الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

القصة كامنة فينا (1)

Share

ليس فى عزمى أن أقف بينكم الليلة خطيبا - وان شئت ما قدرت - كما ليس فى عزمى أن ألقى عليكم درسا فى موضوع القصة - فهذا شرف اعترف بقصرى على نيلة - واذا قبلت دعوة من دعاني من الرفقاء للمشاركة فى هذه الندوة المغربية الحافلة بالمحاضرات والاحاديث والاسمار رغم ما اعترفت لدى حضراتكم من القصر وعدم الالمام فلاني من بين قلة تؤمن بمستقبل القصة فى بلادنا ايمانا لا يخالطه الشك ؟ قلت أومن بمستقبل القصة ولم أقل بحاضرها لانى أعتقد أن أصحاب هذا النوع من الانتاج الادبي في بلادنا يزالون يتأرجحون بين المذاهب الادبية وما زال انتاجهم مقصورا على القصير من القصص ولم يصلوا هم أنفسهم الى حد الايمان بمستقبل ما بين يديهم من المادة الخام ومن لم يؤمن بفنه لا يمكن أن يصل به الى الكمال وان يخرج به من طور المحاولة الادبية الى طور الانتاج الفكرى الخالد . هذا أيها السادة والسيدات ما جرأى على الحضور بينكم الليلة لا بدافع التبجح بما أعلم وما لا أعلم ولا بدافع تلقينكم ما تجهلون وانما هى خواطر تخامرني من زمان واسئلة طالما القيتها على نفسى اود الليلة أن أفاتحكم بها وان أقبها بدورى على من تعود الناس أن يطلق عليهم لقب الاديب او رجل الفكر عندنا .

القضية كما تعرفون ليست وليدة اليوم ، نحن نشكو فقر الادب التونسي بصفة عامة وقد بدأنا نسمع هذه الشكاوى منذ سنوات حتى أيقن البعض منا أن المشكلة معضلة وان الداء مزمن وان علاج هذه المشكلة وهذا الداء لن يأت على يد طبيب أو صيدلى وانه يتعين أن ننتظر المعجزة ، وفي انتظار المعجزة تقفل باب الفكر ولا نحاول الخروج من المأزق هذا مع الاسف ما يذهب اليه الكثير من أهل القلم بديارنا وهو كما سنحاول بسطه - غلط فادح وهرب من المسؤولية وانزواء لا يعود على نهضتنا الا بأكثر ما تواجهه من عقبات طبيعية لا تبعث فى نظرى الى حد الآن الى التشاؤم والتحسر والبكاء والشكوى ، - اذا كنا نعتقد أن تونس بخير واذا آمنا ان الادب هو الحياة فلا مجال الى الشكوى ولا محل للتشاؤم بل يتعين علينا جميعا نحن الذين اتيحت لنا فرصة التعلم والتثقف الفرصة النادرة التى لم تتح للالوف من اخواننا ، يتعين علينا أن نأخذ المشكلة بالنظر وامعان النظر من أساسها وان

نعالجها على ضوء ما نعرفه من معالجة غيرنا من الشعوب المتقدمة لها يجب أن يكون ادراكنا للقضية واضحا وشعورنا بوجوب النهوض بالقصة فى بلادنا كاملا شاملا فاذا حصل لدينا هذا الادراك وهذا الشعور هان الامر وكان ذلك منا أول عمل في سبل النهوض بالقصة وكنا أدينا ولو جانبا من الرسالة الأدبية المناطة بعهدتنا . الشعور بوجوب النهوض بالقصة ؟ أفليس هكذا تبدأ النهضة ؟ أفيعتقد البعض منا أن أدباء القصة فى الغرب قد بعثوا الى قومهم كالرسل والانبياء واطلعوا على الادب بصورة تلقائية لم يمهد لهم طريق ولا تسبقهم دعوة ؟ اننا نؤمن ان القصة من أصعب فنون الادب على الاطلاق وانها لا يمكن أن تبرز الوجود الا اذا سبقها تراث أدبى متين . فهل هيأنا للقصة هذا المهد وهل أعددنا جانبا من ادبائنا الى التخصص فى ميدان القصة لان المسألة - وأنا موقن بما أقول - مسألة تهيئة ومسألة اعداد واستعداد أكثر منها مسألة عدم قطعى وفقر جوهرى وعقم مزمن

لندخل الآن إذا سمحتم في صميم الموضوع وللنظر أولا في ما هو المقصود بالقصة . ولن أطيل عليكم في هذا الباب أى باب الاصطلاحات . ويكفى أن انوه هنا بما جاء في مقال للاستاذ عثمان الكعاك نشرته مجلة الفكر فى عددها الخاص بالقصة التونسية اذ يقول أستاذنا بطرافته المعهودة " كلمة قصة مصابة في رأى فلسفة اللغة بداء ترادف المعانى " ويكفى لتدعيم هذا الرأي أن نسرد الاصطلاحات التالية لنعرف مبلغ التشعب فى مفهوم الناس للقصة ، هنالك القصة والاقصوصة والرواية بقطع النظر عن المسرحية والنادرة والرواية الاذاعية والقصة السينمائية او السيناريو ويقابل هذه المفاهيم العربية للقصة وهذه الاصطلاحات ما لا يقل عنها تشعب وكثرة فى اللغات الغربية .

بحيث يتعين علينا أن نضبط مانعنيه هنا بالقصة قبل الشروع في الحديث عن وجودها او عدم وجودها فى بلادنا . وانا اذهب الى اصطلاح آخر آمل أن لا يزيد في تشعب الامر وذلك محاولة منى فى رفع بعض الالتباس وما هي الا محاولة لا غير . فاذا لم أصب فأمرى على الله وصفحكم جميل.

ان ما نتحدث عنه وتعنيه بالقصة هنا هو ما يسميه الفرنسيون (Le Roman) ولست اوافق على هذه التسمية لما تعرفون لها من غموض ولذلك اقترح ان تقابل كلمة بمركب رواية قصصية فهى وان لم تؤد المعنى المطلوب تمام الاداء فهي في نظري أقرب إلى الذهن وأقل التباسا من كلمة قصة . ثم انه يمكننا أن نضعها إلى جانب صديقاتها في الادب دون أن نخلط هذه بتلك واعني هنا الرواية المسرحية والرواية الاذاعية والقصة القصيرة ، سميتها رواية قصصية وكان يمكن أن أسميها أيضا الرواية الطويلة .

