الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

الطب العربي في افريقية

Share

كانت العرب فى مبدأ امرها لا تعرف من الطب الا التجريبى منه ، ونقصد بالتجريبى ما حصل لهم معرفته بالتجربة من استعمال بعض النباتات والعقاقير والاستفادة من خصائصها فى معالجة الامراض والجروح

وبشترك العرب فى هذا المقدار مع سائر الامم التي نشات علي بساطه العيش  فى اول نهوضها ، وقد عرف العرب - فى شئ من المهارة - مباشرة الحجامة والفصد ، والكي ، والكحالة ، وهي معالجة امراض العيون ، وفيما عدا ذلك لم يكن لهم المام متين بالطب المعروف فى زمانهم والمنتشر بين الشعوب المتمدنه المجاورة لبلادهم مثل الروم والفرس والهنود ، حتى خرجوا من جزيرتهم في زمان الفتوح وتوسعوا فى ممالك العالم القديم ، واختلطوا بغيرهم من اهل الحضارات السابقة ، واشركوهم فى مصالح دولتهم الفتية ، ولا سيما الاطباء منهم ثم انهم اخذوا فى نقل علوم تلك الامم الى لغتهم ، وابتدات حركة النقل في الاسلام اوائل القرن الثاني للهجرة حيث انهم استعانوا بالسريان وسكان الحيرة المجاورين لارض فارس ، وبنصارى الشام ! ورووا عنهم مؤلفات اليونان والفرس ونقلوها الى لسانهم بواسطة تراجمة ، مدوهم بكل معونة رغبة في الحصول على علوم من سبقهم .

وامتدت حركة النقل للمصنفات الطبية وغيرها من مدينة دمشق - عاصمة لخلافة الاموية - الى بغداد فى عهد العباسيين

وهناك بلغت الحركة الى ذروة العناية العلمية من كشف وتحليل وتمحيص وتطبيق الى ان فاقت كل الحركات الثقافية المتمدنة فى العالم المعروف وقتئذ .

اما فى بلاد المغرب - وخاصة فى افريقيا - فان حملة الغزوات والحروب المحلية شغلت العرب عن الاهتمام بالعلوم وتطبيقها الى منتصف القرن الثاني للهجرة ، ولم تبتدئ ، العناية بذلك الا بقيام الولاة من ( بنى المهلب ) في افريقية ، عمالا للخلافة العباسية .

واول طبيب - بالمعنى الصحيح يظهر في البيئة الافريقية هو الطبيب السرياني ) ابويونا ماسويه ( المسيحى النحلة ، فانه قدم القيروان في صحبة الامير يزيد ابن حاتم المهلبى حدود سنة ١٥٥ ه ٧٧٢ م - ونراه يسهر على صحة الامير الجليل ، ويجالسه ، ويتناول الطعام على مائدته ، ويعالج رجال الدولة واعيانها ) ١ ( وكان ابو يوحنا ما سويه هذا ممن تعلم في بيمارستان ) جند يسابور ( في العراق ، واقام بعد ذلك يباشر المرضى به مدة ثلاثين سنة ، ثم اتصل بهارون الرشيد فخدمه بطبه وعلمه ، ويظهر انه اتصل فى تلك الاثناء بالامير يزيد المهلبي الطائر الصيت فى النجدة والتدبير والكرم : وهو الذي استصحبه في جملة من استصحب من العلماء الاجلاء الى القيروان ) ٢ ( . ولا ندرى اكانت اقامة ابويونا فيها الى آخر ايامه امر انه رجع الى المشرق بعد وفاة الامير يزيد ، وهو الغالب على الظن ، والذي نعلمه يقينا انه ترك ولده ) يوحنا بن ما سويه ( الذي اشتهر فى الصناعة الطبية وحاز بعد ابيه اشتها كاملا في بغداد ايام الرشيد والامين والمأمون والمتوكل .

فهذا ما وصلت اليه معرفتنا عن الاطباء العلماء الذين استوطنوا القيروان فى القرن الثاني

فقهاء البدن :

وانما كان قبل ذلك وبعده في افريقية العربية اناس من المنتسبين الى علوم الدين او من رجال الجيش يتعاطون شيئا من التطبيب بما اضطلعوا به من التجربة واخذوه بالتقليد الموروث ، وكان هؤلاء المتطببين يطلق على كل منهم اسم " فقيه البدن " وقد ساق لنا اصحاب التراجم الافريقيون - مثل ابى العرب والمالكى والدباغ وابن ناجي - جملة من اسمائهم ضمن التعريف بهم ، فيقول ابن ناجى مثلا فى ترجمة ابى الاسود موسى القطان : (  . . وكان فقيه البدن يعنى طبيبا ( 3 ) ( وكذا فى ترجمة : دحمان بن معافى ( 4 ) ونصر بن فتح ( 5 ) ، وسواهم .

