الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

العدد الاول من : العروة الوثقى، لا انفصام لها، يوم الخميس فى 15 جمادى الاولى سنة 1301 ه

Share

بسم الله الرحمان الرحيم

" ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير ، هذا ما تمده العناية الالهية من قول الحق ، متعلقا بأحوال الشرق ، وعلى الله المتكل فى نجاح العمل ، خفيت مذاهب الطامعين ازمانا ثم ظهرت ، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الانفس ثم التوت ، أوغل الاقوياء من الامم فى سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر الخ ... (1)

ولا شك ان كل من رام معرفة منهج هذه الجريدة والغرض من انشائها يلمس بعد امعانه فى هذه الفقرة كل هذا واضحا جليا ويتلخص فيما يلى :

أ ) تنبيه الضعفاء الى ما يريده الاقوياء بهم ب ) شرح الاسباب التى أدت الى ضعف الضعفاء وقوة الاقوياء

وقد استطاعت هذه الجريدة بفضل التأييد الذي وجدته من طرف الغيورين عن الاسلام ان تبلغ هذين الهدفين التاليين :

1 - تحقيق التهافت عليها ومحاولة تفهم أغراضها ومراميها وقد وجدت رغبة من المسلمين وحرصهم للاستفادة منها ومما يدلنا على هذا قول الامير شكيب ارسلان : " 1870-1946 " مادحا السيد جمال الدين الافغاني الذي كان يوحى بالفكرة :

ومعان لو اوحييت لجماد هزه الشوق نحوها والغرام

حيرت كل ذى حصاة الى أن قيل لا شك انها الهام

كما نوه بفضل محمد عبده الذى كان يبرز أفكار استاذه وآراءه فى ذلك الاطار العربى السليم :

كلام إذا ألقيته فى جماعة غدا منك مثل اللؤلؤ الرطب ينشق

عليه من النور الالهى مسحة تكاد على أرجائه تتألق

2 - الفزع الذي أصاب الغرب وخاصة ساسة بريطانيا الذين وقفوا ضد رواجها فى الممالك الاسلامية كالهند ومصر والسودان والعراق والكويت

وعلى الرغم من كل التضييقات التى فرضت على هذه " المجلة " فقد استطاع ثائرا الشرق : " الافغاني وعبده " من ان يصدعا بآرائهما ويبلغا صوتهما الى كافة المسلمين فى جميع انحاء العالم قصد تحقيق الاغراض التالية :

1 ) بث فكرة الرابطة الشرقية 2 ) الوصول الى حل القضية المصرية ومحاولة ابعاد مطامع الاجانب فيها بعد جلاء الانجليز 3 ) تمهيد الطريق الى بعث جامعة اسلامية 4) النظر فى المسألة السودانية والقيام بعمل يعود على المسلمين بالخير : ( راجع مقالا للاستاذ عثمان أمين العدد 84 - مجلة الثقافة المصرية ) .

فهذه جمعية " العروة الوثقى " وغاياتها ، وهذه مجلتها وأغراضها ، وقد طل الافغانى وعبده يعملان فى صمت وعلى صفحات مجلتهما دفاعا عن الاسلام وعن مقومات الامة العربية واستمر نشاطهما الى أن تعطلت " العروة الوثقى يوم 1884/10/16 بعد صدور العدد الثامن عشر منها ) 1 (

وعلى العموم فأقل ما يمكن أن نستنتجه من جهاد الاستاذ الامام عبده فى جمعية " العروة الوثقى " هو أنه كان زعيما دينيا ، ومصلحا اجتماعيا كبيرا وسياسيا قديرا ماهرا ، ووطنيا مخلصا ، فلو راجعنا مجموع مقالاته فى هذه المجلة فاننا نجد كامل آرائه وأفكاره وآماله ، فهو أول من نادى بالجلاء عن مصر والسودان ، وأول من وجه الافكار بطريقة عملية عملية عملية الى محاولة التخلص من البريطانيين ومن مخلفاتهم ) 2 (

جهاده السياسي :

لقد عاش الاستاذ محمد عبده كامل أحداث عصره وشاهد المظالم التى كانت تنهال على المصلحين والوطنيين الشرفاء ، - ورأى بعينيه سياسة المكر والخداع التى تتبعها بريطانيا فى مستعمراتها وخاصة فى بلدان المشرق العربى ، فحركت هذه الدوافع فى نفسه لهيب الثورة فأعلنها شعراء على الرجعيين والسياسيين المحترفين ، وعلى الاستعمار وعملائه ، فكان يبدى رأيه بكل شجاعة متحديا الصعاب ومجابها الخصوم والاعداء . . انه بين رأيه فى كثير من مشكلات عصره ، فناصر النظام النيابى فى البداية ثم بعد أن اتضح له جهل الشعب ومساوى الحكومات والفوضى العقلية اثر انتصاب بريطانيا بمصر فكر فى وضع أول لبنة للاصلاح فدعا الى " حماية الاخلاق " ، والى الاخذ بالتربية القومية ، قصد اعداد جيل قادر بامكانه أن يحمل مشعل النضال ويقود الامة نحو الكرامة والمجد والعلا والسؤدد (1) .

