الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

العلم ... ما أنقذ الغريق

Share

ارتفع سبوتنيك في الفضاء فارتفعت معه الاصوات ناعية سياسة التعليم التى عليها الدول المسبوقة فى مضمار الصناعة والاختراع ، وتململت الاوساط الثقافية مبهورة بذبذبة " بى بيب " تحاسب النفس وتنظر الموقف من مؤسساتها التعليمية التى انذرها التطور العلمى وكاد يعصف بكثير من رصد الثقة بمناهجها والامل في برامجها وموادها ، فكأنها الآن فى حيرة تتساءل عن " أى العلوم افضل ، وايها نفع ، وايها اتقن واوثق واقوى ، وايها اوهن واوهي وأضعف ؟ "

وكم في تاريخ الحضارة من مناسبات اثارت وعي الناس : عامة الناس وخاصتهم ، إلى النظر في قيم العلوم والتفكير فى صنوفها والرغبة فى الاقبال على الانفع والاوكد منها ، فأى اكتشاف من الاكتشافات العلمية العظمى ، واى اختراع من الاختراعات الصناعية العجيبة ، واى حدث من الاحداث السياسية الكبرى لم يصحبها التفات الناس الى مؤسساتهم العلمية وموازنة وسائلها وانتاجها والتعرف الى مدى قدرتها بين الشعوب الفائزة فى العلم والصناعة او المنتصرة فى الحرب والسياسة ؟

بل ان النظر في صنوف العلم والتدبر فى جدواها ، ومحاولة الاختيار منها حسبما تملية ظروف الفرد والجماعة قد صحت تاريخ العلم نفسه منذ القديم صحبته منذ كان افلاطون يدير الحوار فى جمهوريته بين استاذه سقراط واخيه غلوكون متسائلا : " افلا يلزم النظر فى اى فرع من فروع العلم تستقر القوة المطلوبة ؟ " وسعى افلاطون لتبيان حقيقة العدالة لمواطنه . وعدم تعقد حضارة اليونان في عصره جعلاه في النهاية يختار من صنوف العلم المنطق فيرى انه تاج العلوم ويقرر " انه راس الزاوية في صرحها ومن الخطإ وضع اى علم آخر فوقه . "

وبعد اليونان امم اخرى كان لفلاسفتها وعلمائها مواقف ازاء العلوم فاختاروا منها ما يلائم اتجاهاتهم وتقتضيه ظروفهم الاجتماعية واحوالهم الحضارية وكان الطابع الذي يميز الامم عن بعضها فى نوع هذا النظر الى العلوم وفى درجة التوفيق في اختيار ما يلائمهم منها والنبوغ فى انماء الفنون التى تفي بحاجاتهم المادية او الروحية ، فكان الرومان يقبلون على صنوف من العلوم والفنون

ويدعون اخرى ، وكان العرب في صدر الاسلام لا يعنون بالعلوم والفنون التى لا تكسبهم النصر فى الفتوحات ثم لما استقرت بهم الحياة اقبلوا على ضروب من العلم واقسام من الفن كانت لهم بها حاجة ، وقل اهتمامهم باخرى لان شؤونهم الحضارية لا تلفتهم إليها .

والامم الحديثة لم تبلغ هذا الشأو فى المدنية والحضارة الا بفضل اقبالها على انواع من العلوم ، وامتيازها بطرق ناجعة فى البحوث والتطبيقات العلمية ، والامم قديمها وحديثها اذ تحدد مواقفها من العلوم فتقبل على ما تقبل وتهمل ما تهمل انما تفعل ذلك بوحى من مثلها واستجابة لحاجاتها ومداولة لسير المنافسة بينها ،

ونحن الآن في المغرب العربى الكبير اذ تنطلق من اسار الاستعمار ونهب امة ناشئة تريد ان تفيد من التطور العلمى وتنهض بمؤسساتها التعليمية وترتفع بها الى مستوى الايجابية فى الانتاج الحضارى العام افلا يبغى ان نتبين موقفنا من العلوم ؟

