4
فى الواقعية :
وقد جرت نظرية الاتصال أهلها من فرض الموضوع الاجتماعى إلى فرض الموضوع الواقعى .
دفعهم اعتبارهم الفنان مرآة إلى الحديث عن أحسن مرآة وقالوا بالامانة إزاء الشئ المصور أى إزاء الواقع الاجتماعى .
وإنى لمؤيد لوجوب الامانة الفنية تمام التأييد بدون أن أعتبر الفنان مرآة - كما دحضت - وبدون أن اعتبر " الشئ المصور " شيئا منفصلا عن الفنان .
فإذا قيل إن الفنان الحق من ينقل الحقيقة الاجتماعية وجب أن نتساءل : كيف ؟ للاجابة عن هذا السؤال يجب أن نتصف - نحن أيضا - بالأمانة التى يتصف بها الفنان الحق .
قالوا : " إن الفنان يتأثر بالحقائق الاجتماعية " .
ثم حرنوا وأبوا الاعتراف بنصف الآية الثانى القائل : " ويؤثر فيها " . فاذا الفنان - لديهم - ناقل ماء وإذا وجدانه جرة لا لون لها ولا رائحة وإذا هى الماء نفسه .
جرة الوجدان ليست كجرة الماء .
فهى تتأثر بما تحتوى . لكنها تؤثر أيضا .
الحقيقة الاجتماعية واحدة . لكن حقائق الناس كثيرة ( 23 ) .
النفس الانسانية ليست ساقية من إسمنت أو قناة من رصاص تسيل فيها حوادث المجتمع حتى تبدو على طرف اللسان أو على سن القلم أو على حد الريشة كما بدت للعين ( 24 ) .
قالوا إن من يزعم تأثير الوجدان فى الحقيقة الاجتماعية يسعى لتبرير مسخه للحقيقة لأنانيته وقسوة قلبه وانغلاق وجدانه دون شقاء الأخ الانسان .
الحقيقة الأولى هى أن الفنان لا يمكن أن يكون فنانا إن كان منغلق الوجدان .
والحقيقة الثانية - وهى حقيقة إنسانية يجب أن تخضع لها الحقائق الاجتماعية هى ان وجدان الفنان متفتح على الحقيقة الاجتماعية . وأن تفتحها ليس شبيها بتفتح مجرى الساقية أو فوهة القناة بل تفتح النفس الانسانية المنفعلة والفاعلة . المنفعلة بما حولها وبما فيها . الفاعلة فى ما حولها وفى ما فيها .
نعم . هى مؤثرة فى ما هى متفتحة له .
الساقية لا تصنع . والقناة لا تلد .
ووجدان الفنان رحم يصنع فيلد .
الفنان لا يمشى على هواه كما لا تمشى المرأة الحبلى على هواها . والفنان لا يمشى - كذلك - على هوى المجتمع كما لا تمشى المرأة الحبلى على هوى الزوج فى ما تلد .
نحن نؤيد الدعوة إلى الأمانة . لكنا ندقق بأن أمانة الفنان غير أمانة الآلة الفوتوغرافية وغير أمانة الجرة .
فأمانة الآلة الفوتوغرافية تكون إزاء الشئ المصور .
وأمانة الجرة تكون إزاء ما تحتويه .
أما أمانة الفنان فذات اتجاه آخر : اتجاه الموضوع المصطبغ بالذات ( 25 ) . وهو نفسه اتجاه الذات المصطبغة بالحقيقة الاجتماعية التى شاءت أن تصطبغ بها أو التى انقدحت لها شرارتها ( 26 ) .
الفنان يتأثر بالحقيقة الاجتماعية فيتلون بها ويؤثر فى الحقيقة الاجتماعية فتتلون به . فهو عاجز على أن يعبر عن ذاته الفردية كما أنه عاجز على أن ينقل الحقيقة الاجتماعية نقلا ببغائيا . يكفى - إذن - أن يفيض ويتفنن ليكون فنانا .
عليه - إذن - أن يلتزم ذاته المتفتحة . تلك أمانته وذلك التزامه .
قال الاديب الايطالى إيناسيو سيلونه Silone مدير مجلة تمبو بريزنتية : " إن الكاتب المخلص الملتزم بدعوة شخصية هو ذلك الامين لنفسه فى خدمة الانسان وإخوانه البشر " ( 27 ) .
