ابن الأرض :
فى ربيع سنة 1974 كنت في ضاحية سيدي منصور بصفاقس أملأ ناظرى بجمال البحر وروعة البساتين ، وأشنف سمعى بخرير المياه وزقزقة العصافير وأمني النفس بجلسة شعرية طيبة مع شاعر الطبيعة والارض الصادق الفقى وقد ادركت وأنا فى الطريق الى بيت الشاعر سر تغنيه بجمال الطبيعة واحتفائه بالأشجار والثمار والأزهار وكل ما تنتجه الارض الحبيبة
وقد عمق ادراكى لهذه الحقيقة حين اتصلت بالشاعر وشاهدته - بالرغم من آن بضعة شهور فقط تفصل بينه وبين الثمانين - يثير الارض من حول الاشجار ويزيل عنها الحشائش والطفيليات ويشذب ما هو في حاجة الى التشذيب منها وكأنه الفلاح الحنون يشده الى الارض حب ، ويصله بها هوى ولا عجب فى ذلك ، فنشآته الاولى فى أحضان هذه الارض قد نمت فى نفسه حبها ، وهيات له الاسباب النفسية فيما بعد ، سبيل التفاني في الدفاع عن حرمه الارض الوطنية ، وطريق السمو الى المكانة المرموقة بين شعراء تونس القوميين
حدثني الشاعر عن نفسه فقال انه ولد فى الثاني من شهر مارس سنة ألف وثمانمائة واربع وتسعين وانه بعد حفظ القرآن الكريم التحق باحدى المدارس العربية الفرنسية آنذاك وتحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة 1910ثم التحق بجامع الزيتونة بالعاصمة الى ان تخرج بشهاده التطويع سنة 1915 .
وطال الحوار بيني وبين الشاعر ، وأخذت منى الصفحات المخطوطة من شعره حظا من وقت ومن كل هذا وذلك انتهيت الى الحقائق التالية :
لقد نشأ الشاعر في عائلة شعبية تعيش الحياة العادية التى كان عامة الشعب يحبونها ، وكان أبوه محمود يشتغل بالبناء ولم يكن يخطر بباله قط انه سيورث ابنه مهنته البنائيه مع ملاحظه الفارق بين بنائه هو للمنازل ، وبين بناء ابنه للقصائد الشعرية
وقد كان فى امكان الشاعر بشهادته الابتدائية ، أن يحصل على عمل وظيفي طيب ولكن أباه - بالرغم من أنه لم يكن من أهل اليسار - لم يكن راضيا عن اشتغال ابنه بغير مهنة البناء حتى لا يكون خاضعا لاحد الاستعماريين تابعا له بحكم عمله .
وقد روى لى الشاعر انه بعد أن تحصل على الشهادة الابتدائية انطلق يبحث عن عمل فقال أبوه - وكان معجبا بما يلقى فى حلقات الدروس بالجامع - اما أن تتابع الدراسة أو تشتغل بمهنة البناء فهي مهنة أبيك وأنا افضل لك الدراسة ولا أرضي أن تشتغل عند الاجنبى فتخضع له بحكم عملك معه
وهكذا أتم الشاعر دراسته وتحصل على شهادة التطويع فاشتغل مدرسا ببعض المدارس القرآنية ثم المدارس الدولية وفي سنة 1945 أسندت اليه ادارة أولى المدارس القرآنية للبنات وهي مدرسة الفتاة القرآنية ، بصفاقس التى كان لها الفضل فى تغذية الكثيرات من بناتنا بمبادئ الثقافة الاساسية ، والتي ظل الشاعر يعمل بها الى أن أحيل الى التقاعد سنة 1953
وسألت الشاعر عن محاولاته الاولى فى الشعر فقال انها كانت كالمحاولات الاولى لغيره من الشعراء الزيتونيين اذ ينظمون بعض أفكارهم وعواطفهم بمناسبة ختم الدروس بالجامع الاعظم
ولكن هذه المحاولات الاولى لم تعش طويلا على ما قاله لى الشاعر فقد أصبحت للشعر فى نظره رسالة قومية واجتماعية سمت به عن مستوى تلك المناسبات الاولى .
