الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

الفن بين الصمم والببغائية

Share

أزمة الفن

وقد تحدث الناس وتحلت ضوضاؤهم - عما دعوت بأزمة الانتاج الفكرى تونس ،، . وكان ذلك - خاصة - اثناء ندوة انعقدت بسوسة فى 7 مارس 1964 على منبر اللجنة الثقافية الجهوية وشارك فيها جمع غفير من اساتذة الجهة . وليس لى هنا أن أتعرض لما دار فيها من نقاش فقد أوردته جريدة "الصباح" فى اعدادها المؤرخة فى 19 و 26 مارس و 2 أفريل 1964 . لكنى سأكتفى بالتساؤل عن هذه " الازمة " التى احتاروا فى أمر تفسيرها .

الأزمة تعنى الاختناق والانحباس . تعنى التوقف . فهل توقف انتاجنا بعد أن كان يسير ؟ هل تقلص ظله بعد امتداد ؟ هل انكمش بعد انضواء ؟

كلا . لم يكن قط سائرا ولا ممتدا ولا منضويا .

كان علينا أن نتحدث عن " عسر الميلاد الأدبى بتونس " . أما سبب هذا العسر فهو متصل بموضوع هذا الحديث بالذات : هو ما ادعوه ب " توريد المذاهب " . وهو نفسه المتسبب في اصطناع الأزمات .

الرحى القلمية والكلامية فى تونس تدور . هذا ما لا شك فيه . لكنها تدور على فراغ . الكيان الأدبى التونسى ليس مشلولا ولا عاطلا . هو يسير لكن ليدوس بعضه بعضا . والنتيجة هى أننا نسمع من رحانا جعجعة ولا نرى طحنا .

ذلك ان المذاهب المستوردة شغلت الاقلام والحناجر في غير شغل نافع . أحرقت العقول والقلوب لغير اضاءة ولغير فن . جندت عسكر الأدباء والمتأدبين لمحاربة أعداء للمجتمع التونسي وهميين . وقد كان عليهم أن يحاربوا أعداه الحقيقيين فيبدأوا في صمت بما فى أنفسهم حتى إذا قالوا قالوا خيرا .

لكأننا اعتدنا الحروب حتى إذا حل السلام واستتب الأمان خلقنا من الوهم العريض عدوا رحنا نقارعه السيف - على غرار دون كيشوت - مقارعة لا ننتهي . وهى لن تنتهى إلا بشفائنا من الوهم أو بانتهائنا . نحن - عرب اليوم - مصابون بأوبئة النظريات والمذاهب (18) هى نظريات ومذاهب أجنبية مستوردة (19) . قد يتذرع البعض بتصاغر الارض فى هذا العصر وتطاول الأرجل البشرية وأن الارض أرض الانسان إطلاقا .

(18) وهذا أحد مظاهرها المزرية : قال الشاعر السودانى محمد الفيتورى : " إن مذهب الفن للفن على الرغم من استمرار بعض العناصر الشعرية فى اعتناق هذا المذهب وفى التبشير به والدعوة إليه ليس أكثر من مذهب متخلف متهافت " . ثم قال - لما سئل عن انتاجه - إنه كتب ديوانين أحدهما " ملتزم " نحت عنوان " أغانى افريقيا " والآخر تحت عنوان " عاشق من افريقيا " بضم قصائد وجدانية تعبر عن مشاعره " كانسان لديه مشاكله وحوادث حياته الخاصة " .

أفهم من هذا أمرين : أ - أن الملتزم لا يعشق . وهو ليس إنسانا " لديه مشاكله وحوادث حياته اليومية الخاصة ! " أو أنه ملتزم مرة لا ملتزم أخرى . أى أنه ذو وجهين ب - أن ديوانه الثاني " متخلف متهافت " بما انه غير ملتزم وانه معتنق لمذهب الفن للفن !

إن كان هذا حكمه على فنه فماذا يكون حكم التاريخ ؟ ! عاش - على كل حال - من عرف قدره . وليس أروع - فى هذا الصدد - من قول توفيق الحكيم : " إن الأديب لا يموت مقتولا بل يموت منتحرا " . سكين شاعر الوجهين ! ما ألجأه إلى هذا التناقض وهو يؤمن بأن كلا الديوانين شعر أى فن ؟ ليته ترك المذاهب والتزم الشعر . ثم هل آمن الأديب التونسي محمد مزالى بخطر التفريق بين الفنان الفنان والفنان المواطن ؟ ألا يرى هنا مشهدا من مشاهد المهزلة المبكية ؟ أليس من الأفضل أن تكون للفنان قدم مواطن ويكون للمواطن قلب فنان ؟ أليس من الأفضل للجميع أن يثبت المواطن قدم الفنان ويغذى الفنان قلب المواطن ؟

( انظر : مجلة " الاذاعة " - تونس - 2 مارس 1964 ) وهذا ما أشار إليه الأديب المغربى محمد صباغ . الأدب العربى المعاصر - ص 261 . منشورات مجلة " أضواء " الباريسية - 1962 .

