الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

الفردوس الملعون

Share

- عزيزتى . . مالك يا عزيزة . - لست أدرى . . انما اشعر برغبة فى التدخين .  قالتها بفرنسية لا تخلو من خطا تونسى يعدى بحرف ما تعدى بنفسه من أفعالها ، فابتسمت وقلت : - التدخين ؟ ! ليكن .

غير أنى أحسست كأنما أطعن فى الصميم : (( فالدخان )) لا أحكم عليه من حيث التفسيرات الطبية تضع النبرة فى الغالب على المضار ، ولا من حيث التأويلات النفسانية تفضح بواسطته مركبات النفس وعقد الطفولة ، وإنما أمقته لدى النساء لأنه فى الغالب علامة انحراف أخلاقى وموطن استهجان . ولا أنكر أنى كنت دعوت صاحبتى هذه الى التدخين وحتى الى الشرب أكثر من مرة فى قصير خلواتنا ، ولكنى حقدت عليها عندما أشعلت السكارة تحديا للسارق من عيون المحيطين بى من أبناء قريتى ، وإن ألسنتهم لتلف أعناقهم لفا ، كما أن للأخبار بينهم محطات ارسال مذهلة تذيع الفضائح وأحاديث الخطوبة والزواج والفسخ بأسرع من لمح البصر ، فيعرف عنا الآخرون أضعاف ما نظنهم يعرفون ، أو ربما ضعفا أمام الرغبة وانهيارا أمام بدائى الغرائز .

كان موقفى دقيقا فى تلك اللحظة التى ارتفع فيها هدير محرك الحافلة الى حد الازعاج ، وكانت ارادتى سجينة السلبية كحل وقتى يجمد الاشياء عما هى عليه ، ولو تدخلت ردعا أو استحسانا لاسترعيت الانتباه ، ولترتب عن ذلك أقاويل تصنفنى اما على صعيد الخطيب أو على صعيد (( اللصقة )) فى حين أنى كنت أرفض الصعيدين معا تحرزا مما قد تسفر عنه الايام من معاشرة فتاة وصفوها لى بالطيش ، ورأيت فيها الملاك مجسما ؛ كما كانت مشاعرى فى معظمها ممزقة بين تحبيذ ما اعتبرته تحديا وثورة أدعو لهما بحكم السن والتمذهب فى الحياة ، وبين الرهبة مما عساه يقوله الآخرون عن فتاة من عائلة منحطة يتعلق بها شاب نسبوه قديما الى عائلة قيل إنها عريقة فى الشرف والمجد فى مجتمع يقدس بالى القيم ويعبد تليد الترهات .

ثم إنى ما أنكرت لخطة واحدة تأثيرات الآخرين فى تصرفات الأفراد يتزوجون فلانة لتمتدح أذواقهم ويشاد بحذقهم لشتى ما اعتبر معارف للحياة ، ويقال عنهم إنهم مزورون ، دهاة ، فنراهم يضحون بالذوق الشخصى على مذبح ما يلوكه المتقاعدون فى حلبة الحمى والضياع ، ونشاهدهم يتظاهرون بالسعادة تظاهرا ، فلا يغفلون ذكر زوجاتهم بشتى ما يحبذ العصر فى المرأة من نعوت حقيقتها التضارب والتنافى على صعيد الطبيعة ، وقد يحتج منصت آخر ببعض علم النفس فيتهم بالغيرة والحسد وتلوك عرضه الأفواه .

ولما كانت صاحبتى من عائلة غرقت فى وحل العهر وما تطهرت بعد ، ولما كانت تلك هى أحكام مجتمع قريتى ، فانى أحسست بالهلع يداهمنى تيارا من الحمى تعصف بكل أفكارى وتجعلنى أبصر الوجوه ضبابا هائما متموجا كدخان السكاير .

واجتاحنى فجأة شعور بالخجل حاد ، فتململت فى مقعدى مداراة للانفعال ، وفتحت كتابا أخفيت بين دفتيه وجهى الملتهب خزيا و عارا . ومالت على بحركة خليعة هدلت شعرها الأسود الفواح على وجهى دغدغات مثيرة عطرة شهية ، وطلبت منى أن أشركها فيما اقرأ ، فأنطقت من الصفحة أسطرا ما فهمت منها شيئا ، فقد كنت موزع الخواطر بين القوم ينقبون مجهدين النفس عن رائحة الفضيحة والعار ، وبين العطر والقرب والانتشاء يحفر فى أعصابى ويلقى بى فى ما يشبه الدوامة ، وبين حادثة السكارة تعصرنى ولا أقدر على تناسيها .

وجاءنى صوتها بعيدا قاصيا غريبا يعلن لى أنها تشتهى الانشاد . (( الانشاد ؟ )) واكتفيت باعادة اللفظة قنبلة انفجرت فى أعماقى فزعزعت ما تبقى صامدا من الاطلال فى نفسى المدمرة ؛ وجمعت متلاشى القوى لأسلط على اللفظة ما لقنونى من علم النفس وتحليل الضمير ، ولكنها فاجأتنى بقولها (( لو يطفأ النور )) واستحسنت الفكرة فالظلام مما يحجبنا عن تلصص العيون ، ويسمح لنا بحرية التحرك والهمس ؛ واتجهت الى السائق أحييه وأستنزل له العون من ناموس السماء ، فالتدين والاقرار بالموروث أمام العموم يؤكد لنا التربية الحسنة والثقافة الحق فى بسيط مداركهم ، فتصبح علاقتنا بهم على صعيد التعاطف وتكون بيننا القربى ، ثم أغدقت عليه من السكاير ما حيره وخرج به من ذاته فجعل يهذى بأسرار نفسه ويشرح لى خصوماته مع زوجته حتى طلبت منه إطفاء النور فلم يجد الى الممانعة سبيلا رغم احتجاجات البقية المحرومة صرخات سباب وشتم من روائع مجتمع لا أخلاقى جاهل .