وهذا ما حدده هو فى قصيدته ) يا شعر ( اذ يقول :
يا شعر مدد صوتك الرنانا واملا بحسن أدائه الأكووانا
بلغ رسالتك التى بنيت على أسس الطهارة حكمة وبيانا
شاعر الاحداث : 1 ( الوجود الوطني :
لو كان لنا أن نحكم على نزعة الشاعر بنسبة ما يكتب لعددنا الشاعر الصادق الفقى أبرز الشعراء التونسيين احساسا بالقومية العربية كما نعد الشاعر محمد الشاذلى خزنة دار ابرزهم احساسا بالوجود الوطني والشاعر الهادى المدنى أبرزهم احساسا بالنزعة الدينية والشاعر سعيد أبا بكر أبرزهم احساسا بالواقع الاجتماعى وهكذا
ولكن الاحساس بالوجود القومى لا يمكن أن يفيض من قلب الشاعر الا متى تشبع بالوجود الاقليمي الوطني وعلى هذا فنحن سننظر أولا فى آثار الشاعر الوطنية لنتجاوزها بعد ذلك الى ماله صبغة قومية .
واننا اذا نظرنا الى الوجود الاقليمي الوطني تجلى لنا أن الشاعر لم يكن في معزل عن الحياة الشعبية بل كانت له صلات روحية مع زعماء الحركة الوطنية الدستورية فهو يمجد أعمالهم ويخلد بوطولاتهم ويدعو الى الالتفاف من حولهم حتى تكون الحرية للوطن والعزة للشعب .
وها هو فى هذه الابيات يتحدث عن تونس وعن مأساتها متخذا من تجلية المفارقات بين ماضيها العزيز وحاضرها الذليل سبيله الى تصوير تلك المأساة يقول :
يا تونس ارتزقت من أرضك الامم كيف استذل بنيك النحس والسقم
يا جنة كنت بالجوزاء ساخرة حتى دهتك دواهى البأس تنتقم
ويتخلص الشاعر من هذه المقارنة بين الماضى وبين الحاضر ليكشف عن سبب الداء واذا بوجه الخلاف يطل علينا ومن ورائه وجه الجهل . نفس الطريق الذى سلكه معاصروه أو يكاد . واذا بصوت الشاعر يهتف بالدعوة إلى الاتحاد والوئام والتكاتف وطلب العلم مصورا الحاضر المؤلم المرير وقد خيم عليه الجهل وضربت بين بنيه أيادى الخلف والشقاق ومنبها الشعب الى واقع مأساته :
يا أمة وقفت بالجهل حائرة قد راشقتك نبال الخسف تخترم
نعم تلاشت وذئب الجهل شتتها فالشمل مفترق والشعب منقسم
وللشاعر قصيدة أخرى قالها على لسان الطلبة ، فيها ما فى هذه من دعوة الى العلم والتالف جاء فى بعضها قوله :
ان يكن فرط الكبار فانا نبذل النفس في سبيل البلاد
وجدير بنا وان طال عهد أن نحيى مآثر الأجداد
واذا تجاوزنا القضايا الوطنية العامة لننظر في بعض المناسبات ذات الصبغة الخاصة لطالعتنا للشاعر آثار عديدة من أولها قصيدته التى قالها فى حادثة الخامس من أفريل سنة 1922 وهي التى أعلن فيها محمد الناصر باي تنازله عن العرش تضامنا مع الشعب والتى كان من نتائجها تظاهر الشعب تأييدا للباى
لقد صور الشاعر الفقي هذه الملحمة البطولية التى كان الباى بطلا لها ومن ورائه مجموع الشعب فى قصيدته ) تأييد ( التى يقول فيها بعد تصويره لموقف الباي وافتدائه الشعب بتاجه وعرشه وملكه :
هتفوا لمن ألقى اليهم تاجه يومي الى عهد الامان الغابر
والشعب لا يرضى لغير مليكه تاج الامارة فى الزمان الحاضر
ولذا جثوا حول الحمى وتوسلوا وعلا الدعاء الى العزيز القاهر
ويموت الباى اثر هذه الحادثة فى ظروف غامضة وتمر الايام والشهور وتحل الذكرى الاولى فتثير فى قلب الشاعر احساس الوفاء والاخلاص وتنطقه قصيدته الثانية التى يقول فيها :
يفنى الملوك وذكرهم يتجدد وجميلهم طي العصور مخلد
