الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

الفن بين الصمم والببغائية *

Share

فى تعبيرية الفن

وقال آخرون فى الطرف المقابل إن الفن - أساسيا - أداة تعبير (1) قالوا إن الفن حلة يكتسبها الشعور الفردى . إنه مظهر الشخصية العاطفية . إنه صوت القلب أثناء خفقانه . أيهم القلب أن يسمع الناس وجيبه أو لا يسمعوا ؟ (2)

وحتى إذا سمعوا لا يمكن أن يكونوا حكاما بل ملاحظين ومقررين ومسجلين .  1- الفن - إذن - من الشؤون الداخليه للفرد . والتدخل فى الشؤون الداخلية للغير عدوان .

2 - الفرد ليس مدينا للمجتمع بمشاعره . إنما هى وليدة الرحم الفردية . 3 - الانتاج الفنى خالد . وارتباطه بالواقع ارتباط بشئ زائل يؤدى بالانتاج الفنى إلى البوار عاجلا أو آجلا .

نلاحظ أول ما نلاحظ أن دعاة التعبير شبيهون بدعاة الاتصال فى إقامتهم للعلاقات بين الفنان ومجتمعه على أساس المعاملات والتبادل التجارى . فهذا لى وحدى . وهذا لك وحدك . هذا منى . وهذا منك .

زعم القائلون بتعبيرية الفن انهم ليسوا مدينين للمجتمع الحاضر بشئ . فهذا الشعر الذى امتلأت به آذانهم ولهجت به ألسنتهم شعر من بقايا الماضى . وهذه اللوحات التى تفتحت عليها عيونهم من رسم أقوام راحوا وقليل منهم من كان ينتمى إلى هذا البلد . هذه الموسيقى أرواح ذابت وزهقت .

وقالوا إنهم لو اقتصروا على فن هذا العصر الحاضر وهذا المجتمع الحى لما نالوا غذاء فنيا يلهب ما يلتهب اليوم فى قلوبهم .

لهذا فعلى الفنان أن يعبر للمستقبل عما تجيش به نفسه كما عبر له فنان الماضى عما جاش فى نفسه . اى هو مدين لمستقبل الانسانية بدين ماضيها (3) . هذا من حيث دين الفنون .

وقالوا إن للفنان رحما . هذا الرحم ليس من المجتمع . هو من عند الفنان أو من عند الله . ولولا الفنان ولولا رحمه ما كان للفن أن يكون .

لهذا فالفن وليد خيالهم . وليد تكوينهم الشخصى . وليد ثقافتهم الخاصة . وليد عبقريتهم . وليدهم . ولهذا فادانة الفنان بدين الموضوع تهمة باطلة شكلا ومحتوى .

نعم . لا أحد ينكر على جعفر ماجد - مثلا - أنه عمل . أنه جاهد . أنه كافح ليصبح جعفر ماجد الاستاذ المبرز . وأنه جعل من المتسكع شاعرا لا يخلو شعره من فن ولا أحد ينكر عليه حسه الرقيق وشعوره الرهيف . إنكار كل هذا عدوان على ذاته .

لكن إنكاره أثر أبويه فى جسده وطبعه . لكن إنكاره أثر الفاقة التى تمرغ فى غديرها والتى قد يكون لها الأثر الاكبر فى ترقيق حسه وإرهاف شعوره . لكن إنكاره قسوة هذا المجتمع الذى ألهب وجدانه واستنهض همته . لكن إنكاره أثر المدارس والاستاذين ، لكن إنكاره أثر هذه المجلات والصحف التى أفسحت لشعره صدرها . لكن إنكاره كل هذا - وهو إنكار ضمنى - عقوق ليس بعده عقوق .

بلى . إنه صنع نفسه . لكنه لم يصنعها من عدم . لقد وجد المواد الخام - خيرا وشرا - فصنع .

بلى . إن له رحما . لكنه لم يكن لينتج لولا اللقاح . هذا اللقاح بعضه من الماضى وبعضه من هذا المجتمع الحاضر . وهؤلاء قراؤه من المجتمع الحاضر . ولولا المستهلك الأول ما كان للمنتج أن ينتج .

بلى . إنه صنع نفسه . لكنه لم يخلق نفسه . مفهوم الصنع يقتضى صانعا ومادة خاما . أما الصانع فهو الفنان . وأما المادة الخام فهى هذا المجتمع بما فيه من خير وشر .

