الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

الطريق إلى الله . . .

Share

من بيت الأشقياء

فى حي الأغبياء

أصرخ لأسمع صوتى الى الله . أسأل عن الطريق الى الله . لكن صوتى ضعيف لا يصل الى السماء . لا يخترق أسترة الفضاء .

لأنه صوت نصف امرأة ، تحب نصف رجل . تعيش نصف حياة . بلا غد . بلا أمل . بلا رجاء .

صفعنى القدر حين أردت الحياة . صفعنى ثم نحو بؤرة التعاسة ركلني . فالقدر لا يحب من يريد . والزمن لا يحنو على الابرياء ولا على الضعفاء .

حينا مملوء بالمساجد . يخنقه نعيق المآذن . يغص بنباح الكلاب ، ومواء القطط المتسكعة فى الشوارع المظلمة . يعج بالمصلين . يزدحم بجثث البائسين .

عواء المؤذن القبيح يقتحم بيتنا ، يزعج حينا ، انما الله لم يعرف بعد طريقنا ، والقدر لم يكف عن التسلية بمأساتنا .

عندما يشتد البرد ينغرز في جسمى كوخزات ابر حادة تدمى جلدى الناعم ارتمي على فراشى بين ذراعي زوجى أنشد الامان فى ظل صدره ، وأتدثر بدفء رجولته . لكنه بارد . أبرد من الجليد وأقسى من وخزات الصقيع . فأنا فى غمرة ضياعي ويأسى نسيت ، نسيت أنى الى الآن نصف امرأة ، وزوج نصف رجل لم يستطع الى الآن . . . لأنه لا يعرف كيف . .

لكنه رائع عذب جدا ، جدا ، وأحبه جدا جدا ، غير انه . . .

أبيت أناجى وجهه الصبوح كالبدر المتألق فى سماء صافية الاديم أناجيه وأحلم . أحلم بالطفل الجميل الذي عشت دهري أتمناه . أكاد أسمع صراخه

أكاد ألمح ثغره وهو يبحث عن ثديى ليمتص فى نهم لذيذ قطرات اللبن المتساقطة منهما ، بينما تتشبث يداه بعنقي كما يتشبث الغريق بقارب النجاة .

وأستفيق . أستفيق دوما على عواء مؤذن مسجدنا ، ونباح الكلاب الهائمة فى الشوارع المظلمة . أستفيق لأتذكر أن ليالي وحشة مضجرة . وابنى سراب بديع يحطم أعصابي ، بينما القدر وزوجى يحطمان ما بقى من أوهامي . فأتركه على السرير خائر القوى كالثور الميت ، أهرع الى الشارع معرضة وجهى للفحات الصقيع ، ووخزات المطر . أجلس على عتبة بيتنا الذي يزعجه دوما نعيق المآذن دون أن يعرف الله طريقه وأبكى .

ابكى زوجى النصف رجل . وطفلى الذى يبحث عن درب ليرى الوجود . والقدر الذى لم استطع الى الآن أن أفل شكيمته . . .

جارتنا قروية جاهلة لا تفقه من الدنيا شيئا ، تتعثر فى خطواتها بزهو ابله كطاووس عجوز ممزقة الريش ، قاتمة البشرة ، مشروخة الخدين كرغيف أسود مقسوم الى شطرين . ممتلئة الجسم ، مكتنزة كقاظرة قديمة مكتظة بالركاب ، انما لها عشرة اطفال . وطفل مات فى الشهر الماضى . وآخر فى بطنها المنتفخة دوما .

زوجها مارد مشاكس الطبع لئيمه ، عاطل مجهوض العزيمة . حرفته التشرد ، وقتل الساعات فى احتساء الخمر والتسكع من حانة لاخرى منتظرا بعض وريقات يرسلها اليه الاخ الاكبر نصيبه من الارض التى لم يلمحها منذ سنين طويلة .

أراه دوما مترنحا كخنزير برى يدك أرض الحي دكا بحوافره الغليظة ، يكاد الغليون يقفز من بين شفتيه المتورمتين . وحوله عشرة . حفاة عراة . يتسابق حولهم الذباب . ويتصارع عليهم البعوض .

الفقر يحاصره ، والجهل يكبله ، لكنه رجل له عشرة . وطفل مات فى الشهر الماضى . وآخر فى بطن زوجه المنتفخة . زوجته التى تفتح نافذة بيتها كل صباح وترفع عقيرتها بالغناء مترنمة بأخر اغنية حب ، بصوت مبحوح كحيوان مكمم الفم ، يحاول بكل جهد التخلص من قيده ليمارس نشوة العويل كما يحلو له . ولا تغفل أن تطرقع علكة فى فمها العريض ، وهي تغمز زوجي

بعينيها اللتين سكنهما الحول كلما لمحته آتيا يجرجر خيبته خلفه كغزال تمسكة ايد لا مرئية تهد أوصاله وتمنعه من التحرك .