نعم : لكنا لم نبن الانسان يعد فى ارضنا هذه . نحن بصدد بنائه اقتصاديا وعلميا أى بناء جسده . لكننا لم نشرع بعد فى بناء روحه . أخشى أن نبنى أجسام البغال .

صرخ دعاة الالتزام والواقعية أن " التصقوا بالارض تنفعوا ! " فصرخ دعاة التحرر والمثالية أن " التصقوا بالسماء ترتفعوا ! "

واستجاب البعض للدعوة الاولى فكانت منهم ببغاوات وكانت منهم جثث وديدان صمت آذانها دون نداءات السماء .

واستحاب البعض للدعوة الثانية فكانت منهم أرواح موتى وكانت منهم فراشات صمت آذانها دون نداءات الارض .

ولم يبق على الارض التونسية وتحت سمائها من الفنانين إلا قليلون .

وقد آن ان نزوج بين دودة الالتزام وفراشة التحرر لننتج الحرير . وآن للأرواح أن تسكن الجثث ليكون النشور .

توريد الأوبئة

نعم - لقد شرعنا - بعد - نبنى . لكن البناء يقتضى البدء من الأسس وهذا ما لسنا نفعله فى الميدان الفنى .

فالمذاهب مواقف وقفتها فنون أجنبية مزدهرة . هي سقوف . هي ليست مواقف فننا الذى لم يقف بعد . فأين الأسس وأين الجدران ؟

المذاهب الفنية تنجم عن انتاج فرض نفسه . هى تأتى بعد الانتاج . هى نعت يضبط حصيلة فن موجود (20) .

هذه المدرسية أو الكلاسيكية أو الكلاسية وهذه الرومنتيكية أو الرومنطيقية أو الرومنسية وهذه الرمزية والبرناسية والواقعية وما فوقها وهذه المعقولية واللامعقولية والهدفية والعشية والوجودية والمثالية والتكعب والتجريد والواقعية الاشتراكية والواقعية الالتزامية الخ .. كلها أوبئة شلت الاذهان

وقيدت أحنحة الخلق (21)  وأصايت الهمم بالقناعه حتى فان ليس فى الامكان - لدينا - أبدع مما كان لدى القوم الآخرين .

ورد لسان حالنا : بما أن الانسانية واحدة يكفى أن يصنع الفرنسى والانكليزى فنأكل ! وغدا الخلق الفنى - لدينا - فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الباقين . ونسينا ان أحدا - لدى التاريخ - لا يغنى عن أحد !

وإذا كانت سياستنا قد أبت السير عل آثار الأقدام ملتزمة سئ الانسان منحازة إلى عدم الانحياز إلى أى مذهب سياسي أجنبى فقد وقع الأدباء التونسيون فى الفخ . فكان نصيبهم نصيب الوعاء الطفلى المرتطم بالوعاء الحديدى . وإذا بعضهم لبعض عدو وإذا بالسباب يفتح عهد " أيام الأدب " على غرار الحروب القبلية المعروفة بـــ " أيام العرب " .

وهذه نتف من السباب الجارى بين سفراء المذاهب الاجنبية لدينا :

" دعاة الانفصال الذين لا يؤمنون بعقيدة - الضياع والتلاشى - الفلتاء - تزكية الاقزام - المملوءة حقدا . كفر بالمبادئ الجوهرية وبالواقع الاشتراكى . مستوى سخيف . . . (22)

دعاة الهزيمة - قوى الشر - اخلاقيتها الرذيلة القذرة - دنس الأبالسة - خزى الشاطين - المهزومون - انتحرت على حدود ذواتهم القيم والشعارات - لا رجولة - لا كرامة - وجوه الزيف والماكياج - أفاعى - سمومهم - أخبث طريقة - هذا البيدق - طابور الهزيمة - عقلية رجعية - دموع التماسيح ... " (23)

لقد سبق أن عبرت عن رأيي فى شأن زدانوف وقلت إنه كان يستعمل نعوت السباب عوضا عن حجج الاقناع (24) .

ولعل هذا السباب مترجم عن ذاك . لأني أربا بالتونسى أن يقول غير الخير .

لكنه لا يسعني أن أستغشى ثيابى أو أهز كتفى (25) . أخشى أن يتمخض الفن التونسى عن وليد مشوه أو ميت .

