أغلق الباب البلورى برفق ووقف برهة يتأمل الجو فى الداخل ويقف بعينيه أمام العجوز التى تداعب كلبها . . على خديها تكدست المساحيق باهمال كبير وانفها بدا متآكلا من بعيد وشفتاها غابتا تحت رسم اللون الاحمر . . والكلب يربض على ركبتها وينتظر صامتا وهى تحدثه ، وتسأل وتجيب عنه . . ومن حين لآخر تمر بيدها المعروفة على جسمه فيرتعش قليلا ويستكين من جديد ..
زحف بنظره الى المرآة ووقف امام رسم الساعة المقلوبة . العقربان الاسودان انهكتهما المطاردة وملا الدوران وربض بعضهما فوق بعض واخذت مطرقة حادة تدق من الداخل . . .
تنبه كأنه فى إغفاءة وخطا على الرصيف برفق . . المطر يهمى على المدينة ويغوص فى قلب الظلمة . . والطريق ممتدة تحت الفوانيس الكثيرة .. ممتدة كهذا الليل . . كهذا النهر الذى يتسلل عبر المبانى الصامتة وترتطم امواجه الكسلى بصخور الجسر وتأخذ طريقها لتضيع بعيدا . . بعيدا . . ازدادت سرعة المطر وبدت خيوط الماء متهافتة تحت ضوء الفوانيس . . وسمع احد السمار يحادث صديقه بضيق :
(( - ما أقسى هذا الوقت . . الا ينقطع المطر قليلا ؟ . . )) .
لم يلتفت ناحية الصوت وجذب خطاه تحت خيوط الماء . . . (( . . ما أقسى هذا الوقت ! . . )) يرددها الناس فى ارض بعيدة وراء البحر . . سماؤها مغيرة كالحة والتربة حمراء يرقد فيها عطش قاتل . . والعنزة ملت الانتظار وبح بغاثها . . والناس يجلسون صامتين يقلبون الطرف فى الافق الاخرس تحت جحيم الشمس . . . اغلبهم لا يعرفون عقارب الساعة ويقيسون ايامهم بالظل المتحرك ويتمتمون . . والحيرة تتربع فى العين وتغوص فى اخاديد الوجه وتترك آثارا لا تمحى . . . (( . . منذ سنوات هجرنا المطر وغاضت عين البئر واصفرت اوراق اللوزة وشحبت بقرة الاطفال و (( العيلة )) تلبس نفس - الملية والحرام - من العام الماضى . . واقدامى تشققت كوجة هذه الارض العاقر . . والطريق الى القرية اصبحت ابعد من الامس ؛ واصبحت اخشى
عيون الدائنين بها . . . اكبر فرحة ان يجد الاطفال (( كسرة الشعير )) هذا المساء . . والله يأتى برزق الغد . . ألحت على (( حدة )) فى الذهاب الى القبروان والبحث عن العمل باحدى الحضائر او مقاولات البناء فقد شاع اخيرا ان الشغل متوفر هناك . . صعب على ان اترك ارضى والعائلة لاقصد المدينة . . . كنت لا ازورها الا عند الصابة ، أبيع فيها غلة الزيتون واللوز وقسطى من الحبوب .. فاتجول فى الاسواق واشترى كسوة (( حدة )) والاطفال وبرنسا ابيض لصلاة الجمعة و (( بلغة )) صفراء وغالبا ما كنت اتغدى عند الكفتاجى (( عروم )) (( ببروطة )) . . كانت (( الكفتة )) لذيذة عنده وكنت فى كل مرة امنى (( حدة )) ان نتسوق معا يوما لتذوق كفتة (( عروم )) الشهية . . . نزلت فى الاسبوع الماضى وبعت الخرص الفضى الاخير عند (( حدة )) . . . اخبرونى بان الكفتاجى نوفى رحمه الله . . وابتسمت لصاحب الدكان الذى كنت اشترى منه اللباس والاحذية فلم يعرفني . . ومكثت ثلاثة أيام افتش عن الشغل فلم اجد ونصحنى احد الاحباب اعرفه قديما فى سوق الحبوب ان اعود الى الارض وانتظر . . لا بد ان يفرجها الله . . . ))
ما زال صوت (( سى الطاهر )) يقرع اذنيه منذ الصيف الماضى عندما التقى به فى حاجب العيون كان يستمع اليه صامتا وينظر فى وجهه الشاحب وفى عينيه المتوقدتين الغائرتين . . حتى حاجباه اعتراهما الشيب . . وصوته فقد رنة الماضى . . احبه كثير عندما سمعه يقول :
- (( . . ابنى الاكبر يتقدم بسرعة فى المدرسة . . لا بد ان يواصل .. اتراه سيصبح مهندسا ذات يوم ؟ . . ))
كان المطر يهطل بشدة ويصبغ الطريق بلون غامض والسيارات المسرعة تمزق الصمت من حين لآخر وتثير وراءها غبارا كثيفا من الرذاذ . . مد كفه للماء المنهر وتمنى ان يسقى به عنزة (( سى الطاهر )) ثم ابتسم فى سره لهذا الخاطر وواصل السير . .
