لقد رمى ، فى احد الاسمار ، بالغباوة ، ولم يفاجئه هذا النعت اذ كان زملاؤه ينعتون القرويين بالغباوة والسذاجة والبساطة ،
ولعل خيباته المتكررة في ممارسة الحياة الحضرية فى المدينة جعلته يقر بغباوته ودفعته الى تعشق الطبيعة فى السلوك . . تعشق العفويه فى الاستجابة . . .
. . . ولعل حداثة سنها جعلتها لا تتكلف فى ارتخائها النسائى وهو يحدثها . . وودت لو انه يصمت ، يصمت فقط . . وتفرسها - فجاة - بنظرة ساكنة ، هادئة ومتسائلة ، فاغمضت عينيها وتهالكت بين ذراعيه في بوح صريح ومخلص . .
وكانت مراهقة . . حقا مراهقة . . وراقصتها تلك الاحاسيس البائسة ، وبعثرتها تلك الهزات العنيفة ، ولكنها اغرقتها جميعها فى ضرب من العبث الطريف و . . البرئ . .
واستمدت من حنانه ورقتها قوة دفعتها الى ان تحبه ، او الى شىء يشبه هذا .. ؟
وكان يعلم ان الامور لا بد ان تتجاوز هذا الحد . .
وتلوث امام المرآة تستنطق اجزاء جسمها النشوى فالفت نفسها تبتسم اذ هي تلمح في مخيلتها صورته وبدا لها لغزا محيرا ، . وحاولت ، عبثا ، ان تدفع نفسها الى فهمه ، وهزت كتفيها اذا حست انه سيعقل حريتها ثم فتحت المذياع . .
قال لزميلة : لم اكن اعلم ان المرأة - الى هذا الحد - قاصرة او تريد القصور .
ولم يجبه زميله ، واحس بابتذاله ، و . . تبذله . . لقد قرأ كثيرا عن مثل هؤلاء الفتيات ، وشاهدهن فى السنما وابتسم لهن كثيرا في الطريق . . ولما احس بفتاته تنقمص شخصية الفتاة الاروبية ، بدون
تفكير او مبدأ او مؤهلات ، قال له زميله : شانها فى ذلك شان مثيلاتها في اقطارنا العربية . . .
غير انه كان ، فى قرارة نفسه ، مؤمنا بان الحياة ، انما هى اشياء اخرى ذات وجود ومعنى وضرورة . . لذلك لم تؤلف لديه هذه الحادثة عقدة او ماساة او معضلة وانما ضمها الى بقية ذكرياته واعتبرها نهاية منطقية . . . . وكانت السنوات الاربعة ، التى مرت وهو منصرف عنها ، قد نحتت فيه شخصا غربيا منقسما عن نفسه . .
وذات يوم ، واثر ابتسامة غاضت فيها نظرته ، ضمها واذاب بعنف شفتيها فى . .
وذهب الى عملة وكان لم يطرأ شىء على سير حياته ، وقضى ليالى ساهرة ، غامرة . . .
وحدث ان كان فى موقف " جد " فألفى نفسه يفكر فيها ، ولم يدر ما الذي حمله الى ذلك خاصة فى مثل هذه اللحظات المحرجة . . .
ولكن الذى اثار استغرابه هو ان جميع الاحاسيس التى غمرته - وهو في اول عهده بها - قد برزت فجاة على سطح شعوره ، فقال كعادته : هي الصدفة .
وكان قد اراد ان يجعل لكل حركاته صدفة شاملة فلا يكون هو الفاعل بل تحركه عفوية بريئة لانه اكتشف ان ليس لارادته انسجام او تلاؤم . . . لقد اراد مرارا ان يكون فى حل من معضلات وجوده لكي لن ترتعش ذاته لتناقضها ومتناقضاتها . . لقد كان ، دوما ، يحس بافلاسه فيصمت . .