يبصق ناحيتها اشمئزازا دون ان يرفع رأسه الجميل اليها ، ويسارع بالدخول كقط وديع اشتم رائحة منفرة تعلن بوجود خطر فى مكان ما . فأتف أنا الاخرى قبالتهما معا . أغلق النافذة وأسرع بالفرار الى غرفتي التى يزعجها دوما عواء المؤذن دون ان يعرف الله طريقها . أرتمى على السرير بغيظ وأبكى ، أبكى دون ان اتكلم . اذ لا استطيع ان اتكلم ، فانا نصف امرأة ، أحب نصف رجل أعيش نصف حياة . . أنا لا شئ . أبحث عن شئ . أريد شيئا . وأعيش م أجل شئ . . انما دوما لا أجد شيئا ! ! !

اليوم صفعنى زوجى النصف رجل . صفعنى ثم تف على وجهى . حاولت أن اغرس أظافرى فى لحمه . أنبشه كما تنبش الصقور جيفة نتنة . اذكره بأنه غير أن يدى تصلبت . وتصلبت . و . . هويت برأسي على الحائط سال دمى . اختلط بدمعى . انشرخت جبهتي . ابتلعت البصقة المريرة . حاولت هدم أبواب سجنى . أهرب من عسف جلادي . أمزق حبل مشنقتى . أحطم الجدار الذي يحجب عني أسرار الحياة . أتحدى القروية الجاهلة التى تدمرنى كل يوم ببطنها المنتفخة ، وبسمتها المنتصرة الساخرة ، وهى تترنح أمام بيننا بشموخ مقرف . لكنني لكى احيا الحياة ، لا بد أن اعرف طريقي الى الحياة . وأنا أجهل الى الآن الطريق الموصلة اليها ، ولا ماذا على أن أفعل كى تكون لى أنا الاخرى حياة ؟ ؟

صوت امام حينا يحاصر اذني كطنين بعوضة مريضة تحوم حول اكل متسخ . يهمس وعيناه تلتهمان وجهى محاولا اختطاف حفنة من قسماته الفاتنة " كل ما ندركه بقضائه ومشيئته . كل خطوة نخطوها بأمره وعلمه . ربما وجدت خلف غشاء اليأس فرحة مستترة . لا تفسدى جمالك بمتاعب التفكير . تعالى الى . ستجدين العجب . . أين من شباب اليوم ، فحولتنا وفتوتنا . لكمة من قبضتى تقتل جملا . . وهو ! ! اقتربى . . الفرص لا تعوض انهلى من نبع الملذات قبل ان تعكره مرارة الحياة ! !

تتزاحم ظلال حمر فى أفق عينيه الماكرتين ، ويداه تتسللان بخطى حثيثة ، تبحثان بجرأة خبيئة عن مكان فى كتفى تركنان اليه . ادفعه عني بغل شرس . أهرب تلاحقني غمزات الدكتور الوقحة التى ما فتئت تطاردنى بسماجة مقرفة . . الامراض النفسية هى أخطر ما يصيب الانسان .  . لقد غدت أزمة القرن العشرين عصر التطور ، والتذبذب النفسي . .

تتسع ابتسامته أكثر وهو يبحث فى عينى عن جواب لسؤال لم يطرح بعد : " لا بد ان أراك . . أتسمحين أن . ."

أهرب وآلاف علامات اشمئزاز وثورة مكبوتة تتبعني - تفتح تحت قدمى هوة سحيقة توشك أن تغرقني فى يمها المتعفن . فأظل أصرخ من بيت الاشقياء فى حي الاغبياء .

أصرخ لأسمع صوتى الى الله . أسأل عن الطريق الى الله . تحتبس الصرخه فى حلقي . تغص الكلمات فى صدرى . يرتطم رأسى ثانية على الجدار . ينهال دمعي . يختلط بدمى . و . . ويعود زوجي ليصفعني . وببرودة يمزقني .

دخل زوجى يتمايل سكرا . تسربت منه روائح كحول ممزوجة ببقايا عطر رخيص . نفحصى باسما ، متصلقا ، نظرت اليه متحدية . جذبني بعنف قبل عنقى . امتص رحيق الورد من خدى . سقطت السجارة من يدى . دستها بقدمى . تعلقت عيناى بالوجه الصبوح الذي يدعونى اليه ، والفم الذى يبحث بعناد فذ عن شفتى . حاولت أن أركله كحشرة مزعجة . أعيد اليه اللطمة . قفزت صورة ابنى امام مقلتي ، متوسلة ، باكية تستجدى رأفة وصفحا . أبتسم الى الطيف المطوق أفكارى دوما ، وشعور بالتخاذل يجهض ثورتى يدثرنى بعباءة النسيان . عشرات الوجوه الموردة لاطفال ضاحكين ،  تغزو خيالي . تملأ الغرفة صراخا وضجيجا . أستسلم للوجوه الباسمة . دوامة تلقني ، تحملني بعيدا ، بعيدا الى عالم خلاب الرؤى . مسحور الاجواء ترقص فيه الملائكة تحت أقدام آلهة رحيمة تخط فى سجل الوجود . تخط الفرح للجميع . وتنثر أنجم السعادة فى ليل الجميع .