أما وقد حددنا ما كنا نريد تحديده من ناحية الاصطلاح فلنلق الآن نظرة على هذا الفن من الادب ، فن الرواية القصصية التى طغت فى عصرنا - كما

يخفى - على جميع شعب الانتاج الفكرى سواء فى ذلك المجلات او الجرائد او الكتب التى أصبحت معرضا لحسن الطبع والاخراج فى جميع لغات العالم النشيط . لقد أصبحت الرواية القصصية فى عصرنا فنا قائما بذاته له عناصر استقلاله وله صيت لا يقل ذيوعه عن ذيوع صيت الشعر والبلاغة في القرون الاولى ، واول من اعتنى بنشر هذا الضرب من الادب الاوروبيون فى عصور نهضتهم الفكرية ، ومنذ ذلك العهد لم يفتا فن القصة فى اوروبا يتطور ويتبلور مع الايام حتى احتل المكانة التى نعرفها له اليوم فى تلك البلاد . على أن ظهور الكتب المختصة بالرواية القصصية قد تأخر عهده في اللغة العربية الى الحرب الاوروبية الاولى ، بحيث صارت مهمة العرب في هذا الفن مهمة لحاق بينما مهمة السابقين الاوروبين والامريكان مهمة تطور وازدياد وابداع فى التجديد وكان ما تعلمون من تخلف فكرى عند هؤلاء ومن نهضة أدبية عند الاخرين وشعر الشرق العربى بهذا الضعف فكانت الاستفاقة الاولى التى دفعت الادباء إلى الترجمة فى أواخر القرن الماضي وبدأت حركة ترجمة الروايات القصصية فعلا فى اول هذا القرن بصورة بمحسوسة ، واضحة .

وكان معظم من اضطلع بهذه المهمة وقام باعبائها فى بلاد مصر وسوريا من العنصر المسيحى أمثال نجيب الحداد ونيقولا رزق الله وغيرهما كثير . وظل المغرب العربى فى سباته الى يومنا هذا لانه لم يشعر كما شعر اخوانه في الشرق بضرورة اقتحام فن القصة ، نعم المسألة كما قلت في مستهل هذا الكلام مسألة شعور . . اذ الشعور بالضعف يستفز الى الخروج من الضعف والشعور بالتخلف يدفع الى مقاومة التخلف والشعور بالموت يحسب الحياة ويجعل المحتضر يتعلق باهدابها ، شعر الشرق بتخلفه فى ميدان انتاج القصة فبدأ بالترجمة ونقل عن الفرنسيين والايطاليين والاسبان والروس ثم لم تلبث ان ظهرت الرواية القصصية مؤلفة باللغة العربية أصالة لا نقلا . وكان اشهر زعماء النهضة الادبية في الشرق جرجي زيدان بما أخرجه يراعه من القصص والروايات التاريخية التى مس بها جميع أطراف العالم العربي وما زالت رواياته تخرج فى طبعات حديثة تشوق القارىء وتستهويه . . ارتقى فن كتابة الرواية القصصية شيئا فشيئا في الشرق العربي إلى أن ظهرت الرواية الحديثة بفضل ظهور طبقة جديدة من أرباب القلم خرجت  بالقصه من طور السرد التاريخي او الخرافة الساذحة الى طور البحث والتعمق فى بحث خبايا النفس وما تنطوى عليه من عوامل وما يدعو ذلك من ملاحظة ودقة ووصف .

هذه نظرة خاطفة كان لابد ان نلقيها على فن القصة في الشرق وعلى المراحل التى مرت بها الرواية القصصية فى الشرق العربي . مما يدفعنا الى استخراج ما يجدر ان نستخرجه من عبرة فى هذه التجربة والعبرة كما تتوقعون هى أن فن الرواية القصصية يمر بمراحل وأن هذه المراحل حتمية قطعا تتطلب التهيئة والزاد والاستعداد ويسمى الاوروبيون هذا بـ

(Le Patrimoine litteraire) اى بما يمكن أن نترجمه بالتراث الروائى او  التراث التقليدى الادبى الذى لا تضعه أمة كما تضع الام طفلها بل هو وليد الجيل والاجيال وهو عصارة ما تحمله الامم فى جوفها من نشاط ومن حركة ومن تراث أصيل . ويجدر أن نتساءل الآن هل ثمة فى تونس تراث ادبي يمكننا ان نعول عليه وهل وصلت أمتنا الى حد من النشاط ومن الحركة الفكرية حتى يمكن بواسطة هذا النشاط وهذه الحركة أن يقتحم ادباؤنا وارباب الاقلام عندنا فن الرواية القصصية ؟

لن آتي بجديد إذا قلت أن تونس كانت منذ القدم بلدا مخلصا للادب والفن ، يكفي أن نعلم ان المعالم المسرحية فى بلادنا تفوق فى عظمتها وركانة تأسيسها الهياكل الدينية القديمة ، لنجزم أن فن المسرحية الذى هو بمثابة اخ الفن القصصى قد ازدهر فى بلادنا إلى حد كبير ، ولم يقف هذا الاخلاص عند حد القصص المسرحي بل تعداه الى كل انواع القصص والرواية . وليس بعيدا عنا عهد كان للفداوى فيه شأن كما ليس بعيد عن عهد القصاصين الشعبين الذين كانوا يملؤون الاسواق والمداشر والبطالح العامة فيتغنون بالقصص المنظومة يصحبونها بنقرات على البندير أو عزف على الرباب حلو النبرات عذب الرنين ليس بعيدا عنا عهد كان القاضى فيه رجلا ذا مكانة مرموقة اذا جلس على عرشه فى مقهى القرية سكت الناس ونظروا اليه في خشوع منصتين ، وكانت لهذا الصنف من أدب القصة الشعبية مجتمعاته الحافلة وحلقاته الراتبة في كل حومة من المدن وكل بلدة وكل قرية ، وكان من القصاصين من بلغت شهرته الآفاق لما كان يمتاز به من ثقافة طيبة وذكاء حاد وهيمننة على المستمعين وحسن القاء وتصنيف وتكييف . من لا يذكر من آبائنا تلك الجلسات التى كان يستمع فيها الى القاص يسرد السيرة الظاهرية وتغريبة بنى هلال الحجازية والافريقية والسيرة العنترية وقصة الكاهنة وقصة بنت قصر الجم ، كل هذا الادب القصص الزاخر ما زال عالقا باذهان الكثير منا . وانما يجدر أن يدرس هذا الادب دراسة دقيقة ليمهد السبيل أمام من في نفسه منا بذرة من الكفاءة وحسن الاستعداد.