ويشاء التعقد العاطفى كمظهر هامشى للانسان ألا تخصب مواهب الاجرام

فينا وتنشط الا فى الظلام . وأذكر أنى استمعت الى مراهق يزعم أنه لا يفكر فى قتل والده الا فى الظلام ، فاذا أشعل النور تلاشت تلك الخواطر أو انقلبت الى حب جارف يدفعه فى أغلب الأحيان الى البكاء ، ولقد أنصت الى هذه الحكاية بعينين جد مفتوحتين دهشة واستغرابا وعزوت الخاطرة الى شذوذ المراهق وغرابة أطواره حتى فاجأنى فى تلك اللحظة ما يشبه الرغبة فى خنق صاحبتى ؛ غير أنى اكتفيت بالجلوس على حافة المقعد فريسة للحزن والخيبة والغيظ .

وإنه لمن العسير على كل نفس أن تعترف بغير ما اليه صبت ، وبنقيض ما فى الآخر توهمت ، فتبدو لنا ( بناء على ذلك ) كل الحركات الآلية أو المقصودة للغير المحبوب قنناه فى ما اخترنا له من قوانين ، شذوذا يوحى بالخيبة وينذر بالويل أكثر مما يدعو الى التأمل ومراجعة الأحكام .

وأحسست بها تتململ فى مقعدها فتوقعت منها شيئا ، واجتاحنى الخوف من أن يكون فى المتوقع فضيحة فى عرف الجماعة ، وتصرفا طبيعيا فى لا عادية دفعاتها النسائية العميقة الغامضة وقد ركبها شيطان الجنس ؛ ومالت على الى حد الالتحام فى وتمتمت بنغمة رخيمة ساحرة : (( فادن منى ، وخذ اليك حنانى )) فراودنى الطرب ، وامتدحت حسن تقليدها ، ووعدتها فى جمع طويلة أسكتتها مسافة - وكان اسكاتها مرادى - بأن أتعهد فيها الموهبة الفنية ، ونجحت فى إثارتها فخضنا نقاشا فنيا طويلا ، غير أن يدها امتدت أثناء ذلك الى راحتى تهدهدها ثم تنزل بها الى . . فخذيها .

(( أحبك واخشاك )) . قالتها بصوت متقطع مهموس وقد احمر منها الأنف والوجنتان ، والجبين لدى عرق لذة وفورانا . ولكم وددت فى تلك اللحظة أن أتعرف على وجهى (( ما لونه ، وما شكل الانفعالات عليه )) .

كانت العيون تطيل الى النظر وتحقق فى التحديق ، كأنما أتيت جريمة رفعتنى عن منزلة البشر لأمثل فى نظرهم غرابة يشعرون بها عن طريق الابهام والحدس وينسبونها الى عديد التأويلات كالظل يبرهن على الوجود ولا بترجم عن الواقع . وكان التألم والخجل جادين قاسيين يعملان فى نفسى تبادلا وبغيظ ، وكانت خواطرى صورا دوائرية محورها صاحبتى وعناصرها المتداخلة المبهمة أشخاص غريبة عن هذا الأنا أعرفه ولا أتبينه ، أشعر به ولا أدركه ولا أفقه فحواه . وجعلت أحملق فى الوجوه تطأطئها نظراتى الملتهبة

وغرقت فى ابهام كالذى نشعر به عندما نحاول تكوين فكرة كلية عن الوجود ؛ فلا المكان أعرفه ولا صاحبتى آنس اليها ولا الاشياء أشعر بها ، وإنما هو الابهام يرفعنى الى غامض الدنى حيث تذوب الأحاسيس وتتبخر الرؤى طربا ممضا كالذى نعانيه ساعة الانصات التفهمى الى رائعة موسيقية حزينة .

(( اشعال السكارة ، الرغبة فى الانشاد ، اليد والفخذان )) ولم أنم . فلا قصص أمى الطريقة تروى لى فيها مجمل ما جد للعائلة والجيران طيلة غيابى بمعزيتى ، ولا الحجج النظرية أقيمها تبرية لأحطمها سفسطة ونقص ثقة فيمن أحب وشكا بمسليتى ، ولا التفكير فيها وتصورها فى منزلها وقد أحاط بها الوالدان والأخوات مسلمين بمنسينى ما حدث فى حافلة العودة الى قرية الأحاديث والشائعات .

إنها الغيرة ، وإنه الشك ، بتنوع فى الألم ، يترصدان المثقفين الحساسين من الناس وإنهم لشذوذ فى المجتمع من قبيل الجنون والعبقريات ، حتى اذا ما ظفرا بقاعدات للاعتماد انطلقا يبنيان صروح جهنم الأرض ولا لهب السماء .

واتخذ شتى الأوضاع فى مضجعى الملتهب ، وتغيضنى الأفكار وتثيرنى الصور فالعن المفكرة عجلة لا تدور فى الفراغ مطلقا ، وأحاول طرد الخواطر بعنف فأجهد النفس وألطم الجبهة بالمضموم والمبسوط فتعذبنى يداى ولا أنام . ولما أعيتني الحيل قمت الى حقيبتى أبحث عن زجاجة (( قمراية )) كنت انتويتها وليمة أشرك فى ايحائها بعض الأحباب . وما أتعس الانسان يبحث عن الضياع بالخمر وعن نفسه بالضياع ، ولكنها ضراوة الواقع تجبرنا على أن نتعهد فى أنفسنا الجنون عسى التمكن من إساغته يلهينا عن مواجهة الأذى .

اشترك في نشرتنا البريدية