عانقته وصدى ، وسيقي أثيرية ، مجهولة المصدر يستكين فى أذني ، يزغرد لتباشير الربيع الذي سيهل حتما بطيوبه ورياحينه ، يطرد عن ذاكرة الطبيعة ، اعاصير الشتاء ، وسواد الليالي الموحشة .

قبلني ، ثم زاد فقبلني . يداه المرتعشان تعتصران جسمى الظامئ . أسنانه تنغرز فى جسمى تدميني . كتمت صرخة ابتلعت شهقه . تراقصت المرئيات واختلطت . الجدران تترنح . السقف يتهاوى . عشرات الافواه لاطفال دامعي الاعين . تصرخ مولولة نادبة مصيرها المبتور ، والفناء الابدى المرتقب الجفاف يسد حلقي . مددت يدى خلف أسترة الظلام شددت الفراغ .

مسكت الضياع

كحلت عيني بالسراب

عطرت جسمى بالعذاب

نظرت . . لا شئ بين يدى . سقط على الارض كالثور الميت المفروم الاحشاء ، متمرغا على السجاد . مسحت دمعة ملتهبة . ابتلعت خيبتى . تصاعدت مرارة القئ فى فمى ، الغثيان يعتصرني . جسمه البديع ملقي على الارض كألة مفككة الاجزاء . أرتمى فوقه . أبحث عن لغز قواه المتخاذلة تلطمني رياح رجولته المنهارة . أتقهقر الى الخلف . تعالى عواء المؤذن نائحا يبعثر احلامي الميتة . يختلط بنباح الكلاب الجائعة .

سهام اليأس تشكنى . أسد أذنى . أغمض عيني . ناديت الله . استغفرت الله . . انتظرت الله . ثم مع قلاطم الافكار بدأت أعى . تجلت أمامى معالم قدرى بعد ان طمسها سنوات تعسف قدرى . لكى أعيش الحياة لا بد ان اغتصبها عنوة . انتزع مصيرى من براثن التخاذل السقيم الذى أكلتني ديدانه . أركل بقدمي شبه الرجل المبقور العزيمة الذي دفن تحت أنقاض عجزه اشلاء عمري ،  وايامى النائحة أملها المسلوب منها غصبا .

أعدو الى الضارع المظلم . ابلل وجهى بقطرات المطر . هاربة من سجني من حبل مشنقتى . من سيف جلادي . أجتر خيبتى . امضغ فشلى . " فكرى

وكفى غباء . تعالى ولو مرة سأطلعك على مباهج الدنيا ومفاتنها . الوجود لا يستحق دمعة من مقلتيك . وجبل الجليد الذى يسد درب حياتك لا يسلوى نطفة من تراب نعليك . . حب وكأس . ورجل . .  هذه هي السعادة . افتحى عينيك أيتها الغريرة البائسة "

ترنح قربى سكير . قهقه . تمايل . هتف حانقا :

الملائكة تبكى من السماء

تلعن خضوع الحمقى الاغبياء

فاستفيقوا أيها البؤساء

أسرع اليها . الى بيت مؤذن مسجدنا . امراته . غانية حينا . تتبرج كثيرا . تدخن الافيون كثيرا . وتحب الرجال كثيرا . وتنجب الاطفال كثيرا . كثيرا . مزقت حبل مشنقتى . حطمت سيف جلادي . ملأت بطني خمرا . حشوت رأسي افيونا . تلونت الدنيا وتشابكت . رقصت الشياطين معانقة اشباه الملائكة . . وأنا اسبح . ارتفع فى الهواء . أجتاز الحدود . انتزع عنى كل القيود . أفك عن عمرى أغلال القدر . أكسر أبواب الحياة . عالم جديد ينفتح لى . أغوص فى متاهاته . اقتحمه بروج وثابة قد خلعت عنها رداء الضعف والاستسلام ، واحرقت أقنعة الزيف والانتظار العقيم .

خدر لذيذ يجتاحنى . يشق لي طريقا الى السماء . يحملني الى الله . يكاد الله يرحمني . يكاد ينقذني . ثم . . ثم . .

اشترك في نشرتنا البريدية