الساعة تعدت الواحدة صباحا وفاته موعد (( المترو )) . . تحسس القطع لنقديه القليله فى جيبه لا يستطيع ان يستأجر (( تأكسى )) فليواصل السير على الاقدام . (( لقد كانت دائما ليالى الشتاء طويلة فى عينه )) كانت دائما كثيفة الظلمه ومقفرة . . وكانت قدماه تنسجان مع كل غروب الطريق الباردة بين (( أبى زمعة )) و (( واد المالح )) . . كثيرا ما كان يهم بالرجوع فى منتصف المسافة ويتردد ولكن شيئا غامضا يحز فى نفسه ويدفعه الى مواصلة السير .. فى كل مرة يمنى نفسه بان الدرس سوف لن يكون طويلا وسوف يعطى للاولاد
بعض التمارين الكتابية ويعين البنت على تفسير النص . . وسيتمتع بالدفء فى الغرفة وربما بكأس من الشاى او القهوة . . هو يفعل ذلك من اجل (( العم علية )) الرحل الطب الذى اوقفه ذات يوم فى طريق المدرسة بعد وفاة والده بأيام . . نظر اليه مليا من وراء نظارتيه الطبيتين ولمعت عيناه بشبه دمعة وعرض عليه ان يعطى دروسا خصوصية لابنائه كل مساء . . لم يجرب مهنة التدريس من قبل وراقته الفكرة واحس انه اصبح قادرا على كسب بعض المال بكد يمينه . . كان (( العم علية )) يستفسره فى كل مناسبة عن حالة العائلة ويذكر له بتأثر صداقته مع الوالد ويصرف له دينارا فى نهاية كل شهر .. كان قليلا ما يسأله عن دروسه فى المعهد وكأنه هو ايضا اصبح يقصد ان مصير العائلة اليتيمة يجب ان يوضع قبل المعهد والنجاح فى الشهادة وتحقيق احلام المستقبل . . واقتنع بعد مدة . ان فكرة الدروس الخاصة هى طريقة وجدها الرجل الطيب ليعينه ببعض المال مخافة ان يجرح كبرياءه . . فى الحقيقة هو لم يكن يفكر كثيرا فى المستقبل . . لم يكن ينظر حتى لوجهه فى المرآة . . كان ينظر دائما فى وجوه الناس ويفترس الملامح . . وينقبض قلبه عندما تشده فى الباب صغرى اخواته وتقبض على ركبتيه وتطوق عنقه بعينين صافيتين مبتهلتين :
- (( . . لقد وعدتنى بالامس ان تشترى لنا السمك واليوم اتى عمى المختار لبناته بسمكة كبيرة واكلوها وحدهم . . ))
يبتسم فى وجهها بصمت وينحيها برفق من طريقه ويتجه الى الجدة الراقدة فى الركن : (( كيف حالك اليوم ؟ . . )) . . منذ ولد وجدها راقدة فى نفس المكان وتعلم ان يراها راقدة تشكو فى الليل وفى النهار من ضغط الدم وضعف القلب ووهن الساقين . . ما زالت تحتفظ بعينين كبيرتين خضراوين يزداد الحزن فيهما مع الابام ويسيل على الوجه الشاحب . . والنظرة فيهما ملت التحديق فتتعثر فى وجوه القادمين ثم تستقر بالسقف يتبعها دعاء خافت بآيات من القرآن واسماء النبىء والخلفاء الراشدين . . تعود ان يستفيق من نوم مضطرب فيسمع حفيف (( السبحة )) وصوتا متقطعا كانه بكاء مكبوت . .
كثيرا ما يشرد النوم عن عينيه فى ليالى الشتاء البرد شديد وارض الغرفة عارية واخشاب الباب تصطك وتنهزم امام ريح تنفذ كالنشيج . . وتلوذ عيناه بركن معتم فى أقصى الغرفة وتلوح تحت ذبالة (( البياتة )) اجسام نحيلة ستة يلفها ازار قديم واحد . . كان يظن دائما ان الغرفة تصبح فسيحة قاحلة عندما يأتى الليل ويحس بالجدران تتبدد وتذوب تحت وطأة البرد ويمد بيده على ذقنه
الامرد . . . اغلب زملائه بالفصل يحلقون ذوقونهم ويتعجبون من خلو وجهه من الشعر لكنهم يعودون الى منازلهم عند الزوال وفى المساء . . ويتجه هو رأسا الى (( مطعم التضامن )) فيقف فى الصف طويلا ويجلس مع وجوه عشرة تتبدل كل يوم حول المائدة ويأكل بدون شهية نصيبه من (( خبز القمح )) و (( دشيش الشعير )) الذى غالبا ما يكون بدون طعم ولونه يصفع العين ويسد المعدة . . . يذكر انه غضب ذات يوم عندما وجد ذبابة ميتة فى الحساء ووجد جاره خيطا فى لب الرغيف . . رفض الطعام ووقف ساخطا وتحدث أمام التلاميذ الواجمين عن المعاملة وسوء الاكل وحثهم على الاضراب . . .كان جزاؤه قاسيا فى ذلك اليوم . . لم يضع قدمه فى المطعم اسبوعا كاملا عقابا له . . وكان عليه ان يأكل مع اخوته بالمنزل ما يجد من النزر القليل . . .