المشكلة اذن ليست مشكلة فقر فى تراثنا الادبي بخصوص القصة وانما هى مشكلة معرفة . نحن نجهل ادبنا ونجهل ما بانفسنا فكيف نقتحم كتابة القصة بهذا الزاد الضئيل نحن نكتفى بدراسة ادب القصة الانكليزى والفرنسى ، بل نحن نعرف عن هذا الادب ما يجهله الكثير من ابناء انكلتر وفرنسا ولكننا نجهل وجود القصة التونسية بل وننكر هذا الوجود .

ذكرت الساعة ان فن الرواية القصصية فن صعب المراس وان من يبرز فيه قليل وان هذه سنة فى كل الآداب وكل الاقطار . وقلت ان الرواية

القصصية الناجحة لا تتولد الا عن عقلية موجودة موطدة الاركان هى عمل السنين والاجيال ، فهل تم هذا العمل فى تونس عمل التهيئة والتركيز؟ اعتقد انه تم وان القصة التونسية لا تنتظر الا من يأخذ برقبتها وينزلها من عالم الافكار الى ميدان الحبر والورق ، نعم أعتقد هذا واومن به ايماني بنهضتنا الحالية وايمانى بمستقبل هذه النهضة ، نحن ماضون فى سبيل خلق الرواية القصصية التونسية ذات الموضوع التونسى والشخصيات التونسية لاننا نعيش اوان خلق القصة ، لان القصة الكامنة فينا هى التى تستحثنا على الاخذ بيدها واخراجها الى الوجود

تمر البلاد التونسيه فى أيامنا بطور من حياتها تشتبك فيه الانقلابات  بالانقلابات وتتلاحق وتؤتى اكلها انقلابات اجتماعية برزت منها شخصيا جديدة هى شخصية المرأة التونسية التى ما كادت تخطو أولى خطواتها حتى قادتها الظروف الى الاخذ بنصيبها من الحقوق والواجبات التى سنها دستورنا وأقرها نظامنا . وقد ذكرت هذا الحدث العظيم على سبيل المثال ولا أراني فى حاجة الى سرد الاحداث التى تطلع علينا كل يوم فأنتم تعيشون في معتركها مثلى وتقدرون مثلى ايضا مالها من وقع وبعد أثر فى النفوس . واذا أثرت الوقائع فى النفوس وخاصة فى نفوس من نسميهم بالأدباء كانت القصة ، نعم القصة فى حياتنا اليومية فيما يجرى أمامنا من احداث فيما تسجلة مخيلتنا وما يجب أن يكتبه القلم أو ترقنه الالة الراقنة . حياة عراك بين القديم والحديث بين الرجعية والتقدم بين التقليد والتجديد وحياة صراع بين الحيوية والجمود بين كلمة الحق ورعود الباطل بين صرخة اليتيم الجائع ووقاحة النهم الذى لا يشبع من أكل ، نحن نعيش فى كل هذا وذاك في ازدحام الاحداث وجوع الانجازا ت . نحن فى اقوى واغني عصور حيويتنا أليس فى هذا دعوة الى الكتابة والخلق ؟ أو نترك الاحداث تمر بنا سراعا دون أن نسجل للتاريخ ولابنائنا واحفادنا صورة لنهضتنا ونخلف لهم لوحة نرسم عليها بايدينا التى صنعت هذه النهضة - رسما شاملا واضحا دقيقا يحدث بنشاطنا ويثبت حيويتنا ؟ قلما مر شعب بما مررنا ولم ينتج . أيعقل أن تتسم بالعقم ونحن فى عصر الخلق . . . لا يعقل هذا ولا يمكن أن يعقل ، فما هى اذن الاسباب التى تقعدنا عن انتاج الرواية القصصية التى تتمخض فى رؤوسنا ؟

لا مجال فى هذا الحديث للتعرض الى ما سميناه بالعوائق التى تحول دون انتاج الرواية القصصية فسيطرق هذا الموضوع من أخذ على عاتقه طرقه من الزملاء . واذا أردت ان تكون كلمتى هذه متسمة نطابع التفاؤل فسوف اعرج على هذه العوائق الحائلة دون انتاج القصة تعريجا يتيح لى دحض الآراء التى تقول بهذه العوائق ، مم يشكو ادباءنا ؟

فثمه من يقول فى لهجة لا تخلو من التيه والانانية : " لمن أكتب ؟ " وكثيرا

ما يردف قائلا : " نعم . . لمن اكتب ؟ " فى لهجة لا تخلو هذه المرة من ثقة الرجل بما يقول وتسأله أن يوضح رأيه ويفصح فاذا هو يرجمك بوابل من الحسرات عن جهل الشعب وسذاجة عقله . ويقول تخيل اننا معشر المثقفين لا تزيد نسبتنا على الثلاثة فى المائة او الاربعة فى المائة من مجموع سكان الجمهورية . . فمن تريد أن يقرأ مؤلفاتك ويتذوق ويستعذب فنك وسعة خيالك لقد نسى صديقنا الاديب ان الشعب وان كان جاهلا نسبيا يقرأ الصحف اليومية ويتقاطر على القصص الشرقية التى يلتهمها التهاما ويقرؤها جماعات وحلقات فى القرى والمداشر . يريد صديقنا من الشعب أن يستعذب روائع فنه وبلاغة لغته وسعة خياله فلم لا ينزل الى الشعب يحدثه باللغة التى يفهمها لابالغة الدارجة لان الكثير من المثقفين فى بلادنا ؛ شنوا حملتهم عليها وطووا الصفحة ولكن بلغة الجرائد والمجلات العادية ، فاذا قلنا هذا لصديقنا المؤلف المنكمش عن التأليف أرغي وازبد وصاح فى تيهه المعهود أنا لا اكتب للسوقة ولا ارضى أن ينشر كتابى الا على ورق ممتاز صقيل " .