وليس من شك ان مثل هؤلاء المتطببين كانوا موجودين بين الاجناد يباشرون المرضى والجرحي من المقاتلين فى ميادين الغزوات والحروب ، غير انا لا نعلم

كثيرا ولا قليلا عن مدى معلوماتهم الطبية ، ولا عن وسائل علاجهم غير ما ذكرنا من خبرتهم بالفصدوالكى وجبر العظام المكسورة بما الفوه من المعالجة من قديم الزمان .

وبديهي انه كان يوجد ايضا بمدائن افريقية ( فقيهات البدن ) مماثلات للرجال المتطببين وهن من نساء الفاتحين ومن جاء بعدهم من العرب ، فكن يعالجن ازواجهن وغيرهم من المصابين من اقاربهن بتضميد الجراحات بالاعشاب المناسبة والعقاقير المألوفة . مما ورثن خبرته وتجربته عن امهاتهن وعجائز العشيرة .

ولا خفاء انه من مبدا ظهور البشرية كان من وظيفة المراة بل من رسالتها الكبرى فى المجتمع تمريض الاولاد والاقارب ، فالام هى المتعينة لمعالجتهم فى الصغر وحتى في الكبر ، لما اودع الله في طبيعتها من الصبر على ذلك ولما خصها به من عاطفة الحنو والشفقة .

ما هي " الدمنة " :

ثم انقضى عصر الولاة ونالت افريقية استقلالها على يد بني الاغلب التميميين سنة ١٨٤ ه - ( ٨٠٠ م ) - فعمدت دولتهم الفتية الى تمدين البلاد وتجهيز مدائنها الكبيرة بالمصالح ذات النفع العام ، فانشات الاسوارو الحصون الحربية على السواحل ( الرباطات ) وفى التخوم المسالح ، واهتمت بلطرقات فعبدت المسالك الرومانية القديمة ، واصلحت ما انثلم من الجبسور على الاودية تسهيلا لمرور السابلة ، كما اعتنت بداخل المدائن فنظمت اسواقها ودروبها ومجارى مياه اوساخها ، ثم التفتت الى وسائل المحافظة على الصحة العمومية فاحدثت فى كل مدينة كبيرة فى القطر مرستان او مستشفى للمصابين بالامراض المعضلة التى يطول علاجها والتى يخشى منها تسرب العدوى الى السكان

واول هذه المرستانات هى الدار التى انشئت بالقير وان في ناحية من اطرافها نسمى " الدمنة " تقرب من المسجد المعروف بمسجد السبت ، وانما اطلق على هذا المستشفى اسم الموضع الذى اقيم فيه البناء ، فصار علما له ، فاقتصر فى تعريفه على كلمة " الدمنة " واسقط اسم " بيمر ستان " او " مر ستان " او مستشفى ، وربما عرف كامل الحى باسم " حارة المرضى " ( 1 )

وجدير بالملاحظة ان المستشفيات التى احدثت بعد ذلك فى المدائن الكبيرة

تونس ، وسوسة ، وصفاقس كانت على غرار مرستان الفيروان وعلى نظامه وترتيبه وقد عرفت كلها باسم " الدمنة " تقليدا لعاصمة البلاد واتباعا لرسومها فى التسميات

نظام الدمنة :

لم يشأ الجغراقيون واهل الاخبار ان يفيدونا باقل اشارة عن بناية ( الدمنة ) في القيروان وشكلها وترتيبها ولا عما احتوت عليه جدرانها من الاقسام والمنافع لكن باستقصاء ما جاء من النتف فى شانها ضمن تراجم بعض الاضراء المصابين بالاسقام المزمنة من بين العلماء والعباد النساك ، امكننا ان نستخلص شيئا يسيرا عن نظامها وتفر يعها ، وقد بذلنا الجهد فى الاستفادة من تلك النتف المنبثة هنا وهناك رجاء ان يتجمع منها تعريف بسيط يدرك من خلاله طراز اقدم المستشفيات التونسية

