( 7 )
لم يعد - كما يصوره الخيال - بسيارة فى منتهى الفخامة أو بفتاة شقراء في غاية من الجمال ، أو بالهيلمان . لم يعد بشهادة دكتوراه . ولكنه يا سادتى الكرام ، عاد ككل طائر مهاجر شده الحنين الى مسقط الرأس .
كان يتطلع بعينه الى أشجار الزيتون وطوابى الهندى وكان يردد : لا أحد يفهمني في هذا العالم ، اللهم أنت يا قريتي . هذه النعاج وهى تصادر الكلأ النادر ، رفعت رؤوسها واشر أبت بأعناقها وتوقفت عن المضغ لتنظرنى . وهذه الطيور ، وكأني ألحظها لاول مرة ، ركزت فوق الخمائل وأمطرتني غناء ، انها طليقة كالريح ، لا تعرف معنى للاقفاص والسجون ، تتجمع متى تشاء ، وتمارس حقها فى التحليق كما تشاء .
القرية كلها تلتف حول سويلمي ، الكل يسال : - كيف الحال يا سويلمي ؟ ما هذه الغيبة الطويلة ؟ وفي غمرة التحيات الزكيات ، كانت النظرات تستقر على وجه ريم فى شكل أسئلة : - انها سمراء مثل بناتنا تماما . هل هي أيضا قدمت مع سويلمي من ديار الغربة ؟ ...
لكن مبروك الشامخى بمرفقه همز الحطاب الجلاصى وهمس وعيناه لا تفارقان سويلمي : * لقد تغير سويلمي كثيرا . أصبح وقورا أكثر من ذى قبل . زاد هيبة ونصاعة . لكأنه من أبناء النصارى الذين ينعمون بالراحة والظل . الوجه بياض مشرب بحمرة ، والهيكل يتحرك بمزيد من التثاقل والاناة .. والنظرات - سبحان الله - يشع منها بريق رصين مغلف بالانشراح . لم يعد صعلوكا ، يحمل أسلابا رثة ، ولحية كثة ، لم يعد ذلك المتصوف .. يلعن كل من دب وهب ، بلا سبب أحيانا . لم يعد محروق القسمات أو دائم الهم .. كل شئ تغير فى سويلمى . هذا مؤكد . غادر القرية بوشاح من الغبار وعاد اليها بوشاح من الفرح والحب والياسمين ..
من بعيد ، لاحت له امه تسرع الخطى وتبكى ... من فرط المفاجأة بطبيعة الحال فتحت ذراعيها وألقت بثقلها عليه . لم تقدر على الكلام . دموعها فقط كانت تتكلم باسم الامومة ، وتؤكد الشعور الحقيقي بالمفاجأة .. التفتت الى ريم واحتضنتها بحنان متدفق أيضا .. كانت ريم تبكى بصمت ، وعلى خد سويلمي تحدرت دمعة بحجم الرعب فى العالم . امام هذا الموقف ، تفرق سكان القرية ، وتركوا سويلمي بين أمه وريم ، ووالده الذى تراءى لهم قادما ، وفى حلقه غصة وفواق يقتلان فيه القدرة ع التعبير ..
فى البيت ، رائحة جديدة ، حديثة العهد .. الطمأنينة تطل عليك من كل جهة ، ووالدك انتهى عنفوانه . هو الآن يصلى وينوى الحج الى بيت الله الحرام .
ابتسمت أمك حين لمحت على وجهك الدهشة : - ربي قياد فى العفارت ... بمعنى آخر ، أن والدك عرف الطريق المستقيم وصار تقيا يعبد ربه ويحب أمك واخوتك كثيرا ..
وانت جاليس على الدكة ، تذكرت بيتا خربا جدا ، كنت تقيم به مع جد لك اغتلتة فى غمرة الانفعال والوعى ، وأهلت على جثته التراب ثم سافرت الى حيث لا أحد يدرى .
وعلى الرغم من قتلك له ، ظل ذاك الشيخ يشهد الافراح والاتراح ، ويطلع على الناس فى ألف شكل .. لكنه فى المدة الاخيرة اختفي ... لا شك انه تنبأ بعودتك فانطوى حتى لا تغضب فتنكل به ..