ونعرج على حادثة أخرى كانت قد وقعت في أواخر سنة 1932 وهي المتمثلة فى فتح فرنسا لابواب التجنيس بالجنسية الفرنسية أمام التونسيين فقد وقف الشاعر الفقي ضمن من وقف فى وجه هذه المحاولة الاستعمارية وأخذ يتهجم فى عنف على الطائفة المتجنسة التى اختارت طريق الزيغ والانحراف ليتحول بعد ذلك الى الافتخار بالمجد العربى والجنسية العربية ويعلن عن تصميم الشعب على السير فى طريق النضال حتى يتم النصر . فيقول فى قصيدته ) وطن ( :
جنسى رفيع لا يتاح ولو بملء الارض من ذهب ترق حلاه
انا بنو القوم الذين تسابقوا نحو الهدى فتبوأوا مثواه
ان شئت من شرف النبى محمد أو شئت من نسب يرن صداه
ومن الاحداث الوطنية البارزة التى كان لها أكبر الاثر على انطلاقة تونس عبر الطريق الاستقلالي زيارة رئيس الحكومة الفرنسية ) منديس فرانس ( الى نونس سنة 1954 ووعده خلالها بتمكين التونسيين من ممارسة حقوقهم في الحرية والاستقلال
وقد تفاعل الشاعر الفقي مع هذا الحدث العظيم وعبر عن تفاعله هذا فى قصيدته ) بشريات ( التى مطلعها :
ألهم الله رشده وهداه قادة الشعب كي يعيدوا النظاما
ويصدوا عوامل القمع والترويع خوفا من أن تزيد احتداما
وقد كان من أثر هذه الزيارة والوعد - كما يوحى بذلك مطلع القصيد - أن دب الخلاف بين صفوف الشعب وبين قادته خاصة وأصبحت بذور الفتنة تهدد بالانفجار وقد أدرك الشاعر ما يتهدد البلاد من أخطار فدعا فى قصيدته ) تصافحوا ( الى نبذ الخلافات والعودة الى حاكم العقل
كفى بني العم ما قد شب من فتن وما تفشى من الشحناء ألوانا
لقد تداعت صروح الود وانطمست معالم الرشد اهمالا ونسيانا
ماذا التقاطع والتحرير وحدكم الستمو يا بني الخضراء اخوانا ؟
هذا هو الشعر الواعي . لقد أدرك الشاعر أن مثيرى الفتنة لم يكونوا على حق . وكيف يكونون كذلك وهم الذين اختاروا طريق التقاطع بعد أن وحدهم التحرير ماذا التقاطع والتحرير وحدكم ؟ "
ثم هو يتوسل بالدماء المراقة وبالدموع المنهمرة وباليتامى والارامل وبالشعب كافة حتى يسعى الجميع الى ضم الصفوف ونبذ الخلافات فيكتمل للبلاد استقلالها وللشعب حريته
كونوا بناء قوى السد تحرسه كتائب الحق انصارا وأعوانا
حتى يتم لنا استقلال دولتنا وتنطوى صفحة الماضي وينسانا
2 ( الوجود القومى :
ما يجب أن تلفت اليه النظر أولا هو ان مفهوم القومية ومفهوم الدين لا يكادان يتميزان في وعى الشاعر ووجدانه بل انهما ليتمازجان امتزاجا كليا
ويتشاركان جميعا فى امتلاك مشاعره وأحاسيسه . كيف لا وقد كانا ينبعان من مصدر واحد هو مصدر التراث المجيد والحضارة العربية ؟
ولم يكن هذا شأن الشاعر وحده بل كان شأن أبناء الشعب جميعا فلا اسلام دون عروبة ولا عروبة دون اسلام . وبهذا المفهوم يمكن أن ننظر الى موقف الشاعر من الثورة الكمالية باعتباره موقفا قوميا :
أ ( مع الانقلاب الكمالى
لقد خرجت تركيا من الحرب العالمية الاولى - وهى قاعدة الامصار الاسلامية انذاك - تجر مخلفات الهزيمة والخيبة ولولا أن قيض الله لها بعض رجالها المخلصين لاقتسمتها الدول الغربية كما اقتسمت بعض ولاياتها . وكان من أبرز هؤلاء الرجال المخلصين مصطفى كمال وجماعته الذين استطاعوا أن يكتشفوا آثار الهزيمة وأن يحققوا الانتصارات المتتالية التى ما كان لهم أن يحققوها لولا استبسالهم فى الكفاح ولولا دقة التنظيم الحربى التى توخوها ولولا العقلية العسكرية النفاذة التى كانت تقودهم والتى كان مصطفى كمال يتمتع بها .