ان البون شاسع بيننا وبين هذه الامم التى انذرها سبوتنيك والامة التى انذرت بسبوتنيك ، ومشكلتنا ليست فى هذا السباق " التكنيكى " الذى يقوم بين الكتلتين المتقابلتين ومع هذا فنحن نشعر ان علينا ان نتبين ماذا يجب ان نتعلمه ؟ ماذا على شبابنا الطالع ان يتوجه إليه من انواع العلوم والفنون والصناعة ؟ وماذا على معاهدنا ان توفره لآلاف الطلاب من وسائل النجاح : نجاحهم فى حياتهم الخاصة ، ونجاح مجتمعهم فى حياتهم العامة ، ونجاح انسانيتهم فى حياتهم الاكثر عموما

وعي لكياننا كأمة ، وخبرة باحوالنا الاجتماعية والاقتصادية ، وتحديد لمنزلتنا بين امم العالم في هذه المرحلة من تاريخنا ، واحصاء لما تقتصر إليه من لوازم الحياة المادية والروحية ، وكشف عما ادخل علينا من اسباب الضعف والانحلال ، وما اعترانا من عوارض النقص والتاخر ، كل هذه مما تلهمنا الموقف الصحيح من مؤسساتنا التعليمية وتزيل حيرتنا فى رسم لوائح المواد والفنون التى ينبغى ان تقررها بمناهج التعليم . وان حاجتنا الى ما يتوقف عليه سير حياتنا فى مستواها الواقعى ، والى ما يكفل اصلاح شؤوننا فى جميع الجوانب هو العامل المشترك الذي يكيف اتجاهاتنا إلى كل علم ، ويدفع بجهودنا إلى الاخذ بكل فن فن ! فعامل الحاجة هذا هو المحدد لموقفنا من العلوم المتقدمة ابدا والمتطورة قدما وهو ما

يرمز إليه القول : " العلم ما انقذ الغريق وأطفأ الحريق "

واذا قمنا بمراجعة جريئة لمناهج تعليمنا فنشذب ما يصلح فيه التشذيب

وننقي ما تنفع فيه التنقية ونستأصل ما لابد فيه من الاستئصال لانه من زغل الثقافة او من الرسوم والرواسب التى معرفتها لا تنفع وجهالتها لا تضر .

واذا كونا الاطار التدريسى بإيجاد الاساتذة الاكفاء للقيام بما تقتضيه البرامج المجددة فى مختلف درجات التعليم ومتنوع المواد الثقافية والفنية ، وشجعنا الطلبة على التعليم العالي ومكنا لهم من اتمام الدراسة الاختصاصية داخل الجمهورية وخارجها ثم حرصنا على عودتهم الى وظائف التعليم .

واذا جهزنا معاهد تعليمنا تجهيزا عصريا ونقلنا التعليم من كل مكان لا تتوفر فيه شرائط التربية الحديثة ونظمنا معاهدنا الجديدة تنظيما حرا تنبعث معه عوامل النشاط والفاعلية فتنعم الثقافة السلبية التى تفشل وتتعطل اذا لم تجد مأوى فى دواوين الحكومة ، او تنحرف الى العزلة والانزواء تجتر الالفاظ وتمضغ الفروض والنظريات

وإذا توجنا اعمالنا الثقافية بانشاء معهد قومي للبحوث والاكتشافات العلمية ، وكان رائدنا ان لا تقف من التطور العلمى موقف المتفرج ، ونكتفى من الافادة منه بفائدة المقتبس ، او ندعى المشاركة فيه بعملية القضم والعضم ، اذا عملنا على ان نفرض مكاننا من الوجود بالمساهمة الفعالة فى بناء الحضارة واقام صروح العلم وانتاج الصناعة والادب والفنون وتأليف الطابع القومى الذى نريد ان يبدو فيها جميعا .

إذا انجزنا كل هذا او جل هذا امكن لنا ان نعتبر اننا قد بلغنا الى درجة من العلم " تنقذ الغريق وتطفئ الحريق " فعلا فشعبنا غريق فى خضم الجهلة ، ونخبته المثقفة ما تزال تتقد ألما من هذا الغمر

فمتى يحين لتعليمنا ان يبلغ درجة العلم . العلم الذى ينقذ الغريق ، ويطفئ الحريق ؟

اشترك في نشرتنا البريدية