فمما تجمع من الاطلاعات والبحث يتبين ان الدمنة كانت بناية فى شكل مربع الاضلاع او مربع مستطيل يدخل اليها من باب واحد كبير يفتح على سقيفة طويلا ( دهليز ) معقود سقفها على قوس ( ازج ) مرتفع ، ويحف بجانبى السقيفة غرفتان صغيرتان او اكثر يسكنها حارس او حراس الدمنة ، وعلى طول السقيفة يمينا وشمالا مصطبتان قصيرتان ملتصقتان بالجدار الاصلى ، يجلس عليهما العواد عند زيارتهم للمرضى ، وفي اخر السقيفة باب ثان اصغر من باب المفتح يفضى الى صحن متسع غير مسقف ، ويحيط بجوانب الصحن الثلاثة او الاربعة اورقة معقود السقوف ومن ورائها عدة حجرات صغيرة بسيطة معدة لا يواء المرضى

وفي وسط الرواق المواجه للمدخل مكان مسجد صغير لاقامة الصلوات من الساكنين بالدمنة

ومن جهة احد الاروقة يوجد باب مستقل يدخل منه الى دار فسيحة تحتوى على حجرات لا ندرى عددها ، تشبه لا محالة الحجرات المتقدم ذكرها ، وهذه الدار كانت تسمى " دار الجذماء " لا يقيم بها الا من كان مصابا بداء الجذام ( ١ )

ويستفاد من بعض نصوص التراجم انه كان يوجد بالدمنة حمام مستقل يغشاه اهلها لتطهير ابدانهم .

ومن المعلوم ان الحمامات العمومية كانت موفورة في القيروان ، وقد ذكر البكرى ( ١ ) : فى القرن الخامس - ان عددها يبلغ ثمانية واربعين حماما عدا ما كان منها فى بيوت السراة والاعيان ، وحمام الدمنة كان يستمد الماء اللازم من بئر عميقة واسعة موجودة فى داخل بنائها .

والظن الغالب انه كان يوجد فى دمنة القيروان كما في سواها من المرستانات صهريج ( ماجل ) تتجمع فيه مياه المطر ، وتستعمل طول السنة للشراب وطبخ الاطعمة . ووجود هذه المواجل سنة مالوفة فى سائر الابنية الافريقية - كما في المحارس والرباطات ( 2 ) - ولا يزال اتخاذها سنة متبعة في دور السكنى في سائر المدائن والقرى ، وحتى فى البادية .

وخلاصة القول ان الدمنة كانت تشتمل على ما يحتاج فيه من المرافق الضرورية و ان لها جهازا قائما بذاته ، كافيا فى ذلك الوقت للغاية المطلوبة منه .

وفى تقديرنا ان عدد الغرف المعدة للمرضى بالدمنة كان لا يتجاوز الثلاثين غرفة ، يشغل كل واحدة منها المريض الواحد والمريضان او اكثر ، وفي تقديرنا ايضا ان مساحة كل غر فة كانت ستة اذرع طولا فى اربعة عرضا ، او ما يقرب مما ذكرنا

اعوان الدمنة

ومما لا شك فيه ان اطباء البلد ، وكذلك " فقهاء البدن " كانوا يباشرون مرضي الدمئة ويتفقدونهم ويصفون لهم من الادوية ما يناسب علاجهم ، ونعرف يقينا منهم طبيب الاغالبة المشهور ( زياد بن خلفون ) الآتى ذكره ، كان يخرج فى ايام معينة الى الدمنة فيزور من بها وكذا من " بدار الجذماء " للكشف عن المصابين وتتبع سير مرضهم وعاهاتهم

اما فقهاء البدن وهم كثيرون بالقيروان - فكانوا يزورونهم ويعتنون بالمرضى احتسابا لله ورجاء مرضاته .

يضاف الى ما تقدم ان الدمنة كان يشرف على سيرها حفظة قيمون مهمتهم السهر على نظامها وعلى راحة المقيمين بها ومراقبة من يزورها من اهل الخارج

كما نعلم ان نساء زنجيات من السودان كن يخدمن المرضى ويقمن بشؤونهم الضرورية فى الغرف وخارجها ( ١ )

وليس لدينا ما يفيد من اين كان ينفق على القيام بمهمات " الدمنة " فهل كان لها نصيب من بيت المال ؟ ام هى تعيش مما يتبرع به اهل الخير من الصدقات والاحسان ؟ هذا ما لم نعثر على ذكره ولا الاشارة اليه .

وقصارى ما نعلمه ان الامراء كانوا يوزعون بانفسهم العطايا الوافرة على اهل الدمنة او يرسلونها اليهم مع مواليهم واتباعهم ، وكذلك كان يفعل اهل الفضل والخير اذ يتبرعون دواما واستمرارا بصدقات من المال ومن الاطعمة من لحم وزيت وخبز على من بها .