هذا الصنف من الادباء لا فائدة فى اطالة الحديث فى شأنه وهو صنف المنكمشين القاعدين .

وهناك صنف آخر هو صنف الممتازين : يقول لك فى حسرة ظاهرة " ايه يا صديقى .. ان علينا رسالة لابد من تأديتها . . ولكن يجب أن نفكر فى اقتناء الخبز وكسب الرزق والتاليف فى بلادنا لا يغنى ولا يسمن من جوع " وتنظر إلى صديقنا الكاتب فاذا هو أنيق اللباس ، محمر الوجنتين لا يبدو عليه أثر الهزال قطعا . فتعيد الكرة وتقول : ما يمنعك من نشر قصتك على صفحات جريدة من الجرائد اليومية تخرجها فى حلقات متسلسلة إذا كان الامر يتوقف على ضيق ما بيدك لنشر قصتك على نفقتك ؟ " وما ان تنتهى من كلامك حتى تسمعه يقهقه متعجبا من سذاجتك وحمقك ثم يقول : " وهل تعتقد ان الجرائد ستشترى قصتى بعدد سطورها ذهبا . . الجرائد ضنينة على الكتاب يا أخي ... واكثرها لا يدفع مليما مقابل بحث علمى مدقققق أو قصة أدبية رائعة " .. لو علم صديقنا بقصة " فان قوق " الرسام العبقرى قضى " فان قوق " ستة أيام متوالية فى بيته لم يأكل خلالها ولو رغيفا من الخبز اليابس لفقره المدقع وفراغ جيبه وأخيرا دفعه الجوع الى طرق باب صديق له عزيز عليه يستجديه ليأكل فما كان الصديق الا أن يقول لفان قوق : فى وسعى يا صديقى أن أسكنك فى بيتى وأغدق عليك من نعمى ولكنى لن أفعل حاشا أن تقترن العبقرية بالترف . وأنا أتوسم فيك العبقرية ولا أريد أن تتحطم يوما على يدى . . عش فقيرا يكتب لك الخلوة وغير فان قوق من العباقرة والعمالقة كثير.

بقى أن نتحدث عن صنف آخر من أدبائنا يمكن أن نلقبهم بالمكدودين او المنهوكين تسألهم عن القصة وعن كتابة الرواية القصصية فيجيبونك في اضطراب اعصاب ظاهرة : " القصة . . وهل تركت لى الادارة ساعة أخصصها لتأليف القصة ؟ ولا يلبث أن يفلت من بين يديك ويغيب عنك في سرعة البرق دون أن يسألك عن حالك وحال عيالك - وهذا صنف من الادباء لا لوم عليه ولا معول عليه أيضا لكن أيمنع هذا أن تكون الرواية القصصية كامنة فينا ؟

لا أعتقد وهنا سأسمح لنفسى واعتذر ان كنت أطلت عليكم في حديث كنت أريده عجالة سأسمح لنفسى بالتعرض الى أصناف من الادب يمكن ان تعتبرها خطوة أولى وخطوة موفقة فى تونس نحو انتاج الرواية القصصية التونسيه التى نؤمن بوجودها فينا ( وان لم تكن منشورة في كتب معروضة فى السوق الادبية .

أعرف الكثير من أدبائنا اذا سألتهم عن الرواية القصصية لم يعرضوا عنك كما يفعل الذين تحدثنا عنهم سابقا بل هم يناقشونك ويحاجوثك ويلقون التبعة فى شأن تخلف القصة فى بلادنا لا على أدباء - وهم ادلنا ولكن على  الدوائر الرسمية التى انيطت بها عهدة النهوض بالادب في بلادنا ، يقولون طبعا نحن مقصرون ولكن هب ثمة فى تونس ما يشجع على الكتابة والتأليف . . ان دور النشر فى الشرق والغرب تكتض بالناشرين الناشئين منهم والمتصلعين وهى تقبل حتى الضعيف من انتاجهم وينشر هذا الانتاج يتحفز الكاتب لانتاج آخر وآخر من حسن الى احسن حتى يصلوا بمؤلفاتهم الى ما يعتبره انتاجا جيدا . ولقد سمعنا أن عددا كبيرا من ادبائنا في تونس يحتفظون فى خزائنهم بما لو طبع على الورق لوجدنا فيه الوفرة والجودة وامتلأت به مكتباتنا فى كامل تراب الجمهورية ، فهل فكر المسؤولون فى بلادنا فى بعث دار للنشر أو فى تشجيع من يريدون انشاء مؤسسة من هذا النوع ؟ المشاريع الاقتصادية على مختلف أنواعها تجد التشجيع والمساهمة الفعلية لدى الدوائر الرسمية فلم لا يكون نفس التشجيع ونفس المساهمة فى المشاريع الثقافية من هذا النوع ، فالثقافة كالاقتصاد تماما تخضع لمبدأ الاخد والعطاء والبيع والشراء فاذا كثر الانتاج ارتفعت نسبة الاستهلاك والاستهلاك فى كلتا الحالتين لا يكثر ويتزايد الا اذا كان في متناول المستهلك وادا فان يعتمد على توزيع منطقى منظم هذا ما يقوله بعض أدبائنا اورردناه هنا لا لاننا نوافقهم عليه أو نعارضهم فيه بل لاثارة المشكل تمهيدا لما يمكن ان يجرى من مناقشة بعد هذا الحديث .