ولكن بعث شباب كهذا ليس بالامر الهين ولن يتأتى الا على يد حاكم قوى نزيه عادل ، فنادى بتطهير المجتمع من النفوس الضعيفة ومن محترفى السياسة والانتهازيين والمتخاذلين . . انه اخذ يحث على اقصاء هؤلاء عن مناصب الحكم لكى يتبوأ المسؤولية ذو الارادة القوية ، والتصميم الحازم والضمير اليقظ الحي

وظل يواصل جهوده من أجل علاج العلل فأصلح المحاكم الشرعية وأدخل نظاما تربويا هادفا فى الازهر وغيره ، واعتنى بالجمعيات الخيرية ودعا الى مراقبة المدارس والى تدعيم الصحافة الوطنية التى تعبر عن احتاجات الجماهير

وامام تدهور الحالة السياسية فى مصر خاصة وعموم بلدان المشرق العربى عامة كتب " محمد عبده " مقالا تاريخيا خالدا أعلن فيه - بصراحته المعهودة - الى وجوب الغاء المجالس النيابية لانها ضرب من ضروب " الفولكلور " فأي منفعة تسديها للشعوب ما دامت الامة ممزقة الاوصال ، مشتتة الاهواء ، وما دامت أحزابها السياسية خاضعة فى تصرفاتها لمآربها الشخصية ، وما دام نوابها فى ) البرلمان ) تعوزهم الكفاءة والاخلاص وليس لهم أى تأثير على المجتمع .

وكان محمد عبده يرى أن أساس كل عمل يراد له النجاح لا بد أن يكون مبنيا على التعاون والمشورة والوفاق . . . ولذلك رأيناه يدعو الى أن تكون التربية الجديدة " مبنية على الايثار والاتحاد ومحبة الغير : " العلم الحقيقي هو الذي يعلم الانسان من هو ومن معه فيتكون من ذلك شعور واحد ، ورابطة واحدة ، هي ما يسمونه بالاتحاد "

وكان محمد عبده يؤمن بتسليح الاسرة بتربية اجتماعية اخلاقية ، لذلك رأيناه يتحسر على ما حل بمصر من ويلات وهزات وتفكك اجتماعى فذكر أن ثلاثة أرباع القضايا فى مصر فى عهده ، كانت ناشئة بين الاقارب فشاهدناه يكتب فى عام 1884 م فيتساءل عن مصير مجتمعه الذى تحف به الاخطار من كل الجوانب فيقول : " . . فهل من المعقول ان يكون الفساد فى العلائق الطبيعية الى هذا الحد من التصرم ، ونتساءل عن تصرم العلائق الوطنية ؟ هل يمكننا بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط الخارجية للجامعة الكبرى ) 1 ( ؟ . . . "

محمد عبده الكاتب المفكر :

يعد محمد عبده من مشاهير كتاب هذا القرن وتتميز كتاباته غالبا بنزعة الاصلاح الديني ، فقد جاهد طويلا لنشر هذه الدعوة وتطهير الدين مما ألحق به من أباطيل وضلالات وتنحصر دعوته فى هذا الشأن

أ ( تحرير الفكر من قيود التقليد . ب ( فهم الدين على أصول ومعطيات جديدة والرجوع الى المنابع الاولى قبل ظهور الخلاف . ج ( اعتبار الدين صديقا للعلم لا عدوا له .

ولتحقيق هذه الاهداف الثلاثة سعى الرائد محمد عبده لتعميق هذه المفاهيم الجديدة ونشر حركة الاصلاح سواء فى البلاد التى أثر فيها بشخصه كسوريا ، ومصر ، وتونس ، وفرنسا ، وبريطانيا ، والجزائر أو فى البلاد الاخرى التى كان له فيها مريدون وانصار كالهند ، وسنغفورة ، واليابان وجاوة ، وأندونيسيا - والصين وغيرها

فمن هذا الاختيار التلقائى الهادف كانت مقالاته فى " الاهرام " و " الوقائع المصرية " و " العروة الوثقى " ثم جاءت دراساته القيمة ومؤلفاته الدسمة تشت منزعه الفكرى جليا واضحا مثل : " رسالة الواردات " و " الاسلام والتجديد " و " حاشية عقائد الجلال الدوانى " و " رسالة التوحيد " و " شرح . نهج البلاغة " و " شرح مقامات بديع الزمان الهمذانى " و " شرح البصائر النصرانية " و " الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية " الخ . .

ومحمد عبده بابرازه لهذه الاثار يكون قد سجل مواقف مشرفة تدل على شجاعته وغيرته على قضايا العروبة والاسلام ، كما ان طريقة صياغة هذه الدراسات كانت عبارة عن أسلوب منهجى جديد في البحث يجمع بين الاصالة والاستقلال بالرأى ، فهو فى استدلالاته وآرائه وافكاره يسلك الطريق الفلسفي الافلاطوني القديم الذي جدده - ديكارت - وأعاد بناءه " كانت " ونحن فى كل ما نقرأ له من فصول ودراسات نلمس فيها آفاقا جديدة لفهم نموامض الاشياء وكنهها وهي فى مجموعها تقحمنا وتحثنا على النظر الى الانسان بعين الروح واخضاعه لشريعة العقل مع الحرص على الاعتدال .

ان محمد عبده : الذي تحدث عنه احد المستشرقين الامريكين قائلا: " . . كان فلاحا صميما ، وليد تربة مصر العريقة قبل ان يغدو مفتيا واماما للمسلمين ، واننا لنلمح فى اخلاصه لهذه التربة وفي دعوته الى الوطنية ، مزاجا عجيبا من الوفاء للماضى المجيد ، والاستمساك بيقين الدين ، والولاء لوطنية الفلاح " استطاع بثقافته واخلاصه لمبادىه ، أن يرفع لواء القيم الروح وان يؤدى رسالته على أفضل الوجوه ، وان يفتح آفاقا واسعة بعيدة فى وجه شباب الجبل الحاضر حتى يتأمل فى واقعه ويعمل من أجل بعث غد مشرق بسام يسوده الاخاء والعدالة وبطمئن اليه الجميع .

اشترك في نشرتنا البريدية