هذا هو المعتقد الغالب فى الاوساط العربية والاسلامية وهو الذي دفع بالمسلمين والعرب الى أن يهللوا للانتصارات الكمالية ويعتبروها انتصارات لهم وقد كانوا يؤملون أن يوطد رجال الانقلاب حكم الاسلام وان يجمعوا اشتات المسلمين فى دولة قوية . وكان مصطفى كمال فى نظرهم المعد لانقاذ المسلمين لم يبعثه الله الا ليحررهم ويعيد اليهم أمجاد الاسلام العظيم . وهذا هو الذي دفع بالشاعر الفقي الى أن يضع قصيدته المطولة يستبشر فيها باسترجاع الجيش الكمالى للاستانة فى السادس من اكتوبر سنة 1923 فهو لم يكن يفصل بين قضية تركيا وبين قضية المسلمين عامة ان القضية فى نظره واحدة ولذلك فانه يستهل قصيدته ) دخول الكماليين للاستانة ( بالاعلان عن رفرفة راية الهلال فوق دار الاسلام أم القرى
رفرفت بهجة الكمال عليها فى لباس الجلال تختال تيها
وانتهت غاية ) الكمال ( اليها يوم بانت للفائزين بنيها
وازدهي الكون يوم فتح جديد
ويلتفت الشاعر بعد ذلك الى صاحبه يدعوه أن يطوف بالكأس كأس الهناء والافراح والانتصار فتركيا الفتاة قد ارتقت ذرى المجد وبذلك أشرق موسم المسلمين :
صاح شمر وطف بكأس علينا هو ذا اليوم موسم المسلمينا
هذه تركيا الفتاة ترينا من ذرى المجد ما يقر العيونا
هكذا ألهبت الرابطة الدينية حماس الشاعر وألهمته قصيدته هذه التى لم يقلها الا قبل انحراف القادة الكماليين والا لاعتقاده بأن مصطفى كمال هو الذي قيضه الله للجهاد وأيده وقضى أن يتم له النجاح
ب ( غزو طرابلس :
حادثة أخرى تتعلق بالوجود القومي وهي به أشد اتصالا من الاولى باعتبار اللحمة العربية من ناحية والجوار من أخرى وتتمثل فى غزو الطليان لطرابلس سنة 1911 الذي كان من اثره أن نزح الكثيرون من أبناء القطر الشقيق الى تونس تاركين أهلهم وذويهم وأراضيهم وأملاكهم
وقد كان موقف الشاعر من هذه الحادثة كموقف أى عربي مسلم . فهو يتوجه أولا الى المهاجرين يعاتبهم اذ فروا بأرواحهم من أرض المعركة وتخلوا عن نصرة بلادهم وقومهم ودينهم وهو يتوجه ثانيا الى أمة الاسلام يحرضها على الاستبسال فى الجهاد حتى تعلي كلمة الله وترد الغزاة المعتدين على أعقابهم مبشرا اياها برياض الجنة وما فيها من نعيم خالد وهناء لا يزول .
يقول فى عتابه للنازحين على تخليهم عن أهلهم ووطنهم
يا هاجرا ترك البنين صغارا أترى الطيور تغادر الأوكارا
وبعد هذا النداء المعاتب وبعد تصوير الوحشية التى طبعتها الجيوش الطليانية على أرض طرابلس يهتف الشاعر بالمسلمين كي يوحدوا صفوفهم ويذودوا عن أرضهم محببا لهم طريق الاستشهاد حيث تنتظرهم رياض الجنة وحيث النبى محمد يدعو لحسن جواره الاخيار :
يا أمة المختار هل من دعوة للاتحاد فتمحق الاشرارا
ذودوا فلستم ميتين وانما لكم أعدت جنتان قرارا
ج نكبة فلسطين :
ونأتى الى القضية المزمنة التى أوشكت أن تنسى لتتقمص ثوبا ماسخا سموه قضية الشرق الاوسط ، انها قضية فلسطين ، القضية التى لولا بسالة المخلصين لها لذابت فعلا في متفرعاتها . وهي أقدم قضية قومية عالجها الشاعر بعد تصويره للانتصار الكمالى وللعدوان الايطالى على طرابلس وقد عالجها منذ أن أصبحت قضية عربية وعالمية أى بعد تجاوزها المرحلة المحلية بتخلى الانتداب الانكليزى لليهود عن أجزاء كبيرة من أرض فلسطين مدعما اياهم بالسلاح والعتاد ثم بالاعلان بعد ذلك عن انهاء عهد الانتداب
غدر ماكر لا يقل عن غدر بلفور ومكره ولكن هل تقل عنهما الخيانة التى ارتكبها بعض الساسة العرب آنذاك ؟
مهما يكن الامر فلننظر الى تفاعل الشاعر الفقي مع احداث هذه القضية ، اعتقد أن أولى قصائده فى هذا المجال قصيدته ) امة القرآن ( التى قالها ابان النكبة ونشرها سنة 1948 بجريدة النهضة وفيها سجل آثار الجريمة كما خلقتها أصابع الانكليز فتعرض للتدريب العسكرى الذى تلقاه اليهود سرا على ايديهم كما تعرض للامدادات الحربية التى كانوا يمدون بها اليهود وها هو يقول متحدثا عن الانكليز :
