الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

* الفصل الاول :, الارخبيل

Share

الكلمة هى قدر التعساء .... أما السعداء ، فلا يجدون وقتا للكتابة ...                              بيرنداللو

بخطى متئدة ، واثقة ، دخل سويلمي بيتا مهددا بالسقوط ... كانت الشمس فى غروبها حريقا دائريا تتراءى خلاله تضاريس زرقاء ، وكان الصمت ثقيلا يشيع روائح الموت ...

لحظات معدودات تتلاشى ويخرج سويلمي بخطى متئدة ، واثقة أيضا وفي يده سكين ملطخ حتى النصل بالدم ..

أطال التحديق الى الأفق ، والتفت الى البيت المتهالك فى الظل ، كانت حذوه ناقة تفرشخ ، وقط رمادى يموء مواء خافتا وبقرة عجفاء تنظر الى سويلمى نظرات مبهمة ....

ضغط سويلمي على مقبض السكين وعيناه الى الأفق . . تمتم بما يشبه التعزيم ، عاود التلفت الى الوراء ، رأى فراغا هائلا فملأه بأن أغمد فيه السكين ... وبخطى متئدة ، واثقة دائما ، أخذ فى التوجه الى بعيد ....

قال جدى : - حضارتكم كلها مباذل ،،، حضارتكم لا تساوى شيئا : عبودية ، كفر ،

نفاق ، اخلاق منحطة ، الخ ، ، ، الخ ، ، والبعرة - بطبيعة الحال - تدل على البعير ....

- أضحكتني طريقته فى التعليق والتأكيد على التعليق كان يتحدث بيدين متشنجتين كمن يلقى خطابا سياسيا بحماسة فائقه ، وكان يضرب الأرض بعكاز خشبى تهرأ واملاس من فرط الرحيل فى دائرة الزمن ... - ولكن ، يا جدى الـــــ ...

زوى ما بين الحاجبين وشهر فى وجهى كفا معروفة ، مرتعشة تستنكر ، هل أنه يعرف مسبقا ما سأقول ؟ .... فضلت الصمت فى تلك اللحظة على الأقل ....

تحسس بيديه المخشوشنتين جبته القمراية ، أخرج حقة صفراء ، فتحها باصبعين ، وأيضا بأصبعين حشا كهفى أنفه نفة شخماء استفحلت لا محالة فى جدى ولما تزل ،،، .

توغلت في أنفي رائحة حادة كأنها الدخان فى العينين ، عطست عطستين ، فأغرورقت عيناى دموعا تنمل كالسم فى مجرى الدم ....

وضحك جدى حتى طالعتنى من فمه شبه المفتوح أسنان قديمة نخرة ، متدهورة ،، يتشعب بين فجواتها عويل الريح يوما بعد يوم ...

إثاقل جدى ناهضا ، يعتمد العكاز ، وارتكز باليد الاخرى على كتفى ريثما تتموضع قدماه فى البلغة ... مشى خطوتين .... واستدار نصف التفاتة : - إذا سال عني الحاج مفتاح بوفضل أعلمني فورا ، إنى أشعر بالتعب ، وسأحاول أن أنام سويعة إن أمكن ...

رفعت البرادة الى فمى ،،، وشربت ليترا من الماء تقريبا ،، كانت الارض تتوهج شمسا يموت من قيظها الموت ،، وكانت قوافل السراب الموحش تتخطف قدام عيني ، فأستشعر غربة قاتلة تفتح فى رأسى حفلا غامضا من بكاء غامض ...

دجاجات تقوق - على نحو جنائزى - حذو الاصطبل ، وحمار - يبدو ان اشتم رائحة أتان - ينهق من بعيد ، وطيور تلجأ إلى الخرائب والكوى المنسية فى البحث عن الظل وكلبتنا المسنة تلهث لهاثا متصلا ، تقتحم وحدتى وترقد عند قدمى ...

شعرت برغبة فى التدخين سرعان ما اضمحلت ... تحررت من ثيابى وبقيت في تبان من النيلون ، ، أضحكتني هيئتى تلك ، تمددت على حصير بال وتخذت ذراعي مخدة ....

صمت × إغفاء = موت ــــــــــ مدن عابرة تتشكل فى اللاوعى ، الخ ، الخ . .

نملة مجنحة ، صفراء تخترق الحدود وتستقر داخل التبان .. تهوى بكلابتيها على ذكرى ، فجعتني حتى خلتها عقربا لدغتني ... نفذت فيها حكم الاعدام ومثلت بها أشنع تمثيل ، وندمت ، ندمت فيما بعد ، حتى لعنت نفسى : لقد اجرمت فعلا في حق كائن استضعفته فى لحظة ضعف ....

أضجرنى الضجر . أخذت كنشا متوسط الحجم ، ورقاته صفراء كالتين ، وقرأت قصائد رديئة فى الحب والغزل كتبتها بأسلوب إنشائى ، ركيك . ضحكت من وجهى المراهق وذكرياتي القديمة . فتركت الكنش جانبا وخرجت أتمشى فى ظل جدار يتداعى ....