غاب عن هؤلاء الذين فرقوا فنهم شيعا - كما فرق أسلافهم دينهم شيعا - أن المذهب الفنى سمة خيل للنقاد ان انتاجا فنيا يتسم بها (26) . وغاب عنهم أن المفاضلة بين المذاهب مفاضلة بين أنواع من الانتاج .

فأين إنتاجنا الأدبي كله من انتاج مدرسة واحدة من المدارس الاجنبية التى استوردنا أسماءها ؟

ليس يجديك نفعا أن تدعو كوخك قصرا . كما ليس يجديك أن يكون ثوبك مفصلا حسب أحدث أزياء ديور Dior إن كان نسيج ثوبك من خيوط العنكبوت !

فهات ما لديك من فن . كل ما لديك . لا تنس شجرة الفن ومقتضياتها وهنا . إن دوحة الفن باسقة ممتده ترحب بكل العصافير . لكنها ترفض الطيور الجوارح (27) .

النوع الفنى يفرض نفسه بما فيه لا بما يقال عنه . يفرض نفسه على المجتمع إن كان مؤثرا فيه ويفرضها على التاريخ إن كان يحمل فيه عناصر الخلود . فلا الدفاع يؤصله أو يخلده ولا الثلب ينفر عنه الناس ويغلق فى وجهه سجل التاريخ .

لا اتباع المذهب الفن يحول القبح الى حمال ولا شذوذ الحمال الفني عن المذهب يحوله إلى قبح .

فقد رأينا أشياء كثيرة فاشلة أريد لها - عبثا - أن تكون فنا بانتسابها إلى مدرسة معينة .

ورأينا فنا رائعا فرض نفسه رغم شذوذه عن المذاهب المتبعة إلى درجة أنه تخذ شعارا جديدا لمذهب جديد (28) .

ثم إن المذهب كالنظارات يبرز الحقائق حسبما يفرضه هو لا حسبما يفرضه الواقع . حتى إذا كان اسمه الواقعية . فهى حقائق المذهب لا الحقائق . والقيد الذي نقيد به أو نتقيد به لا يعدو كونه قيدا حتى إذا كان من ذهب (29) . * * *

ثم أين هو هذا الانتاج التونسي الحديث الذي يمكن أن نتحدث فى شأنه عن تعلق المجتمع او اهتمام التاريخ :

هذا الانتاج - حتى إذا أجهدنا أنفسنا فى البحث عنه - لا وجود له أو هو لا يرى إلا بالمجهر . وإذا كان هذا شافنا وشأن انتاجنا فكيف نقيسه بمقاييس عملاقة كهذه المذاهب المستوردة ؟

أليس من الجنون أن نزن العقيق بالطن فنقول : إن لدينا منه أحد اجزاء طن مقسوم إلى مليون جزء ؟

أليس من الافضل والأبسط و " الواقعى " أن نقول إن لدينا منه قراما ؟ أين هو هذا الادب الرومنسى التونسى المتراكم الذي نضيق به ونسبه ؟ وأين هو هذا الادب الواقعى الاشتراكى الرائع الذى نحمله على الاكتاف ؟ أهذه القصيصات القصيرة الصغيرة وهذه القصائد الشحيحة الفقيرة التى كتبتها أقلامنا ومجتها نفوسنا الكليلة بعد أن أنشفها العمل اليومى ؟ ارفقوا يا قوم بهذا الوليد ! كفوا عن نفخ ضفادعنا قبل أن تنفجر ! ألا ما احوجنا الى قراز حكومي يلزم الفنانين بالتزام عدم الانحياز والتعايش السلمى .

وبعد

فالفن عصير . ذلك أنه نتاج قوتين - عدوتين حميمتين - وسعتهما عبقرية الفنان . قوة أفقية تحوش وقوة عامودية تعوض . قوة الموضوع وقوة الذات . وهما القوتان اللتان يتألف منهما الملزم الذي ينبثق من بين فكيه الفن .

لا بد اذن من هذا اللقاء بشرط ان لا يكون انطباقا يحول الفن الى عجين كريه .

أما إذا شئنا أن نكبس الملزم من الخارج على سبيل الالزام وإذا شئنا أن نكسبه من الداخل على سبيل لزوم ما لا يلزم فلنتوقع مواليد طويلة عريضة لكن مبلطحة هزيلة كأغانينا الحديثة لا يبقى عليها الدهر إلا بقدر ما تبقى الرياح على أوراق الخريف .

أما إذا شئنا أن نكبس الملزم من الخارج على سبيل التجنيد والتعبئة وإذا شيئا ان نكبسه من الداخل على سبيل " انكار الذات " والتطوع - ولو اخلصت النية - فلنطرح عنا الفن وموحه ولنستعض عن الفنون بفنون الجنون .

- انتهى -

اشترك في نشرتنا البريدية