تتذكره الآن فتسأل والدك عنه . يفيدك انه مات أو يشاع أنه مات .. وتحيطك أمك علما بأنه ما زال حيا ولا أحد يعرف مع من وفى أى مختل خرب يعيش ؟ وبالتوغل في الوجوه والعيون ، تعرف أن ذكره تلاشى أو كاد ، من الصدور ، وفي هذا بشرى لكل سويلمى يكره التعايش السلمي مع أشباع الموت فى القرية ...
فى البيت ، رائحة حديدة ، حديثة العهد : وداعة النظرات والجدران والاثاث . والحب ... ذلك السلاح الفتاك ، بات عادة حميدة متمكنة بالجذور .. يمكنك اذن أن تطمئن !.. لاول مرة ، تحس أنك موجود ، وانك جزيرة خضراء ، تجرى فى أعصابها الانهار .
ترشفت كأس شاى منعنع . ابتسمت ريم فابتسمت أنت . هي أيضا احست نهاية موجودة وانها جزيرة آمنة تغرد فى أفيائها الاطيار .. تجمعت في رأسك ظلال وارفة تمددت فيها القرية ، بسكانها وقططها وكلابها ، وطيورها وأشجارها .... وطم طميمها .
ضممتها الى القلب بحنو الامهات ... والتفت الى والدك ، وريم منكسة الرأس : - والدى ، هذه ريم ، كانت تدرس معى فى الجامعة . وعدتها قبل هجرتي بالزواج . ونحن نسألك الآن ان ترضى عنا وتزكى فرحتنا الاولى ..
* أنا راض تمام الرضى يا ابنى . خلنى على الاقل ، اشهد فرحتكما قبل أن يدركني الموت .. نفس الكلام سقته الى أمك .. كادت تموت من الغبطة .. انفرجت أساريرها وازدهر الدمع فى عينيها المسيحتين بالكحل ، وشاعت فى البيت روائح مثمرة وأضواء جذلى تخب بالخلاخيل ...
كل القرية احتفلت بسويلمي وريم . وللحقيقة والتاريخ ، كان عرسا تاريخيا أشاد به الكبير والصغير . لاول مرة فى تاريخ القرية يقع عرس خارق لما هو معتاد .
سويلمى وريم على منصة متواضعة ، وأمامهما خلق كبير . قبل بدء طقوس الاحتفال ، أخذ سويلمي مضخم الصوت وتكلم فى الحاضرين قال :
( أنا لست قس بن ساعدة لاشنف أسماعكم بالسجع والكلم المنظوم ، ولكنى أغتنم هذه المناسبة ، لأؤكد لكم جميعا ان القرية ، أى قرية لا تنهض الا بأبنائها .
وأنا اذ أقيم عرسى على هذا النحو ، فلانى أريد أن تتغير القرية بنا ، فنقف جنبا الى جنب وكأننا كيان واحد . لا يعرف الوباء لنا نوافذ أو ثغرة للتسلل .
فلنتحاب أكثر . وليغض كل بشر منكم بصره عن كل ما هو قشور وكراهية وقبح ، وليملأ كل واحد منكم قلبه بكل ما هو لب وحب وجمال . ان في القرية كلابا سودا نتطير جميعا من نباحها الاسود ... فهلا أجهزنا عليها وسحقناها سحقا ؟
" فالكلب الاسود يبقى دائما كلبا أسود حتى ولو يكون .. يصطاد الفيران" .... )
وانت تعذب الخلق بالطيبة والحب والبسمة الرصينة وريم جنبك حبلى بألف طفل عظيم ، قفز الى ذاكرتك شبح كأنه الظلام . هل كنت على حق ، عندما ذبحت جدك من الوريد الى الوريد ؟
قلت أنه مشلول الساعد والفكر وانه لا يليق بالمقام . وان وجوده فى لقرية وفي مثل هذا العرس بالذات وصمة عار . لانه شاخ اكثر من اللزوم ، كله عاهات . رأسه محشو بالموت و " بالمهزومين الموتى قبل الموت " ، قلبه حالك الظلام ، مطلى بالزفت ، وعيناه ؟ ومتى كانت له عينان ؟ ...