الشخصية الفردية مشتقة من شخصية المجتمع . جذور الفرد منغمسة فى المجتمع . رحيق الحياة الاجتماعية متغلغل في شرايينه . من هنا يقع الاتصال .

أما الثمار . أما الانتاج الفنى فهو إنتاج الفنان بدون شك لكنه إنتاج متأثر برحيق الحياة الاجتماعية حتما . تلك الثمار تعبر عن كيان الشجرة بدون شك . لكنها تعبر عن اتصال سابق .

هنا يلتحم الاتصال بالتعبير . إذ لا يكون التعبير إلا بعد الاتصال .

وهنا يلتقى الوجد بالوجدان فيكون الفن ، إذ لا يكون الوجدان إلا بعد أن يجد . أما الوجدان الاجوف فلا وجود له وهنا يتصل الوجدان الحى بالمجتمع الحى فيكون الفن الذى ترجى له الحياة .

أما البر بالوجدان فيقتضى التفريج عن كربته بالتعبير .

وأما البر بالمجتمع فيقتضى إيصال الشرارة بعد الاتصال بها . وقد تحدثت عما أفهمه من الشرارة .

أعيد : الشخصية الفردية مشتقة من شخصية المجتمع .

لقد كنت فنانا بالقوة فأصبحت فنانا بالفعل . أخذ المجتمع بيدك صغيرا فملأها دفئا أو نارا أو صقيعا . ملأها شبعا أو حرمانا . لا يهم . المهم أنه ملأها . وأنها امتلأت به دفئا أو نارا أو صقيعا . وأن ذلك الامتلاء فجرها فتفجرت .

لا بد لفنك أن يأخذ بيد أبنائه كبيرا .

لقد أعطاك من فنه غذاء جعل منك فنانا بالفعل بعد أن كنت فنانا بالقوة فعليك أن تعطيه من فنك غذاء يجعل من أبنائه الفنانين بالقوة فنانين بالفعل .

حق لجعفر ماجد أن يثور على دعاة الواقعية المسطحة . لقد رفض أن يمس

جبينه التراب فى موازاة لصيقة بالارض والحياة والمجتمع . حق له ذلك ووجب عليه .

ووجب عليه أيضا أن تلامس قدمه الارض . أن تثبت على سطحها ثبوتا قد يرجها أحيانا فيغير من شأنها ويعض واقعها بلا مجاراة (4) .

آن لحديثنا عن الواقع الاجتماعى أن يشرئب إلى الكمال الانسانى الرفيع ( 5 ) . وآن لحديثنا عن الكمال الانسانى أن ينطلق من الواقع الاجتماعى الوضيع .

لا بد للمواطن من قلب فنان ليكون مواطنا إنسانيا . ولا بد للفنان من قدم مواطن ليكون فنانا حيا . ذلك أن مجاراة الواقع الاجتماعى والتزامه قد يصنعان الشئ الفظيع ( Philinte ) والتحرر من الواقع الاجتماعى قد يصنع الجمال المستحيل ( Alceste ).

فلا إفراط ولا تفريط . والافراط فى الانقطاع إلى الواقع والتفريط فى الانقطاع عن الواقع . وكلاهما يخرج الفن عن دربه .

ينبغي - إذن - أن ننطلق من الواقع القبيح لتحقيق الاحلام الجميلة لا أن ننطلق من الحلم الجميل فنستيقظ على الواقع القبيح .

الثورة فى وجه الواقع القبيح تعبير واتصال . كلما تعمقت الجذور فى التراب تسامت الاغصان .

فاذكر هذا الواقع القبيح وصوب قلوبنا إلى الجمال الانسانى . اجعل من دهرك هذا منطلقا إلى الدهور . واجعل من كونك هذا مطارا إلى الاكوان ( 6 ) . واهدف إلى إنسان الفن تصنع فن الانسان .

كن " أنت " وتحدث عنا نرتفع معا ونخلد جميعا . فالحب الحقيقى إرادة الرقى المشترك ( 7 ) . هذا هو التعبير للمستقبل وهذا هو السمو والشمول ( 8 ) .

يقول دعاة الفن المثالى أو الفن الذاتى أو الفن الانسانى : الواقع لا يدوم . المجتمعات تتغير . الأوضاع السياسية تنقلب . الأحزاب تنحل والاشخاص يموتون والمذاهب تنقرض والدول تدول والعروش تنهار .