اما بنو الاغلب فكانت عنايتهم متجهة بصوره مخصوصة الى الدمنة من ايام زيادة الله الأكبر ، وقد جرت عادتهم من ذلك العهد على تخصيصها بالزيارة فى ايام المواسم والاعياد الشرعية ويخصون من بها بالاحسانات الكثيرة ، قال المالكى ( ٢ ) " وكان امراء بني الاغلب يأتون ( من العباسية ) مع وجوه الناس ليلة النصف من شعبان وليلة نصف رمضان الى جامع القيروان ، ويكون فيهما من الصدقات امر كثير ، ثم يخرجون من المسجد الجامع الى " الدمنة " ويزورون من بها . . "

وقال التجيبي : " كان امراء بنى الاغلب يخرجون من الجامع ( بالقيروان ) الى دور العباد والعلماء والمحارس و " الدمنة " بالصدقة ، يلبثون بالقيروان يفرقون الاموال على المساكين والمستورين ... فكان جملة ما امر به زيادة الله لمن بالدمنة ستمائة دينار ذهبا . ( ٣ )

وقد صارت زيارة الدمنة عادة مالوقه لمن تولى بعد زيادة الله الاكبر من الامراء الاغالبة الى اخر عهد دولتهم ( ١٩٦ ه ٨١١ م ) ويخيل لى ان تلك السنة الحسنة ظلت متبعة ممن تولى امر افريقية بعد بني الاغلب ، اعنى من الفاطميين والصنهاجيين ولم تنقطع الا بخراب القيروان من جراء الزحفة الهلالية فى منتصف القرن الخامس للهجرة .

ومن ناحية اخرى نعلم ان كثيرا من اعيان القيروان ووجوه علمائها كانوا يتعهدون اهل الدمنة ولا سيما بمناسبة المواسم والاعياد ويرفعون اليهم مايعوزهم من الملابس المناسبة لتدفئتهم ، ومن الاطعمة المحرومين منها لانقطاعهم عن اهاليهم .

فنرى - في القرن الثالث - صاحب فرن من المشهورين يصنع الخبز الطيب فى القيروان يرسل الى اهل الدمنة جملة الخبز المتحصل من فرنه . قال الاخباري الخراط :

" بلغني عنه انه كان ربما اخرج له الخبز من الفرن ، فاذا نظر اليه واعجبه طيب رائحته امر اعوانه ان يرفعوه باكمله الى الفقراء والاضراء من اهل " الدمنة " فاذا جاءة المشترون للخبز قال لهم : بعناه لمن يوفينا ثمنه وزيادة ( ١ )

ونقل الدباغ عمن تقدمه : ان هاشم بن مسرور التميمي المتوفى سنة ٣٠٧ ه - " كان يذهب الى " دار الجذماء " فيصنع الحلوى في عيدي الفطر والأضحى

ويجعل المرضى صفوفا فيطعمهم ويدعو لهم ثم ينصرف ( 3 ) وفى كتب التراجم نصوص كثيرة تشير الى اسعاف المياسير من اهل البر والمعروف لمن كان يقيم بالدمنة من المرضى والمصابين ، وفيما اوردنا ما يكفى للدلالة على عناية الحكومة العربية - فى مختلف العصور وكذا اهتمام افراد الامة بمستشفى العاصمة القيروانية

دمنه سوسه كان لمدينة سوسة - بالساحل التونسى - مكانة ممتازة في عصر الدولة الاغلبية ، وذلك بسبب موقع مرفئها البحرى من ناحية ، ومن اخرى لقرب مسافتها من عاصمة القبروان ومجاورتها لارضها ، ولم تكن سوسة قبل ذلك العهد الا مرسي بسيطا تقطنه طائفة من البحريين الضعفا ، ممن يعانى صيد السمك ، ويتعاطي البعض منهم مهنة فلح الارض والاتجار ، ويرجع هؤلاء السكان باصولهم الى الافارقة المزيج من البربر الفنيقيين والرومان

ولا ننسى ان سائر المرافئ الحربية التى استعملها العرب .من حين فتحهم لافريقية انما كانت فى شمال البلاد ، اعنى : قرطاجنة قرب تونس و " نوبة "

الكاثية فى الجهة الغربية من شبه جزيرة شريك ، ومنهما كانت تصدر الغزوات البحرية طوال عصر الولاة الامويين . ولا نزاع ان هذه الموانى الحربية كانت

بعيدة عن القاعدة السياسية للبلاد يعنى القيروان - بعدا يحرم الامراء المتولين من مراقبة انشاء السفن وتنظيم الاساطيل واعداد الحملات الجهادية التى اعتزموا تسييرها في عرض البحر المتوسط الغربى .