ونقل مارون عبود قولا رائعا لتوفيق الحكيم جاء فيه : " إن الاديب لا يموت مقتولا بل يموت منتحرا " ( 28 ) .
نعم . لم يقتل باسترناك ذاته العامرة بالايمان . لم ينتحر . لذلك لم يمت . الامانة إزاء الذات . تلك أمانة الفنان . وذلك هو التأصل فى المجتمع . ذلك أن الفنان - ككل إنسان - عاجز عن التعبير عن ذاته الفردية .
تلك هى الواقعية الاصيلة . وتلك هي الاصالة الواقعية .
الفنان يعمل فى نطاق وجوده الفنى العمل الذى يهدف من ورائه إلى جوهر الفن .
هو بصور الجزء القبيح - لديه - تشهيرا بمطلق القبح . ويصور الجزء الجميل - لديه - إشهارا لمطلق الجمال ( 29 ) .
هذا الجزء المصور - جميلا كان أم قبيحا - قد يكون واقعا وقد يكون خيالا . قد يكون واقعا يسمو وقد يكون خيالا يتحقق قد يكون واقعا دفاعا إلى المثال . وقد يكون مثالا جذابا من الواقع ( 30 ) قد يكون تبشيعا وقد يكون إغراء . هذا
لا ينفى ذاك وذاك لا ينفى هذا ( 31 ) .
بل العكس هو الصحيح . فقدان ذاك ينفى هذا . وفقدان هذا ينفى ذاك . فقدان المثال السامى يحول الواقع إلى مثال آخر وضيع . وفقدان الواقع يحول المثال إلى واقع آخر وهمى . الاول كائن بلا رأس . والثاني كائن بلا قدم .
أنفى الانسانية عن كائن فقد عقله أو قلبه . وأومن أن الانسان يحمل فيه محرك الواقعية ومحرك المثالية . فان كان على العقل أن يحمل الانسان على " التعقل " أى اعنتبار الواقع والصبر على مكاره الواقع فعلى القلب أن يقلب أى يثور على الواقع متعلقا بما فوق .
الواقعي الزاحف إنسان لا قلب له . هو فيلانت Philinte أحد أبطال " المستوحش " Le Misanthrope لموليير Moliere ( 32 ) .
والمثالى السابح إنسان لا عقل له . هو آلسيست Alceste .
والانسان الانسان واقعى مثالى .
يتحد العقل والقلب فيكون الانسان ويفترقان فينتفى الانسان . ويكون الشيطان هنا والملاك هناك .
الانسان ينظر إلى " ما هو كائن " فينظمه ويحسنه على ضوء " ما يجب أن يكون " .
والفنان قد يسجل ال " ما هو كائن " - بشرط أن يمكن تحسينه - قصد
التعرف يسمح للمتفرج بأن يقارن السروال الموصوف بسرواله . وقد يجد فيهما تشابها فى الشكل أو المقاييس أو الألوان . الأثر الفنى - كما ذكرت - هو ما يخيل للأفراد أنهم يرون أنفسهم فيه . هو شرارة تؤدى إلى العمل بدون شك . لكن حسب ما يعرفه المستهلك الفنى من قبل أن يستهلك . Jean Kanapa.Situation de I' intellectuel p.212 et 293 . Editions Sociales Paris 1957
) 31 ) الدكتورة بنت الشاطئ : الأدب العربى المعاصر - ص 260 .
منشورات مجلة " أضواء " الباريسية - 1962 .
( 32 ) سارتر من هذا النوع : يزعم أنه يحب الانسان ، يثور على " إنسانية
الملائكة " وعلى من " يكتب لتوعية الملائكة " . لكن نظرة واحدة على حالة
الشباب " الوجودى " توضح نتائج ذلك الحب السارترى الكبير ! ! لقد
فعلت السارترية فى الشباب ما فعلته الحربان العالميتان وأكثر . نعم .
لا بد من إنسانية الملائكة فى سبيل تحقيق ملائكية الانسان وتغلبها على
شيطانيته . تلك طريق وهذه هدف . لكن قاتل الله الكبرياء .
