 وما بعدها ، باريس 1960 . (14) نكتفي هنا للتدليل على ذلك الاجماع بايراد بعض آراء النقاد ، في هذا الصدد .
يقول ابن قتيبة : " هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية ، فلما جاء الاسلام سقط شعره . " ( الشعر والشعراء ، ص 170 . )
ويقول القاضي الجرجاني : " ... فلو كانت الديانة عارا على الشعر وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم ابى نواس من الدواوين ، ويحذف ذكره اذا عدت الطبقات ، ولكان أولادهم بذلك أهل الجاهلية ، ومن تشهد الامة عليه بالكفرة ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعري واضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعاب من أصحابه ، بكما خرسا ... ولكن الامرين متباينان ، والدين بمعزل عن الشعر " ( الوساطة ، ص 50-51 )
ويقول الاصمعى : " الشعر نكد بابه الشر ، فاذا دخل فى الخير ضعف " ( وردت هذه الكلمة في " الاسس الجمالية في النقد العربي " لعز الدين اسماعيل ، ص 179 ، القاهرة 1955 )
ويقول ابن ابى عتيق : " لشعر عمر بن أبى ربيعة نوطة فى القلب وعلوق بالنفس ودرك للحاجة ليست لشعر ، وما عصى الله عز وجل بشعر أكثر مما عصى بشعر ابن ابى ربيعة . " ( الاغاني ، الجزء الاول ص 108 ، ) ويقول قدامة بن جعفر : " وليس فحاشة المعنى فى نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه . . " - ( نقد الشعر ، ص 14 ).
ويتكلم عبد القاهر الجرجانى على الذين زهدوا فى رواية الشعر وحفظه وذموه انسجاما مع التعاليم الدينية ، فيقول : " لا يخلو من كان هذا رايه من أمور ، أحدها أن يكون رفضه له وذمه اياه من أجل ما يجده فيه من هزل سخف أو هجاء وسب وكذب وباطل على الجملة ، والثاني أن يذمه لانه موزون مقفى ويرى هذا بمجرده عيبا يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه . والثالث أن يتعلق باحوال الشعراء وانها غير جميلة فى الاكثر ويقول : قد ذموا فى التنزيل وأى كان من هذا رايا له ، فهو فى ذلك على خطا ظاهر ." ( - دلائل الاعجاز , ص 9 ) . ( 15 ) نشير هنا الى الحركة الصوفية الى الحلاج والسهروردى ، بشكل
خاص . نشر ايضا بشكل خاص الى جابر بن حيان ، وابى بكر محمد بن زكريا الرازى ، وان الراوندى وغيرهم من المفكرين والفلاسفة الذين ثاروا على التقليدية فى الفكر الاسلامى ، وتردد فى كتاباتهم القول بقدم العالم ، خلافا للتعاليم الدينية ، وانكار الخلق المستقل والنبوة والوحى ، وساد لديهم حب المعرفة للمعرفة ذاتها وحس البحث والثقة بالعقل الانسانى انه قادر على اكتشاف الحقيقة بقوته هو ، لا تلقينا ولا ايحاء .
ولعل أوضح ما يعبر عن هذه الثورة ضد ثبات القيم ، على الصعيد الثقافي ، هو الايمان بالعقل ايمانا لا حد له ، وقد عبر الرازي عن هذا الايمان أعمق تعبير بقوله : " وبالعقل أدركنا جميع ما ينفعنا ويحسن ويطيب به عيشنا ، ونصل الى بغيتنا ومرادنا . واذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته ، فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته ولا ننزله عن درجته ، ولا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه ، ولا وهو الزمان مزموما ، ولا وهو المتبوع تابعا ، بل نرجع ، فى الامور اليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه ، فنمضيها على امضائه ، ونوقفها على ايقافه ." ( رسائل فلسفية لابى بكر محمد بن زكريا الرازي ، الجزء الاول ص 18 ، باول كراوس ، القاهرة ، 1939 ) . راجع أيضا من تاريخ الالحاد فى الاسلام ، لعبد الرحمن بدوى . ومن المفيد بالمناسبة ، أن نورد لابن الراوندى نصا يكمل نص الرازى يقول فيه : " ان الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته ، فلم أتى بما ينافره ان كان صادقا ؟ " - ( من تاريخ الالحاد فى الاسلام ، ص 102 ) ( راجع ايضا " الانسانية والوجودية فى الفكر العربي " لعبد الرحمن بدوى ص 53 وما بعدها ، القاهرة 1947 ) . ( 16 ) انشاء الدوائر ، ص 21-22 ) .