لهذا السبب الاساسي نرى الدولة الاغلبية من اول قيامها توجه كامل عنايتها إلى تجهيز مرسى سوسة تجهيزا قويا وتبادر الى جعله فى مقدمة المرافىء البحرية الافريقية الاخرى ، وقد اتخذت بها دار صناعة كبيرة لانشاء السفن الحربية لما عقدت عليه النية من مد سلطانها الى العدوة الشمالية وامتلاك جزائر البحر ، واقل ما هنالك رد غارات البيزنطيين البحرية .

واول عمل قام به الامراء فى هذا الصدد هو احاطة المدينة بسور منبع من الحجارة يحيط بها من جميع جهاتها ، تقع فى اطرافه حصون محكمة البناء ، ووضعو داخلها محرسا عظيما للمرابطة اقتبسوا شكله من اخبه المتقدم فى السن رباه المنستير ، وقد عرف بقصر سوسة ، وهو اليوم من المفاخر الجليلة للبلاد .

ولا نزاع ان الاغالبة احدثوا بعد ذلك في احد احياء المدينة دمنة ( مرستان ) على نمط ما كان موجودا بالقيروان ، الا ان هذه ربما كانت اقل اتساعا نظرا لصغر سوسة بالنسبة لعاصمة افريقية الكبرى ونسبة قاطينها ، ويتضح من النصوص التاريخية ان الامراء كانوا يعتنون ايضا بشؤونها ويخصونها بالزيارة حينما يقدمون لتفقد مرفاهم الحربى الكبير ، فيمنحون مرضاها العطايا بين الفينة والاخرى فيوزعون عليهم الهبات والعطايا من المال والاطعمة واللباس

ولا يبعد عندي ان المنشئ لمرستان سوسة ، أو على الأقل المجدد له بالتوسعة هو الامير ابو ابراهيم احمد صاحب المبانى الجليلة فى سائر انحاء القطر الافريقي ( من سنه ٢٤٢ الى ٢٤٩ ه ) . ومن المحقق ان ابنه ابراهيم الثاني قد زار مرات عديدة هذه الدمنة ونفل المقيمين بها باعانات ذات بال تسعفهم على احتمال نوائبهم ( ١ ) فنراه مثلا يجتمع باهل العلم منهم ويحادثهم طويل بلااجبرا لخواطر هؤلاء الاضىراء ( ٢ ) وهكذا اقتضت حكمة امراء بنى الاغلب وحسن سياستهم الاجتماعية ان امتزجوا امتزاجا قويا بافراد الشعب ، واصغوا الى شكواهم واسعفوهم بما يحتاجون اليه من المعونه ، ونشا عن هذا السلوك الرشد ان اكتسوا ثقة الامة

الافريقية ومحبة الصغير والكبير والغنى والفقير بالسواء ، الامر الذى لم ينتهجة غيرهم ممن جاء بعدهم من الملوك والامراء ، وفى ذلك بلاغ .

تأسيس الدمنات قلت فيما تقدم انى كثيرا ما تساءلت ، متى احدثت هذه المرستانات فى القطر التونسي ومن هو المنشئ لها ، وفى الحقيقة لم اجد بين النصوص مايطمئن اليه الخاطر اذ ان الاخباريين اغفلوا التنصيص عليه ، لكن القرائن التاريخية تدل على ان هذا الانشاء قد حصل فى اول عهد الدولة الاغلبية ، لانا نجد زيادة الله الاكبر فى مقدمة من زار من الامراء مؤسسة " الدمنة " وانه كان يشملها بعطفه ويحيطها برعايته ولم نر من ال بيته من كان يتعهدها قبله بالزيارة ، لذلك السبب يغلب على الظن انه هو البانى لمرستان القيروان .

وغير خفى من ناحية اخرى ان هذا الامير عرف بنشاطه فى تشييد المعالم ذات النفع العام كما عرف بمساعيه فى تدعيم اسس الامارة الاغلبية وتنسيق قواعدها الادارية والسياسية ، ويكفينا شاهدا على ذلك انه اول من اتجه الى اتخاد مدينة سوسة ( دار صناعة ) لتجهيز الاساطيل الحربية ، فلا يبعد ان يكون هو ايضا الذى اقام بتلك المدينة مرستانا لايواء المرضى من العساكر البحريين وغيرهم عند ما اختط سائر معالمها الاخرى من اسوار وقلاع ، واذا صح هذا التقدير جاز ان نحكم ان هذه المنشآت ترجع بتاريخها الى العقد الثانى من القرن الثالث للهجرة .