والأدب المنحاز لهذا الواقع . والفن المصور لهذه المجتمعات ، المساير للأوضاع السياسية ، المناصر لأحزاب وملل ، الملاصق لأشخاص ، المعبر عن مذاهب . . . فن محكوم عليه بالموت يوما . هو فان بفناء الرصيد . وإن عملة رجراجة الرصيد عملية مزيفة .

لهذا فان فنا من هذا النوع ليس فنا . إذ أن الفن يهدف إلى كمال الانسان . ولا يهدف إلى كمال الانسان إلا ما دام دوام الانسان فساند جهاده حتى نهاية الزمان .

ولهذا صرخ جعفر ماحد : " لن أحدثكم عن زيفكم يا بائعى الزيف : الالتزام والثورة والرسالة . . . فقاقيع هتكها ابتسام خفيف . . . " ( 9 )

- نسب أحمد أمين بعض أسباب الضعف الأدبى إلى السياسة التى حكمت على الأديب بأحكام سياسية حتى فسد الأدب والنقد جميعا ( 10 ) ورد مونان Mounin قائلا : " ليس الذنب ذنب السياسة بل ذنب الأساليب الشعرية التى تحول دون قراءة الشعر أو سماعه كما مضى "(11) وزاد مور Mourre متفلسفا : " السياسة تشدنا إليها أحببنا أم كرهنا " ( 12) وسعى محمد مزالى إلى التوفيق فقال : " يجب أن نفرق بين الأديب كمواطن وبين الأديب من حيث هو أديب " ( 13 ) . فكان توفيقا على حساب وحدة النفس ووحدة المجتمع . ذلك أن تقسيما كهذا يفسد المواطن والأديب جميعا باقامة الصراع بينهما فى نفس الأديب ثم فى المجتمع . ويقيم التناقض أساسا للسلوك الفردى والسلوك الوطني ( 14 ) . فماذا يجب أن يكون موقف الأديب الصينى أو الأديب الامريكى من حرب الفيتنام ؟ ليس خافيا أن المواطن والأديب - هنا - يتضاربان . أعتقد أنه يجب الحفاظ على الوحدة النفسية والوطنية فى سبيل الوحدة الانسانية .

عيد : لا بد للمواطن من قلب فنان . ولا بد للفنان من قدم مواطن . المشكل ليس مشكل الفن والسياسة ، ولا وجود لمشكل من هذا النوع وإن وقع اختلافه . لاوجود لمشكل الفن والدين . لا وجود لمشكل الفن والعلم . لا وجود لمشكل الفن والسياسة .

المشكل مشكل جنائى . هو قضية يرفعها الفن ضد بعض السياسيين الذين انتهكوا حرماته وتحرشوا بانسانية الانسان (15). المشكل مشكل مواطنين يعوزهم قلب الفنان .

نصحح قول أحمد أمين فنقول : من أسباب الضعف الأدبى ( والسياسي أيضا ) سياسيون يحتقرون وجدان الأديب وأدباء يحتقرون عمل السياسى . علينا أن نجتنب التعميم المضلل الذى يزيد فى حفر الهوة بالبغضاء فنكون أبعد الناس عن الفن الهادف إلى اللقاء .

نعم . على الفنان أن لا ينسى عنصر الديمومة . هذه الديمومة هى الحكم الاعلى . قوة البنيان وتماسكه والتحامة لا يختبرها المجهر . مختبرها مرور الدهر وصروفه .

فى إيطاليا صومعة ينظر إليها الراجل فيحسب أنها مائلة . ويتعجب لثباتها . هى صومعة مدينة بيزTour de Pise La. ذلك حكم العين . وكان على الدهر أن يحكم . فحكم بحكمة بنائها . فبقيت كأشد ما تبقى الصومعات قوة وثباتا . والفن كتلك الصومعة .

واجب الفنان نحو المجتمع لا أن يردد مثله وشعاراته ترديدا ببغائيا أو يتخلص من الكل لفساد البعض - متخذا شواهد أجنبية فى أغلب الاحيان - بل أن يحافظ من بين تلك المثل والشعارات على ما يباركه التاريخ وتبقى عليه صروف الدهر وانقلابات الزمان ولا تجرفه الاحداث السياسية والمذاهب الاجتماعية والثقافية .