J. P. Sartre . La nausee p. 80. Gallimard . Paris 1938
الرفع إلى ال " ما يجب أن يكون " . وقد يتخيل ال " ما يجب أن يكون " - بشرط أن يمكن تحقيقه قصد الانتشال مـــ " ما هو كائن " ( 33 ) .
انتفاء الشرط الاول يحول الواقعية الدفاعة إلى واقعية نواحة . وانتفاء الشرط الثانى يحول المثالية الجذابة إلى مثالية مخرفة .
فلا الفنان - فى الوضع الاول - واقعى . ولا هو فى الوضع الثانى مثالى هو فى كلتا الحالتين إنسان .
فاذا قيل لنا إن الأدب المثالى أو الرومنسى أدب غير هادف " لا يؤمن بعقيدة ( 34 ) . وإذا قيل إن الأدب الواقعى الالتزامى أدب يهدف إلى رقى المجتمع فقد وقع قلب الاوضاع رأسا على عقب .
فالأمور عكس هذا تماما .
فالأدب المثالى أدب ينزع إلى مثال . هو أدب هادف . لكنه ينزع إلى مثال لا يمكن تحقيقه إن رجعنا إلى الواقع . فهو أدب هادف . بل ينحبس فى الهدف ويعيش فيه عيش الرهبنة . هو - بعبارة أوضح - أدب هادف لكنه غير عامل .
والأدب الواقعي أدب سائر لكنه غير هادف ( 35 ) . هو أدب لصيق بالارض رأسا وقدما . هو أدب منبطح . لهذا دعوته بالأدب الزاحف .
وقد يثير هذا الزعم بعض التعجب إذا علمنا أن زعماء الأدب الواقعى هم الداعون الى هدفية الفن . وقد كان عليهم ان يوجهوا الدعوة الى انفسهم .
إن المثل الانسانية العليا قبلة المثل الاجتماعية . وإنكار تلك المثل المطلقة إنكار للأهداف الثابتة وتعلق بما دونها واقتصار على ما تحتها . وإن من حصر نظره فى رقعة معينة من الارض تعلق بأهداف صغيرة منكرة لوحدة الجوهر لانسانى ويائسة من تضامن الانسانية باسم " واقعها " الممزق ( 36 ) .
أومن أن أهداف المجتمع ليست إلا مراحل - يجب قطعها طبعا - فى الطريق الانسانية . وأومن أن السعى إلى تحقيق الاهداف الجزئية ينبغى أن لا ينسينا ذلك الهدف الكبير وإلا زاغت الأهداف الجزئية نفسها عن سبيل الانسان .
يجب أن نبدأ من الوطن بلا شك . لكن بدون أن نقتصر عليه . وإلا أصبح الوطن نفسه مهددا ( 37 ) .
أما عن نتائج تلك الوطنية الضيقة التى يطلبون من الفنان أن يجند لها فنه باسم الهدفية الاجتماعية فقد كانت انتحار القيم الانسانية على الحدود الوطنية حسب التعبير المحبب لدى على شلفوح .
باسم الانسانية شهر مورياك F. Mauriac بالتعذيب واقترح الحزب PSU إجراء مفاوضات مع الحكومة الجزائرية المؤقتة - أثناء الحرب التحريرية - وباسم الوطنية نصح دولارو Delarue. Rباستعمال التعذيب واقترحت جبهة الجزائر الفرنسية إعدام بن بلة ( 38 ) .
أدب الهزيمة - حسب تعبيرهم ( 39 ) - مكن مورياك - وهو أحد فنانيه الممقوتين من طرف دعاة الواقعية الاشتراكية - من أن يقول " لا" لعدوان وطنه على الجزائر . فهل قام من أدباء الزحف الجماهيرى - المسلح واحسرتاه - أو الواقعية الاشتراكية المنتصرة - ظلما - من قال " لا " لعدوان حلفائهم على المجر؟
لقد جربنا:إن كل الناس لايحب أحدا . لكن من يحب واحد فقط ويعلن عن اقتصاره عليه لا يحب بل يود أن يملك ( 40 ) . فما أقرب الوطنية الضيقة من الخيانة . وما أقرب أدب الوطنية الضيقة من أدب الهزيمة الحقيقية ، أدب دولارو وجبهة الجزائر الفرنسية !
خاصية الأدب العابث أن مساعيه شتى .