البسوا جيش اليهود خبرة بفنون الحرب في طي الخفاء
ملاوا القدس عتادا ثم هم يعرضون الصلح عرض الكبرياء
هذه هي المأساة كما سارت فى خطواتها الاولى . أما فى الخطوات الثانية فقد سار بها مجلس الأمن اذ اعلن حكمه الجائر فى قرار التقسيم . يقول الشاعر متحدثا عن هذه الخطوات :
مجلس قرر حكما جائرا واعتداء ماله من نضراء
مجلس اتقن دورا مزريا مثل الفوضى بفعل الارتشاء
وفي قصيدة ) فلسطين ( سلك الشاعر طريقا يتلائم مع الوجود الصهيونى وما يمتاز به من خساسة ولؤم اذ أخذ فى قذف الشتائم المقذعة يرمى بها الصهاينة المعتدين وواعدهم بلفور وكان قد استهلها بهذا العهد يقطعه على لسان العرب لفلسطين :
فلسطين لبيك أخت العرب وسعديك مسرى الحبيب الأحب
سنكفيك يا اخت شر النوب ونحمى حماك بجيش لجب
وفى التنديد بالنزعة الصهيونية يقول :
اليست لصهيون كل المزايا ألم يك أصل جميع الرزايا
فما وعد بلفور غير المنايا وما مرض الكلب غير الكلب
ورغم مرارة الهزيمة فان الشاعر لا يفقد ايمانه بالنصر القريب وهو يعلن عن استبشاره بميلاد الجامعة العربية ويرى فيه ملمحا من ملامح الخلاص سيشرق ذات يوم ليبدد غيوم الظلام المتكاثفة في الوجود العربى
فان تك دارت علينا الدوائر فما شحذت غير حد البصائر
وما هى الا اتحاد العشائر بجامعة لا تطيق الغلب
فى فلسطين مثلوا أعظم الا ثام مكرا واشتدت الباساء
اخرجوا شعبها وأجلوه عنها زحزحوه واستوطن الغرباء
شردوه بالقتل والسلب والار هاب فارتحلوا وهم بؤساء
حقق الاوصياء توطين اسرا ئيل فى الارض حيث تم استواء
ايه بلفور أنت أصل البلايا أنت في الجرم واليهود سواء
ان يوم القصاص أضحى وشيكا فليقولوا وليفعلوا ما شاؤا
ويلتفت الشاعر الى الحركة الفدائية فيبارك انتفاضاتها ويمجد بطولاتها ويدعو لها بسداد الخطى حتى تشرق شمس النصر ويتم الجلاء عن الارض المقدسة :
قيض الله للفداء شبابا من فلسطين أيدته السماء
قام يدوى فملئت منه اسرائيل رعبا وخانها الكبرياء
رب سدد خطى الحماة وبارك ما أعدوه كي يتم الجلاء
مع المليون شهيد :
المعلوم عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر بل في أقطار المغرب العربى الثلاثة انه استعمار عرقي ماحق لكل ما لا يتلاءم مع وجوده وقد عانى اخواننا فى الجزائر أضعاف ما عانينا نحن فى تونس سواء بالنسبة لعدد السنين التى خيمت فيها غيوم الاستعمار أو بالنسبة لعدد السنين التى امتد اليها نضال الشعب أو بالنسبة لعمليات الابادة التى كانت تسلط عليهم
وانطلاقا من الاعمال الوحشية التى كان المستعمرون يقولون بها فى أرض الحزائر كانت رؤيا الشاعر الفقي . فهو فى تناوله لهذه القضية يركز على تصوير المجازر التى كانت تلتهم الاطفال والنساء والشيوخ
يقول في أحد مقاطع قصيدته ) الجزائر ( مبررا المأساة التى كان المستعمرون يزرعون بذورها بين أبناء الشعب المستضعفين
ويحهم كم ازعجوا سرب العذارى باصطياد
تركوا الاطفال والشيب حياري في احتشاد
يشربون الدمع ليلا ونهارا دون زاد
واذا كانت الصورة هنا تبدو باهتة لا أثر فيها للملمح النضالى فلعل للشاعر غاية كان يهدف اليها وهي غاية كما تبدو لى ذات وجهين : الوجه الاول شاء منه أن يستثير الضمير الانسانى بالحديث عن الاطفال والنساء والشيوخ ممن لا علاقة لهم بالحرب أو بالثورة ويعانون من ويلات هذه أو تلك . أما الوجه الثاني فيكشف عنه المقطع التالي وقد أراد منه أن يعرف العرب بواقعهم فيهبوا لنصرة اخوانهم في الجزائر وهذا ما يتجلى فى قوله :
