الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "المنهل"

القصص، ضحية الأوهام

Share

آه من انا ؟ ويرد على نفسه بنفسه . . نعم ، انا المكروه من البشر لا شئ فى ، يمكن ان يقبل عليه البشر فثيابى المهلهلة وجسمى النحيل ووجهى المستطيل وبه عيناى الغائرتان ، ووجنتاى الناتئتان ، وبالاضافة الى قبح صورتى فهذه العاهات التى ابتليت بها تبعث الكراهية لى من البشر . . ان البشر معلورون إذا اصابهم الدوار والغثيان لمنظرى القذر . . وحتى الاطفال الذين يصيبهم الفزع بمجرد رؤيتى فيصرخون ويبكون ، هم معذورون ايضا ، والفتاة معذورة هى الاخرى !

كان يتكلم داخل كوخه الحقير وعلى ضوء سراج خافت كانت هذه الهواجس تنتابه فلا يخرج منه الا لقضاء حاجة وربما خرج فى الظلام تفاديا لنظرات البشر الشرهة التى يصوبونها اليه وكانها سهام من نار تخترق صدره وقد يتوهم انه يسمع وهو فى طريقه الى كوخه بعض الكلمات التى تزيده انطواء على نفسه كأن يقول بعضهم : معتوه ، وآخر يتعوذ بالله من خلقته التى لا تشبه صورة المخلوقين : والأطفال آه من الاطفال انهم يصرخون لمنظره ، انهم يكرهونه وقد سمع مرة وهو فى طريقه الى كوخه والدة تخوف احد اولادها به : فهل بعد بهذا يجوز له ان يجالس المخلوقين

انه وحش الصورة . . حتى الكبار وهم الكبار يكرهون الجلوس فى قهوة " العم صدقة " لانه دائما يتردد عليها : لقد حرم " العم صدقة " من زبائنه الكرام ولا يستبعد أن بطرده فيما بعد ، اذا هو علم بذلك .

لقد أصبح كل المخلوقين فى نظره أعداء له يكرهونه فانزوى فى كوخه لا يخرج منه الا بعد ان يخيم الظلام على المدينة . وفى غفلة من العيون يتسلل الى السوق ومن اقرب بائع يأخذ قوته اليومى وما يحتاجه ويهرع الى كوخه وجلا من البشر

لقد كان صاحبنا فيما مضى عاملا نشيطا يكسب قوته بقوة ساعده وقد جمع من ذلك ثروة لا بأس بها فأراد ان يتزوج ليريح قلبه كما يقول له زملاؤه فى العمل " المتزوجون " وقد هداه أحدهم الى أسرة ، ويدون أى تردد تقدم لرب الاسرة خاطبا راغبا فى المصونة ، ولم يمانع رب الاسرة فى طلبه مصادرته غير أنه أرجأ ذلك الى استشارة ابنته فان قبلته فيها والا فليبحث له عن شريكة لحياته غيرها . وقد سمع وهو فى بيت والد الفتاة ومن

غرفة النساء صوتا نسائيا رقيقا يقول : ابدا يا والدى لن اتزوج هذا ؟ ! ولو قطعتمونى اربا اربا : أتريد ان تزوجنى هذا " المعفرت " واجهش صاحب الصوت بالبكاء :

وبعد ذلك خرج والد الفتاة وعلى شفته ابتسامة صفراء خفق لها قلب صاحبنا حينما شاهدها وانتظر ليسمع ما يتكلم به والد الفتاة : وبعد برهة وجيزة من الصمت كان فيها صاحبنا منكس الرأس لا يرفع بصره كلم والد الفتاة وقال فى صوت منخفض : انى آسف . فان الفتاة لم توافق على الزواج منك ! وأردف ذلك بكلمات من الاعتذار المعتاد

وبكل ألم وحسرة نهض صاحبنا ، وصافح رب الاسرة واستأذنه بالخروج وهو أشبه بالغائب عن الوجود صعقا لهول المفاجأة . . انه لم يكن ليتوقع ذلك . ومنذ ذلك الحين أخذت الهواجس تنتابه . . أحقا ما تقوله الفتاة من أنه " مسخ " الخ النعوت والأوصاف التى لا يمكن أن تكون فى البشر وزاده هما على هم ، نظرات الاطفال التى يتوهم منها انهم يكرهونه : انقطع صاحبنا عن العمل وظل فى كوخه . وذات يوم زاره زملاؤه العمال يسألونه عما أصابه وحبسه في منزله وهو لا يرد عليهم الا بأنه آثر البقاء في الكوخ ليستريح وعندما يلحون عليه فى السؤال ينظر اليهم شزرا : لا أريد العمل أتريدون اجبارى على ذلك أخرجوا قبحكم الله و الا . . فيتركونه لشأنه وهم يرددون فيما بينهم : " مجنون " ولا يعلمون أنهم قد زادوه وهما على ما داخل عقله من اوهام . فهو لم يكن قبيحا كما توهم هو ذلك من كلام الفتاة المشؤوم ، ونظرات الاطفال اليه بريئة ، لكن الاوهام - قاتل الله الاوهام والافكار السوداء - صورت له ذلك فانطوى على نفسه لا يبث لاحد بدخيلتها لانقاذه وزاد على ذلك تركه

العناية بملبسه وجسمه فمن اثوابه المهلهلة الى شعر لحيته المسترسل على صدره يخالطه شعر رأسه الاشعث الاغبر كل هذه الأشياء كفيلة أن تجعل من صاحبنا انسانا قذرا .

لقد عرفه الاطفال واصبحوا لا يخافون منه بل أنهم تجرأوا على أن يقولوا له ، بعدما عرفوا قصته من أحد زملائه فى العمل ، الذى يسكن فى الحارة : " عم جابر يا مجنون " " البنات ما يبغوك " فيثور ثائره فيجرى وراء الاطفال ولكنهم يختفون عنه فى أزقة الحارة الضيقة ليعودوا بعد أن يهدأ الى اثارته مرة ثانية وثالثة : وربما شاهدهم احد المارة وراءه فأنقذه منهم ليعودوا فى اليوم التالى ، الى اثارته من جديد وهكذا ظل عم جابر كما يسميه الاطفال مدة من الزمن يزيده أطفال الحارة " جنونا الى جنونه " .

وفى احد الايام كان الاطفال مرابطين كعادتهم امام كوخ العم جابر ينتظرون خروجه لاثارته بنما تعودوا عليه ولكن العم جابر لم يخرج في هذا اليوم وهم لا يعلمون ماذا جرى له وألحت عليهم شقاوة الاطفال فأخذوا يرددون : عم جابر يا مجنون ! البنات ما يبغوك ، عسى ان يخرج لهم ولكنه لم يخرج ايضا فقادهم تفكيرهم الصبيانى الى ان يقتربوا من الكوخ ومن شقوق الكوخ كانوا ينظرون الى داخله وراعهم ان شاهدوا العم جابر ممددا ساكنا لا حركة فيه : لقد احتاروا فالعم جابر لا يتكلم ولا يتحرك ومن ثم ركضوا الى أهليهم واخبروهم وحضر اهل الحى الى الكوخ حيث شاهدوا العم جابر جثة هامدة لا حراك فيها لقد مات المسكين فاستراح .

ونظر الاطفال الى الكوخ في اليوم التالى وفى نبرات الاطفال الحزينة البريئة رددوا معا : مات العم جابر مسكين العم جابر الله يرحمه .

المهد

اشترك في نشرتنا البريدية