وهناك صنف من الادباء يقول إذا سألته عن الرواية القصصية أنت تخلق مشكله من لا شئ اولا لانك تعتقد اننا فى حاجة إلى بعث القصة الطويلة في بلادنا وتدعو لنشرها فى شكل كتب جميلة مسفرة منمقة . . كل هذا من

باب الشكليات ، القصة فى رؤوسنا وصدورنا ونحن مقدرون دورها الرئيسى في رفع مستوى الثقافة عندنا واذا كانت هذه العوائق التى تحدثت عنها وأطنت لم لا تبتعد عن المشاكل باتباع طريق آخر غير النشر لتزدهر الرواية القصصية وتروج فى بلادنا ولو كان ذلك بصفة غير مباشرة ؟

الكثير من أدبائنا الذين لهم شغف بتأليف القصة لا يقفون عند العقبات ، يعوزهم المال لنشر مؤلفاتهم عن طريق الطباعة فينشرونها عن طريق المذياع - نعم . . نحن لا ندعى هنا ان دور الطباعة والاذاعة واحد فى نشر الادب والقصة خاصة ، فهذه تحلل النظر وتلك تعتمد على السمع . . وللقارى امكانية المراجعة . والمستمع الى الاذاعة مجبر على الانصات والمحافظة على سياق الكلام . . فالفرق بين القصة المنشورة والقصة المذاعة واضح لا محل هنا الى الخوض فى شأنه . ولكن وان اختلفت طرق نشر الرواية القصصية فى كلتا الحالتين فذلك لا يمنع من أن تكون الاذاعة أداة صالحة للنشر ولتشجيع الادباء على تأليف القصة تشجيعا ماديا فمعنويا فى آن واحد وكثير من الادباء قد لجأ إلى هذا الحل بصفة مؤقتة فى انتظار ما نرجوه جميعا أى دار نشر تونسية ، ويمكنني أن أوكد لحضراتكم أن من لجأ إلى هذا الحل كثير وان الاذاعة ما انفكت تشجع كتابنا على تأليف القصة بهذه الطريقة ، وهكذا ندحض الرأى القائل بان لرواية القصصية لا تؤتى أكلها المادى الا بعد السنين ولا تدر على مؤلفها بالمال الوفير الا بعد الانتظار الطويل واللاى الشديد .

واصل هنا إلى خاتمة هذا الحديث مؤكدا مرة أخرى اننا نجتاز الآن فى تونس مرحلة حاسمة من حياتنا سواء كان ذلك فى ميدان الاقتصاد او الفكر وان هذه المرحلة مرحلة اعدادية أكثر منها مرحلة استثمار ما يبذل من جهود نحن نغرس اليوم لنحصد غدا أو بالاحرى ليحصد غيرنا غدا . فاذا آمنا برسالتنا الادبية ودخلنا معمعة الكتابة والتأليف دون أن ننتظر لانتاجنا الرواج اللائق به والمال الذى نستحقه في مقابلة هيأنا بذلك مولد القصة والرواية والأدب الخيالى بصورة عامة فى بلادنا وتهيئة الرواية القصصية تكون عن طريق الرواية الاذاعية والرواية المسرحية والقصة القصيرة والحديث والبحث والوصف وشتى مواضيع الكتابة اذ الرواية القصصية خليط من هذا وذاك فهى وصف وبحث نفسانى وخواطر فلسفية وحوار وتنسيق بين النص والحوار . هي الحياة كما نلمسها ونشهدها ونشعر بها ونتخيلها وهو الاشخاص الذين نصادفهم في الطريق والاصدقاء الذين تجمعنا بهم السهرات وتربطنا بهم الفة الايام والسنين يجب أن نكتب . . أن نكتب في كل المواضيع ويجب أن يقبل الناس على ما نكتب وان يكون من بينهم المحبذ الراضى والمنتقد الساخط . . على أن يكون ذلك مدعاة للرواج وباعثا على الزيادة فى الانتاج . ولا يكون ذلك فى نظرنا لكبت القرائح والضغط على الحريات ، فمن

أراد الالتزام التزم ومن أراد التقليد قلد ومن أراد الخروج عن المألوف خرج الرواية القصصية لا تنبعث من صدر كاتبها الا اذا كانت صرخة صادقة أو ابتسامة عن رضى وطيب خاطر . فاذا لم تقتل الصرخه تم بمح الابسمة كانت الحياة و كانت الرواية القصصية . من كبار مؤلفى الرواية القصصية فى الغرب والشرق يبدأ هكذا :

" ويقولون مع ذلك ان الله موجود وان العدل شيعة بين الناس لكل قسطه من المجموع . . فأين العدل وأين الله " .

افيفكر قارئ من القراء أو عمدة من أعمدة الدين ان يثور فى وجه كاتب هذه الخواطر وان يدعو الناس الى رميه بالحجارة لانه ملحد فى نظره . . لا . لان فن القصة فى تلك البلاد لا يعدو ان يكون فنا وللفنان فيه حرية الخلق وحرية الابداع .

ومن كبار مؤلفي الرواية القصصية من يبدأ هكذا " يعتقد الناس أنها مومس ساقطة سافلة وهى عندى أشرف من مريم العذراء واطهر واطيب . . ومع ذلك فهى مومس . . " ثم يستطرد الكاتب فى قصته حسب ما يمليه عليه شعوره وخياله فى حريه مطلقه لا تخضع لقيد ولا تنحنى أمام رقابة . وحتى الالتزام فى الرواية القصصية مباح اذ حرية الكاتب فيه مطلقة والحرية مقدسة .

مررت يوما بدكان كغيره من دكاكين سوق المدينة ووقفت غير بعيد انتظر صديقا كنت معه على موعد وسمعت شيخ يحدث رجلا فى مثل سنه عن عن انجازات الحكومة وعن التفاف الشعب حولها وعن المعجزة اليومية التي نحياها نعم كان يتحدث عن كل هذا والبشر يطفح على وجهه فدنوت منه لانصت الى ما يقول دون ان اشعره بذلك لئلا قطع عليه سياق الحديث فافسد عليه وعلى نفسى . . وتبينت من كلامه الشىء الكثير واوكد هنا ان هذا الكلام لو نشر او اذيع أو قدم على خشبه مسرحيه لايقن ادباونا مثلما ايقنت في ذلك اليوم أن القصة كامنة فينا ، فينا جميعا فى شيوخنا وشبابنا فى نسائنا وبناتنا فى صدورنا ورؤوسنا وفيما سماه الشيخ بنور الرحمة التى تشرف علينا من فوق وتحيط بنا من الجوانب . . نعم كان الشيخ يقول : تبارك الله . تبارك الله . . لقد تبدل كل شىء فى البلاد وبسرعه مدهشه . . اربع سنوات فقط استطاعت البلاد خلالها ان تخلق أشياء من لا شئ وان تنزع عن وجهها غشاء القدم والعفن وتسير فى طريق النور فى حزم وثبات وتبنى صرح المستقبل حجرة حجرة من الاساس . فلا السواعد مشلولة ولا القلوب الى يأس . . ما أجمل العيش يا أخى فى بلد يشعر الانسان انه بلده . . بلد كبلته ظلمة القرون وسلاسلها فبات يزيح الظلمة ويحطم السلاسل حلقة حلقة حتى كان له النصر وكان له العز وكانت له الحرية . . الحرية يا أخي . .