السراب الموحش أيضا وأيضا وأيضا ! ،،، وأشجار الزيتون الثابتة ، كالجثث المتفسخة ، بخمائلها المغيرة . وهذا الموت المتنقل فى ألف شكل هنا وهناك ؟ .

أكاد أصرخ : أن جننت ... فى رأسى حوافر خريفية لخيول مطهمة بالحرائق ، وبئر مهجورة تتدفق بكاء ناسفا للاسس ، وشهيقا جهنميا ....

توقفت قليلا قبل أن ادخل الى بيتنا الخاوى . سمعت صوتا غليظا يهتف بجدى . التفت . كان الحاج مفتاح بوفضل واقفا كعسكرى فى حالة انضباط .

أوقدت لهما الكانون ... أحضرت الشاى ، السكر ، الماء ، الفحم . وخرجت ، تاركا جدى والحاج مفتاح فى حديث شهى كالشاى الذى سيشربان .

ارتبطت بالطريق ، وطفقت أمشى بخطى بطيئة ، وعرق لزج عطن يتفصد من مسام جسدى ، والقيظ يزرع فى أغوارى المدلهمة احساسا بأن شيئا أساسيا سيتهشم فى ذاتى ...

جلست فى زيتونة داكنة الظل . تبين لى أن يمامة تفر مذعورة من كوة فى بئر . ركزت بصرى ... فاصطدمت نظراتى بأم الزين بنت الحاج مفتاح ... الآن : تبدأ مأدبة الغرائز ... الآن : يندفع النهر المكبل ويحطم الدائرة المصطنعة ...

توجهت اليها والعطش ..أحسست حريقا هائلا يستيقظ في موطن حساس من جسدى ... لعنت الشيطان .... لكن ، فى مثل هذا القيظ وفي مثل هذا الخلاء ، تنهار الأسوار ، ويختبل الحكماء ... تملكني وسواس قهرى . ومن أدرانى أنها لا تكمي نفس الرغبة ؟ لكن ، من أين سأبدأ ؟ - أم الزين ....

هذا الجسد المتدفق وهجا ونارا وألسنة من دخان يحدد هدفى ويثقف وحشيتى ...

تبادلنا تحية مفتعلة ، فيها من سوء النية ما فيها ، فهمتني فيما يبدو ... دخلت معها فى فذلكة مفتعلة أيضا وأوهمت نفسي أني بذلك أكون قد حطمت حائطا رفعته القرية فى وجهينا ... ظللت أورطها وهى تتخلص ... والغابة تشحذ فى أعماقى أعصابها وانيابها وسكاكينها الظمأى الى الدم ...

ترددت ، ترددت ثم غصبا عنها ، ضممتها الى صدرى الملتهب ، وسحبتها معي بالعنف الى ظل الصبار وهى تلطمنى ، تلطمني ، وتكاد تفتح فى وجهى طريقا دمويا ..

حاولت النفاذ الى مركز الجاذبية القائظ ، ولكنها صدتني بالتحدى ، وكادت ترفع عقيرتها بالصراخ وتفضحنى ...

أخليت سبيلها مضطرا ... ولجأت الى الظل وفى حلقي : وهج الصحراء ورغوة الصابون ... أخجلتني فعلتى تلك ، فلعنت وجهى الخلفى . واعترفت أمام نفسي أنى ما زلت بشرا بدائيا لم أتحرر بعد ، من لبوس جدى وعكازه الغائص حتى الغياب ، فى المستنقع ...

وجهى يزراق ويتحول الى دخان ينعكس انعكاسا مكثفا على الرماد ... امتصنى العطش وتكدست فى حلقي رواسب الملح ... تسللت بخطى لص محاذر الى تربيعة الخال صالح اللجمي وسرقت دلاعة نزن خمسة كيلو فرام تقريبا ... ابتعدت عن التربيعة زهاء الخمسين مترا ، ولجأت من جديد الى الظل .... أمسكت الدلاعة بكلتا يدى ، وأهويت بها على جذع الزيتونة اليابس . كان جوفها أحمر كالجمر ، ومعسولا كالشهد ، وكان كلب " بافلوف " فى فمى يفرز لعابا تتهدم دونه أسوار الانتظار ....

إني ارتويت الآن ، يمكنني الانطلاق إذن .... انعطفت مع ثنية رملية ، ملتوية ،، صدى ناقوس يتناهى الى مسمعى ، التفت ، كان الساسى : خماس أبى فى سنوات الزمة والنية ،، يتصبب عرقا وهو يحاذى بغلته اللاهثة ويساعدها بكل ما أوتى من قوة ، للخروج بالعربة من مسافة الرمل ... بادرته بالتحية وبدأت أدفع العربة من خلف الى أن تغوص قدماى ... تجاوزنا الثنية الرملية بعسر ولهات ،، فأوقف الساسى البغلة - العربة وتنفس الصعداء ..