على ان هذا الاحتمال لا يمنع من تتابع اتخاذ المعاهد والزيادات فيها فى بقية المدة الاغلبية الغنية بالانشاءات المفيدة النافعة ، لا سيما فى ايام ولاية السادس من امرائهم ، اعنى : ابا ابراهيم احمد اكبر من اشتهر بالعمارة في مختلف النواحي من مدائن افريقية

ويتلخص مما سبق ان دمنتي القيروان وسوسة يمكن نسبة تاسيسهما الى الامير زيادة الله الاول ما بين سنة ٢١٠ و ٢١٠ ه

وبعد فمن المناسب ان نشير بلحة سريعة الى مرستان اخر كان معروفا ومذكورا غير المتقدمين ، الا وهو :

دمنة صفاقس مدينة صفاقس ( ١ ) من محدثات الاغالبة ، ولم يثبت ان بمكانها قديما كانت مدينة تذكر ، وما يدعيه علماء الافرنج من انه كان يوحد بموقعها الآن قرية تسمى ( تبرورا ) فهو محض وهم لا يقره الواقع ولا الاثار ، اجل ان مكان تبرورا التى جاء ذكرها عرضا فى عصر الرومان ، لم يزل معروفا وهو يبعد عن صفاقس بنحو كيلومترين من الناحية الشرقية ، وبه انقاض للأول يعثر عليها الى اليوم

اما صفاقس الحاضرة فهى بلا ريب من منشات الدولة الاغلبية كما ستراه .

افادنا الاخباريون العرب ان مكان صفاقس كان به اول ما كان محرس ( رباط ) من محارس الساحل البحرى احدثه الولاة العباسيون فى منتصف القرن الثاني للهجرة - هرثمة بن اعين او غيره - وكان يحتل حينئذ من ارضها موضع قصبتها الان ، وهو الذي عرف فيما بعد " بالبرج الاحمر " قرب الضريح المنسوب الى سيدي جبلة ، فيكون ذلك فى مكان قصبتها التى اتخذت فيما بعد ثكنة للعساكر

وحول هذا الحصن كان ينزل - فيما مضى - اناس من ضعفاء الصيادين للسمك يسكنون اخصاصا بسيطة تسمى ( بالاعشاش ) ، ويظهر ان عمران تلك الجهة كان غزيرا اذ كان يضم فى دائرته كثيرا من صغار القرى والضيعات الزراعية حسبما كان ذلك مالوفا فى سائر نواحي افريقية القديمة ، فاتخذ سكان الناحية فناء ذلك الحصن للبيع والشراء ، فتالف من اجتماعهم هنالك سوق اسبوعية تجتمع كل يوم جمعة ويتعاطى الاهالى عرض بضائعهم ، حتى صار المكان معروفا ومشتهرا يقصده اهل الضيعات القريبة وسكان الجزائر المجاورة كأهل

( البقية على ص ٥١ )

بقية صفحة ١٦ ( الطب العربى في افريقيا )

( قرقنة )وحتى من جربة ومدينة قابس وناحيتهما ، وبتوالى الايام تكون هناك مرسى بحرى ضعيف ، ولم تزل الحال تترقى بذلك السوق الى ان آل الحكم الى دولة بنى الاغلب ، وكلنا نعلم اهتمامها الشديد بتعمير البلاد وتمصير قراها اسلفنا ان سادس امرائها ( ابا ابراهيم احمد ) ممن اقبل على اشادة بناءات لا تحصى ذات نفع عمومي فى سائر المدائن الافريقية ، ومن اخصها تخطيط صفاقس وتعميرها وقلبها من سوق قروية حقيرة الى مدينة من الاهمية بمكان .

جاء فى كتب التاريخ ان الامير احمد هذا امر قاضي تلك الجهة وهو ( على بن سالم البكري ) ( ١ ) بتمصير صفاقس ، بعد ان امدة بالمال ورسم له خطة السير ، لما قبل القاضى على العمل ، وبنى المسجد الجامع فى وسط الخطة على ما جرت به العادة المعمارية عن العرب من لدن الفتح ، ثم اختط اسواقا للتجارة والصناعات والمهن حول الجامع ، ثم نهج المسالك للمرور والشوارع تاركا بينها المساحات الكافية كانشاء الاهالى منازلهم ، ثم ادار بالجميع سورا متينا من الطوب المطبوخ ( الاجر ) وتتخلل السور ابراج تحصينا للمدينة من كل مهاجمة بحرية كانت او برية وكان ابتداء التخطيط فى سنة ٣٣٤ او فى التى بعدها ، حتى اذا وافي الامير احمد آجله - سنة ٢٤٩ ه كانت صفاقس من المدائن الكبيرة المعدودة فى البلاد ( ٢ ) ، لا سيما وقد اكتنفها من جهاتها البرية الثلاث بساتين معتنى بها لمختلف الازهار العطرية ، وجنائن حالية بانواع الفواكه ، ومن وراء الجميع غابات مكتضة بشجر الزيتون تمتد مد البصر اميالا واميالا حتى صار زيتها الرفيع مما

تحفل به المراكب والسفن الى المشرق والمغرب على السواء .