بعد كل ذاك العذاب والحلم ، تعود يا سويلمي الى الارض . لا تنس أنك استاذ مجاز .. الشهائد لاغية .. الارض وحدها هى الشهادة .. طول النهار وانت تفلحها . وفي العشية تلتقى بالقرية شبيبة وكهولا وشيوخا .
تتحدث اليهم بألفاظ جديدة وضخمة تتحدر بردا وسلاما على القلب . حدثتهم عن هجرتك وما لاقيت فيها من نماذج انسياحيوانية شاذة .. حدثتهم عن الساسة والسياسة هناك ، ، عن الفلاحة والصناعة والتجارة ..حدثتهم عن المسخ والعبودية والظلم .. حدثتهم عن الانفة والكرامة ، ، حدثتهم عن النساء وهو أروع باب يتكرر كل ليلة تقريبا لما يتضمنه من نوادر تشحذ الخيال ..
حدثتهم عن الرياضة وعن الشباب والخواء الروحى ... حدثتهم عن الافيون وعن اللصوص وخفة الاصابع وحدثتهم بكل استفاضة عن التمومس الفكرى .. ، كنت بين الحين والحين تعلم الشبان الشطرنج : لعبة فكرية تستتأثرها دون غيرها . آثرت أن تنشرها فى القرية ، لتصبح عادة حميدة . . وكنت ترتاح كثيرا وانت ترى سالم العيادى : العامل اليومى البسيط يفكر ويعلم كيف سيسيطر الرخ على الرقعة ...
فى الليل تعود الى البيت ، فتستقبلك ريم بابتسامة رقيقة ، رقيقة تفتح فيك النوافذ وتزيح عن كتفيك جبلا من التعب وأكواما من الغبار ..
تتوسد ركبة أمك حينا ، وركبة ريم حينا آخر.. وتشعر بالاستقرار .
لكن هاجسا خفيا يزعجك ، يزعجك بالحاح . تذكرت صديقك " سوفلجين عبيد " الذي ما انفك يؤكد أن عطشى" وانها " تلعن هذا الجيل الآسن " ، " فى عصر قاس ، ملتاث وضنين" .. نذكرت كل الاحباب والاصدقاء ، وشعرت بالغربة ...
هل أنهم نسوا - هكذا - وبسرعة سويلمي بركات ؟ هو لم يكتب منذ زمن بعبد ولو بتا واحدا من الشعر ، أو فصلا من رواية . . طلق الكتابة بمحض لارادة وتزوج الارض . . ما قيمة الكلمة فى هذا العصر ؟ هل " تسقي عطشانا فطرة ماء " أو هل " تطعم طفلا كسرة خبز ؟ ..."...
هكذا بتساءل.. فلتذهب الكلمة الى الجحيم اذن! . فهو ليس بصاحب الطموح الفردى والبحث عن المجد الذاتي كأبى الطيب المتنبى .. وكل ما يهمه فعلا أن لا يهتم به أحد . . لان الحصاد معروف مسبقا .. فما الفائدة اذن ، ما دام ينتهى ككل كيان قائم ..
فسيان لديه أن يكون وزيرا مهابا أو عاملا بسيطا .. وسيان لديه أن يأكل بملعقة من الذهب أو بمغرفة من الخشب .. النتيجة هى هى ... وبالتالى ، لن ولن يشغله المجد ... ولكن تهمه أمه ، وتهمه ريم ويهمه والده ويهمه اخوته وتهمه الارض ... هذا كل ما فى الامر ...
فى النهار ، يحرث الارض وفي الليل يحرث ريم .. ويحس انه عادى جدا ، وسعيد ، ، سعيد جدا ..
وريم تحش الاعشاب الدخيلة على مشاتل الفلفل والطماطم ، فاجأها وجع فى الاحشاء هائل .. انه المخاض . ولم يتفطن سويلمي الى ذلك الا بعد أن وضعت ريم وليدا بهى الطلعة .. هكذا يخيل الى الوالدين أن الوليد جميل جدا حتى ولو كان على قدر كبير من القبح ... وهكذا تلد النساء فى القرية بكل بساطة وبلا ضجيج أو شهيق أو كلفة ...