الفنان يصنع جمال المستقبل . ويصنع القيم الفنية والمقاييس . لكنه يصنعها بمواد الزمن الحاضر جميلة كانت أم قبيحة ( 61 ) .

لا تمتد فروع الشجرة فى السماء إلا بامتداد جذورها فى الارض بترابها وسمادها وصخورها . وإن الشجرة التى تتملص جذورها من الارض شجرة . حكمت على نفسها بالموت .

وكذلك الفن لا تبقى عليه الايام المقبلة إلا إذا أبقى على الايام الحاضرة . ولا يقبله المستقبل فنا إلا إذا قبل الحاضر منطلقا .

فاذا شاء الفنان أن يجعل من المستقبل إطارا لفنه فليجعل من الحاضر إطارا لانتاجه .

لا بد لمن أراد الصعود أن يبدأ من أسفل . ولا يبدأ من أعلى إلا من أراد الهبوط .

ولست إخال الفنان إلا طموحا إلى صعود فنى . فليبدأ من الحدث اليومى - الحقير - يبلغ سدرة المنتهى ويتخذ له مقعدا على هرم الخالدين . ومن قبل قيل : تواضع تكن كالبدر .

وكذلك فعل الشاعر العربى دوما : لقد انطلق من واقع القبيلة ثم واقع الدين الجديد ثم واقع البلاطات تحت ضوء الشجاعة والكرم والشهامة حيث ملتقى القبائل والاديان والبلاطات جميعا . أيدوا وعارضوا . مدحوا وهجوا . هتفوا وامتعضوا . فكانوا بشرا وكانوا فنانين ( 17 ) .

تركوا الاعراض وانشغلوا بالجواهر . قاسوا - فى مدحهم وهجائهم ورثائهم - بمقاييس ثابتة فثبت إنتاجهم .

اقتنصوا الحقيقة الثابتة من المجتمع المتطور - الخليط - فاقتنصوا الخلود . لجعفر ماجد الحق فى أن يصرخ : دعونى . هذا الحاضر متغير لا يوثق به . هو ليس حكما . الحكم هو التاريخ .

نعم . له الحق فى أن يقول . لكنه - إذ يقول - يغفل أن من الحاضر ما يتغير فى صعود وتأكد . وأن من الحاضر ما يرضى عنه المستقبل ويباركه التاريخ حتى النهاية . فالمقارنة بين الحاضر والماضى توضح الدرب الصاعد المستقيم . ثم إننا جربنا عرفنا التاريخ ما يريد . وعرفنا أنه لا يريد الفن اللقيط . أنه لا يتبنى الفنان العاق .

نعم - لا شك أن المجتمع خليط . لكن ينبغى أن لا ننسى أنه - على اختلاطه - مؤتمن على الانتاج الفنى ريثما يأتى الخلف الصالح . فهو _ من هذه الناحية على الأقل - يؤدى للفن خدمة جليلة .

ثم إن أحد الاسباب فى فساد الذوق الفنى لدى المجتمع يتمثل فى تملص الفنانين من العمل على تحسينه . لست أشير هنا إلى الانتاج الفنى نفسه بل إلى عمل آخر : هو التكوين الفنى أو التربية الفنية للمجتمع . أليس أجدى على المجتمع لو نشرت له دراسات وأبحاث تلقينية تعينه على الفهم والتذوق السليم من خصومات مذهبية لا يفهم منها القارىء البسيط والمستمع العادى شيئا ؟ ( ألا يشعر دعاة الواقعية أنهم - هنا على الأقل - غير واقعيين ؟ ) .

ثم إن فساد الذوق الفنى لدى المجتمع قد يهدد الانتاج الفنى نفسه . كيف يحافظ على الأمانة من لا يقدرها حق قدرها ؟ ألا نتذكر كيف بيع التراث التونسى الثقافى والفنى - فى المكتبات بأبخس الأثمان ؟ !

ألا يكفي هذا درسا ؟ الفنان المتملص سبب وضحية . لقد حفر جبا نجح فى إيقاع غيره فيه . لكنه وقع هو فيه آخر الأمر . ذلك شأن الخيانة بأنواعها توقع صاحبها حيث أوقعت غيره .