أراني أحلم كلما فكرت فى كل ما وقع . . والحرية فى كل شىء . . فى ها التطور السريع الذى قلب مصير تونس ثلاث سنوات . . كل شىء مطبوع بطابع الحرية . . حتى الشوارع . . صدقنى ياأخى اذا قلت لك : لكانى بالشوارع أحمل مما كانت عليه . . نعم انها تتسع والاشغال فيها كثيرة . . لكن ليس هذا ما أعنيه الشوارع القديمة نفسها أجمل مما كانت عليه . . لعل الوجوه الطافحة بالبشر قد طبعت عليها كل هذا الجمال . . والهواء نفس الهواء لكنه يمر على وجهي الان صافيا عليلا وهذا العلم احقق الذى يسمع رزمه السماء كلما هبت الريح أليس كل هذا جميلا . . أليست هذه هى الحرية في اجمل وابهى مناطرها . ثم فى الطريق فادا المذياع فى كل دكان وكل منزل يفعم الحو بأناشيد وطنية قومية حلوة النبرات حلوة الرنين كلها سحر وكلها نور تشد برجالنا ونسائنا واطفالنا وتصدح بفرحة العيش وفرحة الحياة . . الحرية في كل هذا . . وحتى بياض جدران المدينة الناصع تحت الشمس ينطق باحريه ويشع على ما حوله باشعه الحرية الافر ماذا تريد ان اقول من هذا . . الكلام يصعد الى حلقي قلائد وعناقيد مخملة كلها عطرا مضمخة بعسل الحياة الجديدة . . ومع هذا تريدني أن أموت ؟ كيف أترك كل هذا . . أنا لا أريد أن أموت . "

نعم قال الشيخ كل هذا لو لم يكن على مقربة منى لخته شابا لم يتجاوز العشرين . . وما أعذب صرخة الحياة فى فمه : " أنا لا أريد أن أموت " قال الشيخ كل هذا بلغته وبلهجته وأسفت ان لم تكن معى مسجلة لاحد عنه درره كما هى دون نقل او ترجمه ، ولكن هكذا كان الامر وامل ان اكون نقلت ما قاله إلى حضراتكم صادقا أمينا فقد أثر فى كلامه أيما تأثير ولم أتم في تلك الليلة الا بعد ان دونت فى مذكرتى ما علق بذهنى من تلك المحادثة بين شيخين فى دكان من دكاكين سوق شارع القصبة ، فلو أخذ كل منا العلم والورق كلما تدعوه الحاجه الى تدوين مذكراته وخواطره لالفنا الكثير من الروايات القصصية ، وما ذلك بالامر العسير ...

يقول الغربيون عن الشرقى بصفة عامة انه لا يقدر أن يتم عملا اذا طال . فهو يكره العمل المتواصل الدائب ولا يقدم الا على العمل الذى لا يحمله كثيرا من المشقة وهو عاطفي يخضع عمله الى مبدأ الاندفاع الذى يتبعه الفتور يقول الغربيون هذا وليسوا مخطئين تمام الخطأ فى هذا الرأى . فنحن نكتب ولكن ماذا نكتب ؟ نكتب القصة القصيرة وننجح فى كتابة القصة القصيرة ، ونكتب الرواية المسرحية والرواية الاذاعية وننجح نسبيا فى هذه وفى تلك ونحن نريد الربح ولكن إذا كان عاجلا ونريد الشهرة وان لمن نستحقها فى غالب الاحيان لان الشهرة لا تحصل الا بعد الجهد الشديد ومع تقدم العمر . . . ونريد أن نكون كل شىء وفى نفس الوقت ونجهل التخصص

ونأباه . فكيف اذن تنتج الرواية القصصية المحكمة المنسقة المتماسكة الاطراف ؟

فالاددب القصصى - أكثر من أى فرع من فروع الادب - ادب ملاحظة . فلا ننسى أن نتاج القرائح وبيان الاقلام ليس الا جانبا من مجال ما يجدر أن عرف عن الناس أما الجانب الاكبر فهو كتاب فى غير دور الكتب لم يجربه فلم تنته صفحاته الى غاية كما يقول محمد تيمور . . ذلك هو الحياة هو الدنيا هو المجتمع الذي تتلاطم فيه أمواج البشر ، فاذا كنا مع الناس واندمجنا مع الهيئات وجعلنا من مجتمعنا مسرحا نحلق فيه ببصرنا ونتفطن الى ما يدور فيه من أحوال وأفعال كانت القصة . ولنا فى روايات الدوعاجى من إذاعية ومسرحية ولنا فى قصصه الكثيرة المنشورة والمغمورة ما يثبت اننا قادرين على الملاحظة وعلى تدوين ما نلاحظه تدوينا يمكن أن نقارنه بدون خجل وبدون عجب وغرور باسمى واروع ما كتب فى فن الرواية القصصية فى أى لغه من اللغات . وما من شك فى أن الادب العربى الحديث بصورة عامة قد بلغ الآن من الرقى المبلغ الذى يؤهله لان يكون ادبا عالميا فى العصر الحديث كما كان ادبا عالميا فى عصور العرب القدماء ايام العباسيين ، نعم أقول هذا واؤمن به . . لنا الرصيد ولكننا لا ندرك استعماله . . القصة فينا ولكننا لا نريد أن نخرجها الى حيز الوجود ومع ذلك نعلل موقفنا بشتى العلل ونلقي التبعة على الغير لا على انفسنا . . من ذلك أننا كثيرا ما نلقى التبعة على اللغة العربية فنرميها بالجمود ونقول العربية ليست لغة قصة وما ذلك الا لاننا نجهل الادب العربى . لقد استطاع الادب العربى فى العصر العباسى أن يسيغ ثقافات أجنبية لم يكن للعرب عهد بها من قبل فاساغ الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وأصبح أدبا عالميا بأوسع معانى هذه الكلمة لا يقارن فى هذا الا بالادبين العالميين القديمين الادب اليونانى واللاتيني . ومع ذلك فنحن نظن وما زلنا نتحدث بان العصر الذى نعيش فيه كالعصور التى سبقت هى عصور ضعف فيها الادب العربى ضعفا شديدا بالقياس الى حياته فى العصر العباسى القديم . وهذا رأى لا يثبت فى نظرى أمام ما شهدناه فى نصف القرن الاخير من خطوات واسعة اتاحت للادب العربي في الشرق ما لم يتح له فيما مضى وما لم يكن يخطر للماضين على بال ، وتبدو هذه الخطوات بارزة فى انتاج الرواية القصصية وأورد هنا قولا مأثورا لعميد الادب العربى طه حسين انقله من مقال له عن الادب العربي الحديث وهو بعمرى واضح لا يحتاج الى شرح . يقول طه حسين :