وقد حاول فى ذلك اليوم ان يوجد لعمله ذوقا او طعما او لذة ، ولما اجهده العمل وضع يديه فى جيبيه واخذ يتلمس - بحركة لا ارادية وفي احساس العيفان قطعا من النقود الصلبة ، القاسية كحياته وحيرته وغادر العمل متجولا . . وانتهى به المطاف الى بيت زميلة الشاب ، واستلقى على الفراش وحاول أن يقرأ . . ووقف زميله امام الشرفة واخذ يحملق بعينين لاتعيان وانطلق صوت الشاب بلحن مهدهد ، رقيق وبائس ، . . وكان يستمع اليه في سكون حزين . . .
والتفت اليه الشاب قائلا : لم ترق لى أية اغنية وأبدى له اشارة موافقة لا لانه أعجب بملاحظة زميله وانما لان هذا الموقف ذكره اشياء كثيرة . . لقد تذكر انه قرأ نفس المعنى فى احدى القصص ، وأن أصدقاء آخرين قالوا له نفس الحديث وانه ، هو نفسه أحس بهذا الفراغ ، واللامعنى . هو نفسه وجد فى اللامفر من أن يوافقه او من أن يقول مثله ولو على مضض
وليس له الآن الا ان يسكن خاوى الذهن ، يدور فى حلقة مفرغة . . لقد جرى طوال ايام ليعود . وزفرة محرقة تمزق
وجدانه وتعمى مشاعره ، ... وانتهى فى الاخير الى ان يوهم نفسه بانه يحب فتاته الشقراء ولكنه لا يدرى بالضبط لماذا ؟
ونهض تاركا زميله . . وكان يحس ان اقراره بعجزه بعث فيه شيئا من الراحة او شيئا اخر يشبه هذا . . نعم اقراره بعجزه . . ذلك العجز الذى يعيه كل الناس ، والذى لا يعبرون الا عن ياسهم من شفائه لا لانهم لا يرغبون فى الشفاء وانما هذا المرض اورثهم نوعا من الخذلان والاستسلام وضربا من السادية . . .
قالت له . انى مغمورة بسعادة لا تنتهى وامسكته ، واخذت تراقصه على الحان غربية . . . وكانت رائعة حقا وعذبة الى اقصى حد . ولكن روعة جاذبيتها اسكرتها وتركتها ثملى بسحرها اكثر منه . . قال فى سره " ان تحس المراة بجمالها وبميزتها النوعية ، وان تعى مفعولها على الرجل تلك هى السخرية و . . . "
كانت معالم انوثتها تتكاتف فى تلك اللحظة لتبديها لفة غريبة الرقة والجذب ونافذة المفعول بسخافة وطفولة . . وكان يتاملها فى شىء من الدوار . . .
قالت له لقد كنت افكر منذ قليل هل انا التى أتصرف فى الحوادث التي اقوم بها ام هى التى تضطرنى اليها . . . فتذكرت مديرة المدرسة التى طلبت منى ان احضر ابى لتعلمه بتغيبى عن المدرسة طيلة ايام . . وكنت اعلم انه سيقول لها انى كنت مريضة او شيئا اخر مثل هذا وذلك بيسر وسهولة . . . قال . لنرقص ، لان ليس اجدى من الرقص فى مثل هذه اللقاءات . . .
وفجأة الفى نفسه يحاول ان يعلل وجوده مع فتاة لا تربطه بها صلة شرعية . . او عرفية . وتوقف ولكنها تابعت رقصها بخفة ورشاقة ونخوة . وقد كانت في الاثناء تحس كل حركاتها ووقعها . . وسالها عن امها فقالت له : غادرت المدرسة اليوم عند العصر واحسست انى شديدة الحيوية واني عرضة لمغامرة ما . . ورايت شابا انيقا ، واستجبت لابتساماته . .
وكان باستطاعتى ان أصرفه ولكنى اردت ان يكذب كسابقيه ويقول لى من اللحظات الاولى انه يحبني حتى العبادة . . وفكرت ، وانا امشى الى جانبه ، لو انى احبه ؟ . .