فازدهار المنتج الفنى - كغيره من المنتجين - لا يكون إلا بازدهار المستهلك الفنى كغيره من المستهلكين . قل بعبارة أوضح : مصير الانتهاج الفنى مرتبط بمصير الذوق الاجتماعى . فافنان البار بمجتمعه فنان بار بنفسه آخر الأمر !

خذ الاغنية التونسية مثالا . من هم ضحايا الاهمال فى مستوى التأليف والتلحين والغناء ؟ أليسوا أهل التأليف والتلحين والغناء ؟

المغنى هو أول الضحابا . وهو أول المتألمين من الاحتقار الذي يلاقيه لقلة تأثيره فى نفس المستمع . فالمستمع كالمرأة إن لم تؤثر فيه احتقرك .

قد يشكو المغنى فساد التلحين . ويشكو الملحن فساد التأليف . فتزيد الشكوى ذنبهما قبحا . فما حمل المغنى على الغناء رغم فساد التلحين ؟ ((18

وما ألزم الملحن على تلحين ما فسد تأليفه ؟ ولم التزم المؤلف تأليفا غير فنى ؟

هنا نقع على حقيقة المشكل . هنا يكمن الداء . ومن هنا كان علينا أن نبدأ . فليست القضية - فى عالمنا العربى - قضية اتصالية الفن أو تعبيريته . ليست قضية التزام أو تحرر .

من أغانينا الفاسدة ما هو ملتزم . ومنها ما هو متحرر . من أغانينا الملتزمة ما لا يصل إلى القلوب . من أغانينا المتحررة ما لا يعبر عن شئ .

أغنيتنا التونسية - خاصة - لا تعض الانسان التونسى . فقبل الحديث عن نوعية المحتوى الذى نخشى أو نريد أن يتصل به المستهلك من الانتاج الفنى ينبغى أن نتساءل عن مدى تأثيره فى النفوس ونتساءل عن شروط التأثير .

أعيد : مستهلك الفن كالمرأة إن لم تؤثر فيه احتقرك . والتشبث بالتحرر أو الالتزام على حساب التأثير تشبت على حساب كيان الفن نفسه . وبقدر ما يقل تأثير الانتاج الفنى فى النفوس يقل انتسابه إلى الفن . من هنا نبدأ !

لن يلتزم الفنان المجتمع التزاما يعض إلا إذا بدأ بالتزام فنه قبل التزام ذاته وقبل التزام المجتمع . إنك لا ترضى الله إن لم ترض ضميرك . فارضاء الضمير هو الهدف الأول . وإنك لا ترضى المجتمع إلا إذا أرضيت فنك . فارضاء الفن غاية أولى وهو الشرط الأول . وهنا يكمن خطا دعاة الالتزام الساذج .

* * * لك أن تقول إن إرضاء الوالدين يهدف إلى إرضاء الله والضمير . لكن هنالك البر بالوالدين . وهنالك الخضوع لهما . الأول واجب لأنه عبادة . والثانى محرم لأنه عبودية ولو كانت عن طواعية  (19)  .

لك أن تقول إن إرضاء الفن يهدف إلى إرضاء المجتمع والذات . لكن هنالك البر بالمجتمع . وهنالك الخضوع له .

هنالك الاستجابة لحاجات المجتمع والذات الفنية وهنالك الخضوع لأهواء المجتمع والذات . أولهما واجب وثانيهما حرام . وكلاهما التزام لما فيه من معنى التطوع والحرية (20) .

التضحية واجبة والانتحار حرام . التواضع واجب والخنوع حرام . تفضيلك النفع العام على النفع الخاص تضحية وإهدارك للنفع الخاص من أجل اللاشئ انتحار وكلاهما التزام .

هذا ما لم يفهمه المتخاصمون على أشلاء الفن بأنواعه . أولئك الذين راحوا يحقنون الفن الجنين بحقن مستوردة من الالتزام والتحرر حتى كانت منه مواليد مشوهة ممسوخة بعضها ملتزم وبعضها متحرر لكنها أبعد ما تكون عن الفن .

راحوا يحدثونك عن فلان وفلان ممن أنتجوا الروائع الملتزمة ( 21 ) وراح آخرون يحدثونك عن فلان وفلان ممن أنتجوا الروائع المتحررة ونسوا جميعا أنها روائع فنية قبل أن تكون ملتزمة أو متحررة ( 22 ) .