وقد اطلنا الكلام فى تصوير هذا التخطيط ليعلم ان انشاء ( دمنة ) صفاقس قد كان مع بقية المحدثات حين تعمير المدينة ، ولا شك انها كانت على طراز دمنة القيروان ودمنة وسوسة .

وفي اعتقادنا ان ما كان جاريا في هذين المستشفيين كان واقعا فى مستشفى صفاقس من معونة افراد الشعب للمرضى المقيمين به ، فقد حكى المالكى فى ترجمة الشيخ ابراهيم القشاش الصفاقسى - المتوفى سنة ٣٢٢ ه انه كان يعد الحلوى والدهن والطيب فادا كان يوم العيد ذهب بكل ذلك الى دمنة ( صفاقس ) فيطيب به اهل البلاء ، ويجعل الحلوى بين ايديهم ، فما زال يطعم هذا وهذا حتى يعمهم جميعا ، ويقسم بينهم الذى بقى ، ثم يرجع الى داره ( ١ ) .

وما من تونسي الا يعلم عناية الصفاقسيين خاصة . بشؤون بلدهم ، وتعلقهم به ، وتسابقهم الى اعمال البر المشكورة ، وحميتهم القومية فى الدفاع عن مصالح مدينتهم الفيحاء المجدة .

ويغلب على الظن ان هذه الدمنة لم يتعطل الانتفاع بها الا بعد الزحفة الهلالية لاختلال الاحوال واضطراب الامور كما اسلفنا آنفا .

ولا يفوتنا ونحن بصدد الكلام على صفاقس ان نذكر انها انجبت طبيبا ماهرا عاش فى القرن الخامس للهجرة ، وهو : ( عمر بن محمد بن ابراهيم البكرى ) الذي تعاطى المهنة في بلده ثم انتقل الى مصر واقام بها مكرما الى ان توفي عن سن عالية فى ربيع الاول سنة ٥٠٥ ه ( حوالى ١١١١ م )، قال فى حقه صديقه الحافظ السلفى : له خبرة شاملة بالطب ، وكان من اهل الادب ، وله بعلم الكلام انس تام ( ٢ ) . .

دمنة تونس

ومدينة تونس  من منشآت العرب ومحدثاتهم ايضا ، ولم تكن قبل فتحهم للبلاد الا قرية حقيرة لا يؤبه بها ، ربما لا يبلغ عدد قاطنيها الثلاثمائة نسمة بمثابة اريانة ومنوبة

نعم ، ورد اسمها الفنيقى الاصل "Thunes تونس " بين المدى التى كانت موجودة فى عصر الرومان والروم البيزنطيين ، الا انها لم يكن لها فى الحقيقة نصيب كبير فى تاريخ البلاد .

فلما عزم القائد ) حسان بن النعمان ( على حصار قرطاجنة لامتلاكها - سنة ٥٦٩ - اتخذ قرية ) تونس ( قاعدة لمعسكره ، نظرا لجوارها من العاصمة القديمة التى حمل عليها وضيق عليها الخناق حتى اغتصبها وصالح اهلها ، ثم خالف عليه سكانها فاعاد الحصار واستولى عليها للمرة الثانية وخرب بعض قلاعها لئلا تعيد الخلاف كما هو مبسوط فى التاريخ .

وانف حسان ان يعيد الى قرطاجنة الهيمنة البائدة باتخادها مقرا لجيشه ، وذلك لاسباب سياسية وحربية معا ، فاختار بدلا عنها تونس ، وترك قرطاجنه وشانها ، ومنذ ذلك الحين طرقها الوهن والخراب .

وقد ابتدا حسان فى تعمير تونس تعميرا بسيطا مناسبا لضروريات الجيش واول عمل امر به هو حفر خليج متسع يصل بحيرتها بماء البحرمن جهة ( رادس ) من ناحية ، ومن جهة ( حلق الوادى ) من ناحية اخرى ، وهذا لم يكن موجودا من قبل ، ومنذ ذلك الوقت صارت السفائن البحرية ترسو فى ميناء تونس وبذلك اتصلت مباشرة بالبحر المتوسط ، وانما قام حسان بهذا العمل الجليل ليتسنى للفاتحين تاسيس اول ( دار صناعة ) فى الاسلام لانشاء الاساطيل ولدفع غارات الروم على الساحل الافريقى ( ١ ) من ناحية اخرى .