مسح بكم قميصه المغبر طبقة العرق من على جبينه المحروق ، ثم أشعل سيفارو " أرتي " ومنحنى سيفارو وابتسامة مدعمة بكلام حلو ، لم يصطنعه ولا يصدر عادة الا من سلالة بشر طيب القلب ...

اتخذ حيز مؤخرة فى النصف الامامى من العربة ، وأشار على بأن أركب حذوه .. نحي المظلة عن رأسه ومنحنيها بالحاح فرفضت بالحاح ، وشكرته شكرا جزيلا ...

فى قريتي : يساء الى البعض ، ويمر الزمن ونلاحظ أنهم طيبون ، طيبون ، طيبون ... والساسى واحد من هؤلاء ... استغله أبى استغلالا فاحشا ، ومر الزمن ، وظل الساسى بوجهه الاول : طيبا ، طيبا ، طيبا . يكن لنا الحب ولا اتصور الكراهية صادفته يوما ...

اقام الساسى منذ زمن بعيد بشمار ، وشمار برواية الاجداد ولى صالح ( هكذا يقولون ) ، يؤذي من يتحرش به . ويبارك كل من كان حسن النية ، والله أعلم ... دعوت الساسى الى الغذاء معى ، فاعتذر لارتباطه بشغل هام ، لكنه تقبل مني نصيبا معينا من لحم الزردة طازجا ( تبركا بالولى الصالح ) ...

كانت أمي جالسة القرفصاء ، تفرث كرش الكبش مع بعض النساء المقمطات - بالدخالل - السوداء وكانت أخواتى وبعض الفتيات يطبخن لحم الزردة ويخضن فى احاديث شهية ومختلفة والتوتة تخيم أغصانها الملتفة ؛ عليهن ...

وتحت القبة ، اجتمع إخوتى وثلة من الاقارب والاحباب ، يعدون الشاى ويتحدثون فى كل شئ ، فى السياسة ، فى الفلاحة ، فى الاقتصاد ، فى الادب الشعبى ، فى الموت ، فى الزواج ، فى الجرائم ، يتحدثون فى كل ما يخطر بالبال اولا يخطر ... يبدأ الواحد منهم بماوتسي تونغ و( كيف ) تمكن برأسه الصغير من توحيد شعب كبير وينتهى الى الساسى كيف عضه كلب مسعور ولم يكلب ...

سلمت على الجميع بلا ضجة واقتبلنى الجميع بلا ضجة أيضا ، كنت فى الحقيقة متضايقا أكثر من اللزوم ، ترتسم على وجهى كآبة من نوع خاص ... ولم أكن بمستعد للدخول فى أى حديث ..

ركز الخال مسعود كفه الغليظة على خده وانبرى يغنى بصوت عال حتى برزت عروق رقبته ،، والزغاريد تهطل عليه كالمطر ... غادرت بيت ( الولى الصالح ) وأخذت أتمشى وحدى والشمس تكبس حرارتها والظل يتقلص من وجهى ... كانت بية بنت بوزيان تطاول " طابية الهندى " حتى يرتفع الفستان الى مستوى الفخذين ..

كانت عجيزتها ضخمة وكانت مفلطحة النهدين كضرعي بقرة حلوب .. التفتت الى من تحت وابتسمت ابتساما تحتيا ... انحنت تمسح بمثنانة من الشيح نشيرة الهندى ، وانحنيت بدورى ألتقط حجرا وأرمى به كلبا سائبا ، برانيا يطارد كلبتنا السوداء ... ضحكت بية هذه المرة وكأنها تعاتبنى على قمعى لحرية كلبين متآلفين ... فى هذا القيظ ، تشهيتها كأشد ما يكون التشهى وتمنيت لو أغتصبتها اغتصابا تتلاقى فيه النار بالنار ، والاسنان بالاسنان فى رحلة انطفاء وذوبان ، واتحاد باللاوعى .... لكن اعتقادها الراسخ فى ( شمار ) جعل منها امرأة مستحيلة فى هذا اللقاء على الاقل ....

فى ظل خروب شاخت ، تمددت ، وفي ذاكرتى أغنية حزينة ونادرة تتلاشى ، تملؤنى غربة ، ، وصورة داكنة لأمراة فارطة تشق الصحراء وتلتفت الى الوراء . هذه المرأة تكرهنى حتى الموت . وهى الآن ، زوجة محصنة لابن عمى . ممكن أنها فهمتنى ، وممكن أيضا أنها لم تفهمني على الاطلاق . عيبها أنها كانت ضيقة الافق كحلزونة تموت وتحيا فى صدفتها ، وكنت انا ممتلىء الرأس بآفاق كثيرة ، أتقدم نحو الشمس وكل رغبة فى جنى الضوء من مجاهل النوء ... إنها تعذبني الآن فى جلوسها الى أمي بهذا الشكل ، إنها تلازمها كالظل ، لعلها تشتم من خلالها عطرى القديم ! أو لعلها تريد كي ذاكرتى بطريقتها الخاصة !..

- يتبع -

اشترك في نشرتنا البريدية