توقف المطر عن النزول ورفع رأسه الى السماء مقلبا وخيل اليه انه يرى نجمة تلمع من بعيد . . ومال على اليسار واجتاز جسر (( ألما مارسو )) وجاءته من الحديقة المجاورة رائحة العشب المبتل منعشة لذيذة . . وتمنى ان يقفز على السياج ويجرى بين الممرات كأنه يلاحق شيئا هاربا . . وامتدت مياه النهر هادئة بعد المطر وعلى صفحتها بدت صورة الفوانيس والمبانى الفخمة عائمة كانها فى عرس صامت والاضواء الكثيرة ترتعش فى نشوة وتعانق العين وتطرح على المدى تألقا فريدا . . (( . . الانسان لا يحسب عمره بالسنوات فى هذه البلاد ! . . )) . . لكنه مع ذلك لم تفكر يوما فى الاستقرار بها . . لم تضيع رأسه كل الحسان والعيون والموسيقى واغراء الحياة الحبلى بالاسرار ... والمغامرات . . . اكبر مغامرة ان يعود للارض ولوجوه الطيبين الصامدين فى الاراضى البعيدة . . ان يعود الى الذين ينتزعون القدر الصعب وينبشون التربة بأظافرهم ويسلخون الجلد من اجل الرغيف والاولاد . . .
- (( ٠٠ رأيتهم هذا الخريف يملأون الازقة والشوارع فى طريق المدرسة . . لباسهم واحد . . والنور فى عيونهم كبير واحد . . لا بد ان المطعم احسن مر ذى قبل وليل الشتاء لم يعد طويلا مرا . . تسمعت دقات قلوبهم وضممتهم بعينى واحساسست بالطريق اكثر لينا تحت اقدامهم الصغيرة والبسمة تورق فى الوجوه والحركات والخطوات . . . ))
وعادت الى مسامعه كلمات احد شيوخ الحى :
- (( لقد طال الجفاف . . والفلاحة اصبحت موردا كاسدا . . وجيل اليوم كثرت مطالبه . . ))
وتذكر رسالة اخيه الجندى الاخيرة :
- (( . . اننا ننتظر عودتك وجدتى تدعو لك بالليل وبالنهار . . لا تنس انك ابونا جميعا . . وابعث لى بكسوة جديدة ! . . ))
لم تصدقه احدى صديقاته عندما اكد لها يوما بانه لا بد ان يعود فى اقرب وقت وان حياته ليست ملكا له . . حدثته طويلا عن حياة الحرية وعن استقلالها منذ سنوات عن عائلتها وهمست له فى اغراء :
- (( . . اما زلت تصر على العودة فى اقرب وقت ؟ . . ))
اراد ان يقول شيئا لكنه ضمنها الى صدره مؤثرا الصمت .
الساعة الكبيرة فى ساحة (( السان ميشال )) تشير الى الخامسة صباحا وهبت نسمة باردة فارتعش جسمه ورفع ياقة معطفه واسرع يجتاز الطريق الموازية (( للسين )) ثم توقف لحظة امام واجهة مكتبة كبيرة واحس فجأة بتعب فى اوصاله واحجم عن متابعة الكتب المعروضة . .
لا بد ان (( المترو )) قد فتح ابوابه من جديد وهو بحاجة الى الراحة . . ولما نزل الدرج لتحصيل قطار الصباح الاول اعترضه احد السكارى . . حدق فيه بعينين كالجمر وسالت من شفتيه المتدليتين ابتسامة ميتة ولوح فى وجهه بزجاجة من الخمر نصف فارغة وغمغم فى اعياء :
- (( الا تشرب على نخبي انها الغريب ؟ . . ))
حاول ان يبتسم ثم تنحى قليلا وواصل السير نحو الرصيف وتابعه صوت السكران تردده جدران الاروقة الخالية :
- (( خذ . . انها حفلتى الليلة . . اوف . . لماذا انت مسرع هكذا ؟ . . ))
وعندما تحرك القطار احس بخدر فى جفنيه وقرر ان ينام حالما يصل الى البيت . . .