قد أخذنا عن الغرب فن القصص كما يتصوره فى هذا العصر الحديث ترجمنا أولا ثم قرأننا القصص فى لغاته الغربية المختلفة ثانيا ثم أخذنا نقلد الغرب فى قصصه وكنا مقلدين يظهر تقليدنا أول الامر ولكننا لم نلبث أن اصلنا هذا الفن فى لغتنا وفى أدبنا وقد أصبح القصص العربي الحديث فنا

عربيا أصيلا لا يظهر فيه تقليد لهذا الكاتب او ذاك من الكتاب الاوروبيين وانما هو يصور الكتاب الذى ينشئونه كان القصص قد نشأ فى الادب العربى منذ ابعد العصور . "

هذا ما يقوله الدكتور طه حسين عن المصريين الشرقيين بصورة عامة فهل يدفع بنا هذا الضعف أو مركب النقص الى نكران هذه الحقيقة بالنسبة الينا ؟ أو هل الكاتب الغربى الذى قال بنشأتنا - وآسف أن غاب عنى اسم هذا الكاتب الآن وان بقيت ملاحظته عالقة بذهنى - قال :

" المغربي يكره العمل المتواصل الدائب فلا يتم عملا يتطلب منه كثيرا من المشقة ولا يرجو من ورائه كسبا عاجلا فهو عاطفى يخضع عمله الى مبدأ الاندفاع الذى يتبعه الفتور . "

قيل هذا عنا وليس من قاله مخطئا تمام الخطأ فى رأيه فنحن نكتب ولكن ماذا نكتب ؟ نكتب القصة القصيرة وننجح فى كتابة القصة القصيرة ونكتب الرواية المسرحية والرواية الاذاعية وتنجح نسبيا فى هذه وفى تلك نحن نريد الربح ونريد الكسب لكن اذا كان عاجلا ، ونريد الشهرة وان لم تستحقها في أغلب الاحيان اذ لا تنال الشهرة الا بعد الجهد الجهيد ومع تقدم العمر ، ونريد أن نكون كل شئ في آن واحد ونجهل التخصص ونأباه فكيف اذن ننتج الرواية القصصية المحكمة المنسقة المتماسكة الاطراف ؟ ثم كيف نكتب القصة ، ونحن لا نقرأ . فاذا كانت الرواية القصصية فنا يعتمد على الملاحظة فانه لا تكون الا عن توسيع المدارك بالاطلاع الدائب . فلابد لنا أن نلم من كل ولا يأتي فن بطرف اذا أردنا أن تؤلف الرواية القصصية ! نجفو العلوم الطبيعية والاقتصادية ولا نمل الدراسات الاجتماعية والنفسية ولا نقصر في متابعة التطور الفكرى فى مناحى الثقافة المتحدة ، يجب أن تقنع باليسير . . بل يجب أن نقرأ وننتقى ما فيه الاصالة والجودة فى ادب القصة ومتى جمعنا بين المقروء والمشهود تسنى لنا أن نقف على حقائق الحياة وأن نعرف صور الناس فان هذا المزج من التجارب العلمية والدراسة الشخصية سيكون أكبر عنصر في عملنا الفني عند ما نعالج كتابة القصة والعالم الحديث سيتيح لنا فرصة نادرة لم تتح لكتاب القصة العرب فى العصور التى مضت وحتى فى نهضة الادب العربى فى زمان العباسيين فقد كان الادب العربي في عصوره الذهبية القديمة يمتاز بالاتصال بالثقافات الاجنبية واساغة هذه الثقافات كما أسلفنا ولكن أين وزن هذه الثقافات اذا قورنت بالثقافات التى نتصل بها فى هذه الايام . الحياة فى عصرنا نزخر بالآداب الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية والروسية بآداب لا تكاد نحصى لتنوعها وانتشارها امكننا الاتصال بها ونستطيع أن نترجم منها فننقل الينا هذه الثقافات على اختلافها بلغة عربية فصحى هى بين يدينا عند الطلب آلة مسخرة وآلة قادرة على أن تسبغ هذه الثقافات ، وأعود هنا الى

الدكتور طه حسين لاشاطره ذلك الايمان العميق بمقدرة اللغة العربية على الخلق والتطور والمرونه اذ يقول " العرب القدماء لم يكونوا يعرفون القصص كما نعرفه نحن هذه الايام . ولم يكونوا يحفلون بالقصص كما نحفل به نحن في هذه الايام كانوا يقصون الاخبار القديمة ويخلطون بين القصص والتاريخ وكانوا يقصون الاساطير والخرافات ليجدوا فيها لهوا احيانا وحكمة أحيانا أخرى ويقصون الاعاجيب ليجدوا فيها اللهو ويستعينوا بها على قطع الوقت "