إن من يجلس إلى مكتبه قائلا : " أنا الآن سأصنع فنا ملتزما " لم يفعل سوى أن التزم " بفبركة " الفن أى اصطناع الجواهر أى التزييف والتدليس .

وإن من يجلس إلى مكتبه قائلا : " أنا الآن سأصنع فنا متحررا " لم يفعل سوى أن تحرر من الفن وراح يعصر ذاته عساها تخرج شيئا لا يحتوى على رائحة المجتمع أو طعمه أو لونه .

ما لهؤلاء القوم ينسون عم يتحدثون ؟

التزام ما لا يلزم :

قال بعضهم إنهم يؤمنون بالتزام الفنان ما دام الا لتزام يعنى حرية الانتماء . كلا . فهنالك مواقف التزامية أى نابعة من النفس ومقررة من الباطن تستحق ما يستحقه الالزام من التشهير وأكثر .

ولقد أشار سارتر - ذلك الذى أصبح التلويح باسمه موضة المتحذلقين حتى استند الى أقواله العدو وعدوه - إلى هذه المواقف الالتزامية المفرطة فى التضحية بالنفس والمؤدية إلى إهدار الشخصية الفردية والاجتماعية جميعا ( 23 ) . من تلك المواقف تصنع الرصانة والتعقل لدى من يستغرب أن تكون لهم رصانة أو تعقل . وهم أولئك الذين دعاهم بالحكماءLes bien pensants في كتابه الغثيان La Nausee   (24)  .

ومن تلك المواقف : ابتسام البائعة وتشدق المذيع - الذى يثير القرف أحيانا - وتصلب العسكرى فى مشيته التى أشار إليها فى كتابه " الوجود والعدم " Letre et le Neant (25)  والتحية المصطنعة لدى سكان قرية بوفيل Bouville التى اشمأز منها روكتان Roquetin بطل الغثيان  La Nausee (26) .

هذه المواقف التزامية - أى مقررة من الباطن - لكنها ليست من الأصالة فى شئ . هي - كما قال سارتر - رقصات اجتماعية يقوم بها الفرد المريض بحثا عن السهولة واجتنابا للحساب أى اجتنابا للمسؤولية ( 27 ) . لهذه الالتزامات المنتحرة ما يقابلها فى الميدان الفنى . من تلك " الرقصات الفنية " السجع والبديع بأنواعه وألوانه . التزام حرف واحد فى كلمات قصيد كامل أو مقامة كاملة . التقيد بحرفين أو ثلاثة حروف في القافية الشعرية . إلى غير ذلك مما سبب انحطاط الأدب العربى .

تلك الرقصات - اجتماعية كانت أو فنية - يمكن إدراجها تحت عنوان " لزوم ما لا يلزم " ( 28) .

وقد كنا نحسب أننا تخلصنا من البهلوانية التى تحبس المعانى وتنهك الأفكار . لكن ما أشبه الليلة بالبارحة . الداء هو هو وإن تبدلت أعراضه . فهذه رقصات التزام وتلك رقصات تحرر اى التزام الذات . وكلها من باب لزوم ما لا يلزم .

أما ما يلزم الفنان فهو أن يتخذ المجتمع منطلقا ليطير منه ويطير به . أى أن يتأثر بالبداية لكى يؤثر فى النهاية (29) . وأما ما لا يلزمه فهو مسايرة مذاهب المجتمع حتى النهاية ، مسايرة الخادم الأعرج . كان الفنان الصينى يقيم فنه على ما يصدر من موسكو . فأصبح اليوم يقيمه

على ما يصدر من بيكين . وقد يقيمه غدا على ما يمكن أن يصدر من الجحيم . فأى فن هذا ؟

إن كنا نريد أن نعالج دمل وجوهنا فعلينا أن نزيح الاقنعة والبراقع .

نعرف كلنا ما تحمله الأدب العربى من أغراض الأدباء وأطماعهم نعرف المتنبى وغير المتنبى ممن مدحوا الشخص ثم هجوه .

وأعرف شاعرا تونسيا - حيا - هجا ثم دعا إلى التزام مبادئ مهجوه . وأعرف آخر مدح ثم دعا إلى التحرر من مبادئ ممدوحه . فأين الأصالة ؟ وأين الذات ؟ وأين المجتمع ؟ ثم أين الفن فى كل هذا ؟

_ يتبع _

اشترك في نشرتنا البريدية