ولما سالني عن اسمى و . . قلت له دع الصدفة تجمعنا مرة اخرى . . كنت اعلم ان الصدفة لا تعيد نفسها كما اعلم انى لن ابتسم له وانما الذى ضحكت له ذاتى هو ايمانى بان هذا الحادث سوف يكون بعيد الاثر فى نفس صاحبنا . .
قال على مضض : وأى معنى لمثل هذا السلوك
قالت : واى معنى للمرأة سوى هذا ؟ سوى هذا يا فلان ، وهل تريد ان تمنح المرأة الرجل شيئا آخر ، ان تحس انى ، لك ، كلا متجاوبا ولكن هى ، هى ما تريد ؟ وكيف تثبت وجودها فيك واى معنى لما ستقوله لى عن ( الحب والصدق والاخلاص والفضيلة . . . )
كلها الفاظ ساخرة تبحث عن مسميات هي وهمية في دماغك . . تبحث عن وجودها فى يدك ، فى عينيك . . فيك . ولكنك سوف تبقى انت ، انت الذى قالت له تلك المراة قبيل زواجها . . " ان التركيب البشرى عاجز على الدوام . . . "
واحس بكابة خرساء . . وكان يفكر هل هو يحبها ؟ واذا لماذا يفكر فيها ويحملها الى أن تفكر فى ماهيتها ؟
" انه قلق كما انه السعيد الى اقصى حد ، والشقى الى ابعد الحدود ، وان تلك الذبذبة تعذبه وتشده بقوة الى المعضلة . . " قال ذلك بكل حماقة الى زميله .
وجلست على ركبتيه ، ورفعت له راسه ونظرت فى عينيه . . واحس انه لم يكرهها قط وان وجودها فى حياته ضرورى وحتمى . . . وقالت له . . قلت لامى لماذا تحضرين لى مثل هذه الفساتين الانيقة او لماذا تريدين منى ان اكون فاتنة وجذابة ؟ قالت لى : لانك خلقت لهذا الدور وتبين لى انى اقوم بدور فى مسرحية ، مسرحية حياتنا وانه لا يمكن لنا ان نبدو فيها الا مقنعين ممثلين . . . وخاصة نحن النساء . .
وشدته اليها واغرورقت عيناها بالدمع وقالت سوف يقول آخرون مثل هذا . . وسوف يغمر كثيرون وجوههم مثلك فى مثل هذا الجسد ليبكوا ، ليبكوا لماذا ؟ وعن ماذا يا حبيبى . .
كانت الى صدره مغمضة العينين وكان يتأملها فى روعة سكونها ، وضمها فى رفق وعطف وهو يفكر هل هى الصدفة الطريفة ، القصيرة ؟ هل هو بصدد محو مفاجاة الصدفة ام هو نفسه صدفة وان كان كذلك فهو شاذ لان الصدفة شاذة ومن جنس الشذوذ
واحس مرة اخرى بغباوته اذ تركها تنام ، اى امراة ملتهبة الانوثة . . . . . كان يترقب شيئا يدفعه ان يكتب قصته ، ولما اخذ يبحث عن جنس هذا الشئ وجد نفسه امام فوضى لاكنه لها . .
فقصته ليست الاثرثرة مبتذلة ، عتيقة كما يقول زملأوه . . كان يعلم كل هذا عن قصته كما انه يعلم ان فى سجل مذكراته هذرا كثيرا
ولكنه صمم " ان ينتزع من عالم الاحياء الى مهب العصف للذة وهمية ليس لها معنى او كنه . . نعم ، ان ينتزع من عالم الاحياء ، الاحياء كما كانوا يسمون انفسهم . .
وقد يدفع الى الاحياء ليماشى وهو يعلم ان ليس لفعله اية قيمة تذكر او اهتزاز . . وقد يكون - وقتها باسما بل تبتسم شفتاه ليعلن لذاته رياءه ولتموت فيه معانيه . . وحقيقته . .