ومن آثار حسان في تونس اتخاذه مسجدا بسيطا عرف باسم " الزيتونة " ويظهر انه احله مكان معبد متواضع للرومان ، ولنصارى البيزنطيين من بعدهم ويقال انه كان بفنائه شجرة زيتون فنسب المسجد الاسلامي اليها .

ومن ذلك الحين دب التمصير العربي في تونس وناحيتها ، وتتابع في عصر الولاة للامويين ثم العباسين ، وما من وال الا يزيد في معالمها ويوفر لها اسباب الحضارة ووسائل التمدين حتى اصبحت بعد حين من مدائن المغرب الكبرى .

وجدير بالذكر ان تونس كانت اثناء تلك المدة معسكرا اهليا للجنود العربية على حين كانت القيروان القاعدة السياسية والادارية للبلاد ، فهذا المركز المختار

جعل تونس ثانية العواصم الافريقية ، ويروى ان ابا جعفر المنصور كان اذا ورد علبة بعض اعيان افريقية يسألهم : " كيف حال احد القيروانين " يعني مدينة تونس كيف لا ؟ وقد كان استوطنها مدة قبل ان يلى الخلافة العباسية .

ولما آل حكم البلاد الى بنى الاغلب ، صرف امراء هذه الدولة عناية خاصة لتمدينها فانشاوا فى اعلاها ناحية القصبة الان - قصرا لسكناهم يعرف بدار الامارة مثلما كان يوجد في القاعدة الاخرى ، واداروا المدينة بسور حصين واتخذوا بها قصورا اخرى للنزهة والراحة فى وسط حدائق وبساتين فيها اصناف الثمار و الرياحين ( ١ )

وكانت هذه المنشات واقعة خارج باب قرطاجنة بمكان يسمى قديما ( سواني المرح ) وفي منتصف مدة الاغالبه اعتنى الامير احمد سادسهم بشان تونس ،

فاوسع جامعها ( الزيتونة ) وزانة بما هو عليه الان من الزخارف ، والنقوش ، والكتابات الكوفية البديعة ، حسبما يشاهد على جدران محرابه وقبته الى الآن

ولا يخالجنا شك ان هذا الامير البناء الكبير ، جهز تونس ( بمر ستتان ) نظير ما فعل في صفاقس ، وقد وردت الاشارة الى وجوده فى غضون ترجمة بعض العلماء المنتسبين الى تونس ( ٢ ) . ولا يبعد عندى ان محلها كان فى ناحية الحي المرتفع المعروف الان ( بالمركاض ) فى الجهة الغربية من المدينة ، ويؤيد احتمالنا ان هذا الحى - اى المركاض - كان يعرف قديما ( بربض المرضى  ) ( ٣ ) . وهذه التسمية وحدها تدل دلالة قوية على ان المرستان الاغلبي كان واقعا هناك .

اما بقية المدائن الافريقية ، مثل ( قابس ) و ( توزر ) و  ( باجة ) - وان كانت ايضا محل عناية الدولة العربية فليس لدينا ما يثبت انه كان بها مرستانات فى العصر الذي نتكلم عنه . ولا يجوز التكهن بوجودها ما لم نعثر على نص تاريخي صريح .

وادا ما تيسر تحقيق المكان الذى كانت تحله " الدمنة " من مدينة القيروان فليس من السهل ان نعين عن كثب اين كانت تقع مرستانات تونس ، وسوسة . وصفاقس وذلك لما اعترى معالم هذه المدائن من التغير الكبير والانقلاب في عمرانها القديم .

ولربما تسمح لنا وثائق تاريخية يعثر عليها ، او آثار جديدة تكتشف بتحديد مواقع تلك المعاهد الصحية وترشدنا الى نظاما الهداخلي ولا سيما مدى اثر هافى البيئة الاجتماعية التونسية وحينئذ نعرف مدى الرسالة الانسانية التى قامت بهاطوال ذلك العصر وخلاصة القول ان الدولة العربية وبخاصة الاغلبية منها بذلت غاية الجهد فى تجهيز البلاد تجهيز اعمر انياقو يا يساير روح العصر ، واهل القطر التونسي لان يكون فى صف الممالك الاسلامية الكبيرة الاخرى أعنى : مصر ، والشام والعراق وفوق كل ذى علم عليم .

اشترك في نشرتنا البريدية