يقول عميد الادب العربى هذا بالنسبة للشرق العربي ونقوله نحن بالنسبة للمغرب الذي بدأ هو أيضا يشعر بنهضته الادبية شعورا واضحا والا فما هذه المنتديات وما هذه المحاضرات وما هذه البحوث التى نحن بصددها اذ أساس النهضه شعور بالنهضة ، نحن فى المغرب نتكلم اللغة العربية الفصحى ونتقن سبكها ونرغمها على الافصاح بمما نشعر وقد ظهر هذا لا في مؤلفاتنا الادبية فى النشر والأمثلة هنا كثيرة نكتفى بسرد بعض من برز منها أمثال ابن حلون في المغرب الأقصى والكثير غيره ممن أجهل أما في تونس فلا فائدة فى التعريف بكاتب السد وبالطيب التريكى فى عدد عديد من قصصه الممتازة والطاهر قيقه فى قصصه الشعبية وفي قصة البلغة التى اشتهرت في الاوساط الادبية ولو لم يتح لها أن تنشر الى يومنا ومحمد المرزوقي في الجازية وغيرهم وغيره النثير ، قلت ظهر اتقاننا للغة العربية ومقدرتنا على سبكها وارغامها على الافصاح بما يشعر لا فى الادب المنثور بل فى دواوين شعرائنا التى تزخر بالمعاني  الراقية الرقيقة والأمثلة هنا أيضا لا تحصى ، فما يقعدنا اذن عن كتابة الرواية القصصية ؟ أمر كب فينا تأصل يجعلنا نقبل استعمار الشرق والغرب معا ويؤهن باسبقية هؤلاء وهؤلاء فى هذا الفن ؟ نحن نعيش في القصة وتعرف شخصياتها كأننا تلك الشخصيات نفسها نمارس من أعمالها ما تمارس ويجوز علينا من اطوارها ما يجوز عليها . ولكننا لن نستطيع أن نخرج بهذه الشخصات التى ترقص بين أعيننا وتملأ أذهاننا لا نستطيع أن نخرج بها من عالم الاطياف والاشباح الى عالم خفقات البشر وحركات الناس الا اذا آنسنا من انفسنا استجابة للقصه ، وكثيرا ما تحصل هذه الاستجابة ولكننا نغتر بعدها فنمسك عن اغتنام الفرصة فى حينها فتفلت القصة من بين أصابعنا ، والاستجابة هنا كاستجابة الحامل عند المخاض الى وضع طفلها فان انكمشت وابت عسر الوضع وطال المخاض ، ونحن حبالى طال المخاض بنا لانكماشنا وعدم استجابتنا لوضع القصة . ولقد اوردت هذا التشبه لاعتقادى أن المسألة فى كلتا الحالتين مسألة خلق وخلق ثمين بديع ، فمن عالج كتابة الرواية القصصية لا يمارس شأنا من شؤون التسلية الرخيصة والتلهية الوضيعه ولكنه يحاول أن يستل من أسرار الحياة التى يشاهدها بعينه ولا يفهم الحياة ولا يتفطن الى اسرار النفوس الا ذوو الفضل الذين يكرسون حياتهم فى خدمه الحق والخير والجمال ، فهذه هي الرسالة التى يجدر أن يؤديها فى بلادنا أصحاب الفكر وارباب القلم بمواجهة الرواية القصصية ومعالجتها معالجة

لا تقف دونها الصعاب والعقبات ، أما مشكلة فليست بمشكلة بالمعنى الذى يقعدنا عن التأليف ، يكفى أن نؤمن من اليوم اننا جيل زرع لا استثمار جيل يوطد لغيره السبيل ينيره دون أن يتمتع هو بالمشى على تلك السبيل وفي تلك الانوار يكفى أن نؤمن بهذا او بالرسالة الملقاة على عاتقنا لخوض غمار القصة ولو كتب لها أن تمكث فى خزائننا دهرا بل أن تبعث الى الوجود

يكفى أن نتساءل لمن يكتب الاديب المتخصص فى فن القصة ؟ وان نجيب عن هذا السؤال والادب باعتباره مادة مقروءة يتصل اتصالا وثيقا بحالة القراء شأنه فى ذلك شأن كل انتاج يتصل بحالة المستهلك . يكفى أن نجيب على سؤالنا بهذه الصورة لنعرف أن المسألة مسألة نهوض ومعركة ضد التخلف وأن المسؤولية أكبر من أن تحصر يجب أن نكتب لسواد الشعب الذى يريد أن يقرأ فى العصور الحديثة وقد يعالج الادب موضوعات شعبية وخاصة فى القصة وقد يصور أحداثا مما تقع في صميم البيئات السوقية من الشعب وقد يحلل نفوسنا ينتزعها من أعماق المجتمع الفقير ولكن دقة التحليل وعمق التفكير وقوة التعبير تجعل من تلك القصة تحفة فنية رائعة خالدة لا يرتفع الى الاحاطة بمراميها الا العقول المثقفة ، ولنذكر هنا روايات بالزاك ودستويفسكى وقوركى وموليار وغيرهم ممن خلد التاريخ اسماءهم لنعلم أن القصة فى بلادنا لن تكون أداة لهو وتسلية بل ستكون حتما اداة غوص فى أعماق الحقائق الانسانية واذا قيل للاديب أكتب القصة للشعب مع احتفاظك بكل مقومات الادب الحق فانما ذلك صوت الواجب يستفزنا جميعا لخدمة شعبنا بصور عامة شاملة يستفز الاديب ممثل الفكر فينا هو الموجه الحقيقى لاقدارنا .

وهنا أختم هذا الحديث الذى أردت أن يكون مجموعة من الخواطر ولم أفكر لحظة فى أن أجعله خطبة وعظ من طول الانصات ولست أشك فى أن وقتا سيأتي غدا أو بعد غد فى أيام قريبة أو بعيدة نجتمع فيه كهذه الليلة لنحاسب انفسنا على الوعود التى تقطعها اليوم او نحتفل معا ببروز أول انتاج ممتاز فى الرواية القصصية المغربية . . فلنتفاءل خيرا .

اشترك في نشرتنا البريدية