ووقف امام مكتبه لياخذ ورقة ويسجل قصته فوجده مبعثرا مضطربا لا يربط اجزاءه نسق . . فجلس على المقعد وامسك بالقلم ، واخذ يفكر ، او تخيل له ذلك ، وشرعت يده - بدون وعي - تخط اشكالا مختلفة . . ولم نظر فيها وجد انها فارغة لا يحويها منطق او معنى وانما هى آلية فارغة . .
واحس بمرارة قاذعة اذ اعادت هذه الاشكال الى ذهنه فكرة طالما حزت مشاعره ، فكرة واقعية يلمسها كلما ذهب الى عمله . او عاد منه . . وخشى ان تصبح فتاته ، بعد حين ، كهذه الاشكال التى صنعتها الآلية . .
وانتشله زميله من سذاجاته فغادرا المكتب . . والفى نفسه يحدث زميله حديثا طويلا كان قد سمعه من فتاته . . كان يحدثه عن الفتاة الشرقية وكيف ان الزواج يلبس حياتها آلية الرتابة . . .
وحدثه ايضا عن كاتبة فرنسية وكيف انها ابرزت الحقيقة المرة التى انتهى اليها ابطال كتابها عندما ارادوا ايقاف الزمن . . وتمديد الحركة ، الحركة التى هي اولى خصائص الحياة . . واحس وهو يحدث زميلة ان كل ما قالته له فتاته منطقي وان مثل هذه الاحاديث يجب ألا تصدر من امراة او ، على الاقل ، من فتاة فائقة الحمال . . ولما اعلمه زميله بانه لا يريد التفكير فى مثل هذه المواضيع احس بانه عيفان ، وان دوامة من الهذيان اخذت تغمره ، فغادر زميله .
كان مستلقيا على رمال الشاطئ وحيدا . . . وبينما كان يتامل الموج اذ شاهد زهرة ذاوية تتلاعب بها المياه . . فالتقطها
وحاول - عبثا - ان يجد فيها اريجها . . لقد طغت عليها رائحة مياه البحر واصبح لها الشكل دون المعنى . واحبس برغبة ملحة الى التدخين . .
وذهب الى فتاته ليقص عليها قصة طويلة لا يعلم عنها اى شىء . وعاد بها الى الشاطئ وهو يتأمل وجهها المدعوك ، وجهها الذى ارهقتة اللذة فتركت عليه اعياء . . يتامل ذلك الهوع الجسدى العنيف . .
لقد كانت تعلم لماذا يريدها فى مثل هذه الساعة كما انها تعلم لماذا كان يتاملها . .
ولما نظرت فى عينيه ابتسم فتغرغرت دمعة براقة فى عينيها . . وتركها ليذهب الى فتاة فى الرابعة من عمرها تلعب الى جوارهما ، واخذ يتاملها بلطف ، يتامل البراءة التى تشع من هيكلها الناعم . . . وتعجب عندما ادرك أن اللذة ترهق الجسم ارهاقا اشد من ارهاق الالم والتعب . .
وانتهت به غباوته الى انه فكر ان يحكى قصته للطفلة الصغيرة لكى تعلم شياء كثيرة عن مصيرها فتبقى هى البراءة والعفوية والسجية التى طالما تعشقها . .
ولكنه قبلها وتركها تلعب ، تلعب باسمة ، حالمة . وامسك فتاته ، ووقفا حيث تلامس المياه الرمال الذهبية ، واخذا ينظران الى امتداد اليم واهتلكهما ضرب من السكون الخشوعى . . فاستندت الى صدره . . .
وكان البحر يمتد امامهما ، يمتد بدون نهاية وردد وهو ينظر فى عينيها ( بدون نهاية ) فقالت : نعم ! بدون نهاية وهي تحاول - عبثا - ان توقف برجلها موجة فى لحظة وصولها الى الرمال . . . ولما طلبت منه ان يعودا الى البيت ابتسما على غرار السعداء
والتفتا الى الطفلة فابتسمت لهما . .