المولود فى القرية ينطلق من الرحم فارسا ، طليق اليدين ، شاسع العينين .. يرفض الثياب المخاطة على قده ، ويتحرج من القماطة ... انه يجد لذة بالغة فى التمرغ على التراب ، والتخاطب مع العصافير والاشجار...
ودفنت يا سويلمي عذاب السنوات المنصرمة ... تأكدت من أن العالم ، هذا العالم لا يعدو أن يكون مجموعة جزر بشرية مركوزة على جماجم الموتى ونقيق الضفادع ...
كان يمكنك أن تكون ذا سلطان ونفوذ عليها ان شئت .. فقد تبين لك بالتجربة أنك مقبول فى مختلف الاوساط ، وانك ذكي تعرف كيف ومتى تذل المسافات الوعرة ، وتفتح فى المستحيل ثنية ... لكنك لم تفعل ...
يقولون : أن من يفشل فى تحقيق حلمه ، يلجأ الى مثل هذا الكلام لكي يسلى نفسه ... لكنك تدحض هذا الرأى ... أنت تذكر أنك كتبت منذ مدة طويلة رواية يتيمة ، مجدت فيها الارض ، ولعنت المدينة ..
أردت للبطل مصيرا ، مغمورا فى احدى القرى المنسية ، ليتمتع بالحب وبالهواء الطلق وبالجهل بما وراء الامور ، وبالحياة البسيطة التى يعسر الوصول إليها .. وتبين فيما بعد ، أنك لم تكن تكتب هذه الرواية ، الا لتكتب نفسك وتؤسس عالما بسيطا وعظيما ، للاستقرار ...
ريم وضعت لك طفلا سميته " مهيار " .. والدتك ينبوع حب يتدفق ... ووالدك قمر يضىء رغم ظلمة الفقر .. واخوتك أغصان خضراء في حالة نمو ملحوظ ... كل واحد منهم جزيرة لها أفراحها ولها أحزانها ... وانت أمام هذا الارخبيل لا تملك الا أن تسجد وتبارك هذا التواجد خارج التاريخ والاعتبار ...
ذات صباح غير ذى زرع وبينما كانت العاصفة تحاصر الطيور الضعيفة ، وتلوى اعناق الازهار المشرئبة .. تسلل رجال شداد ، غلاظ الى سويلمي وقبضوا عليه ..
لم يحاول التملص منهم ، بل رسم ابتسامة رصينة على شفتيه وسار معهم بعد أن ودع "مهيار " بنظرة ذات معنى .. ولم تختلج ريم ، بل ظلت متماسكة ، حازمة النظرات وعلى شفتيها نصف ابتسامة ملجومة .. أخيرا ، ضبطوه ، واتهموه بجريمة قتل .
فى المساء ، سألت القرية عن سويلمى ، فقيل : - ذهبت به العاصفة !... وبخطى متئدة ، واثقة ، دخل عبد الحميد اليوسفي بيتا مهددا بالسقوط ... كانت الشمس فى غروبها حريقا دائريا تتراءى خلاله تضاريس زرقاء ، وكان الصمت ثقيلا يشيع روائح الموت ... لحظات معدودات تتلاشى ... ويخرج عبد الحميد بخطى متئدة ، واثقة ايضا وفى يده سكين ملطخ حتى النصل بالدم ...
أطال التحديق الى الافق ، والتفت الى البيت المتهالك فى الظل . كانت حذوه ناقة تفرشخ ، وقط رمادى يموء مواء خافتا ، وبقرة عجفاء تنظر الى عبد الحميد نظرات مبهمة ... ضغط عبد الحميد على مقبض السكين وعيناه الى الافق .. تمتم بما يشبه التعزيم . عاود التلفت الى الوراء ، رأى فراغا هائلا فملأه بأن أغمد فيه السكين وبخطى متئدة ، واثقة دائما ، أخذ فى التوجه الى بعيد .... ( انتهت )