وهي خاصية الأدب الواقعى المبلطح الذى لم تجمع دار الانسان حجراته كى يسكنها الانسان المثالى المؤمن بالعقائد وتكون عليها يد الله .
ثم كيف ننسى أن هذا الأدب الملتصق رأسه بالتراب يدعو إليه الالحاد الشيوعى والوجودى ؟ كيف ننسى أنه أدب فقد الهدف الأكبر منذ المبدأ ؟ ( 41 ) .
أما عن أثر الالحاد فى الأهداف الفردية والجماعية فالمجال لا يسمح بأكثر من بضع نقاط تشير إلى أن فى الالحاد انبطاحا للأهداف وأن انبطاح الاهداف يجر انبطاح الانسان نفسه .
كان هدف الانسان فى ما يدعى بالسماء دالا على العلو والسمو .
I -كان هدفا كاملا : يدفع الانسان الى تجاوز أهدافه نفسها ليكون خليفة الله فى الارض اى سيد الارض السائر نحو الكمال . فلما أنكرت الشيوعية - مثلا - وجود الله أصبحت أهداف الانسان لا تعدو التحسينات والترميم . وقد يتضح بعد فوات الوقت الثمين أن التحسين إفساد وأن الترميم تخريب . فمن يضمن للفنان أن الخطوة المقطوعة ليست خطوة إلى الوراء ؟
فالمقاييس الاجتماعية - وحتى المقاييس الانسانية - غير ثابتة . عدالة جنوب افريقيا غير عدالة شمالها . عدالة الأمس غير عدالة اليوم . وكذلك الكرامة والاخاء والمساواة . هذا يعنى أن معانيها مرتبطة بعصر ومصر متحولة بتحول العصر والمصر . والفنان الفنان يرفض أن يرتبط فنه بأشياء رجراجة .
2 - كان هدفا واحدا : يوحد النفس البشرية الواحدة ويوحد البشر . ولما تعددت الاهداف وتضاربت اضطرب الفرد وأصابه هذا الضياع الذى نلاحظه فى شباب هذا العصر . وسلكت الشعوب - بدورها - طرقا شتى . فلا يرجى لها لقاء دائم كلقاء الجدران تحت السقف الواحد . الهدف الواحد يتوقع اللقاء رغم اختلاف السبل . أو بفضل اختلاف السبل . ذلك الهدف البعيد هو هدف الفن الذي يعين على تفتح القلوب من فوق الاقاليم والمذاهب والالسنة والحزازات الماضية والاطماع .
3 - كان هدفا منفصلا عن الانسان : بذلك حرر الانسان من سلطان أخيه . فلما انحصر الهدف فى الارض اصبح الناس بعضهم لبعض عدوا ( 42 ) . والفنان لا يحمل فى قلبه عداوة أو كرها لانسان . هو ينطلق من مبدأ يقول : الناس كلهم طيبون . لكن فيهم المرضى . ينبغى معالجتهم معالجة المرضى لا الاعداء ( 43 ) .
لذلك فالفنان لا يريد أن يتدخل فى نزاع طبقات أو صراع أحزاب أو حروب بين أقطار . الفنان ليس عدو الناس . هو عدو أعداء الناس .
تلك بعض مواقف الفن المؤمن المنعوت بالمثالى .
وهذه بعض مواقف الواقعية العابثة ( 44 ) .
والنتائج واضحة لذوى الالباب .
أما الفنان فقدمه راسخة ورأسه شامخ . قدمه فى القاعدة ورأسه فى القمة . يصف القاعدة الواقعية ( 45 ) فيحثها على ارتفاع ويصف القمة المثالية ( 46 ) فيغرى القاعدة على تسلق .
فالقاعدة - إذن - أى الواقع - قد تكون بداية وقد تكون نهاية . قد تكون مدفوعة من البداية وقد تكون مجرورة إلى النهاية .
والفنان - اذ يفعل - يصف ولا يصور . يرى ولا يلتقط . يعى ولا يسجل . هو واقعى ازاء ما يرى - واقعية متأثرة ومؤثرة . وهو مثالى ازاء ما يرجو - مثالية متأثرة ومؤثرة . وهو بكل ذلك إنسان . وإنسان يهتف : سحقا للمذاهب الفنية المتحجرة !
