الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "المنهل"

القصص, فى سبيل الوطن

Share

كانت الثورة فى فلسطين سنة ١٩٣٧ م على أشدها ، ضد الانكليز ، وكانت قلوب الناس مشتعلة بالحماسة ، طافحة بالايمان بحقها ، ضد المستعمر الغاصب - فهذا رجل قد وخط الشيب رأسه ، يحمل الماء والأكل للثوار المرابطين فى الجبل على حصانه الهزيل ، ولا يخشى الموت برصاص الانكليز ، وعلى ثغره بسمة مشرقة إن عبرت عن شئ فأنما تعبر عن إيمانه بواجبه وتفانيه فى أدائه واستخفافه بالموت ؛ وهذا بيت متواضع تراه يرحب بثائر يريد الالتحاق بأخوانه الثائرين فيطعمه ويؤويه ويكرمه ، وأهل البيت يعلمون حق العلم أن أخف جزاء لذلك هو الشنق إذا نمى عنهم للسلطات الانكليزية ، وجميع الأذان مرهفة لتلتقط الأخبار عن الثوار ، وإذا جاءهم خبر بالنصر سمعت زغاريد النساء تشق عنان السماء على سمع المستعمر وبصره وهو يحير فى أمر هذه القلوب المشتعلة بالايمان والشحاعة . . هكذا كانت قلوب أهالى فلسطين ، ولنقل : أغلبيتهم الساحقة ، فأن البعض منهم ممن فقدوا ضمائرهم واستهوتهم المادة كانوا أذننابا وعيونا للمستعمر ؛ يشون بالثوار ، وبمن يؤويهم أو يقدم لهم مساعدة من أي نوع ، والويل للواحد من هؤلاء الأذناب إذا عرفه الثوار أو أهالي البلاد ، فان رصاصة تستقر فيه وسط الليل البهيم ، فيقضى غير مأسوف عليه لا من اهالى وطنه ؛ فقد خانهم ، ولا من عملائه المستعمرين ؛ فقد انتهت مساعدته لهم

وفي قرية من قرى الشمال حيث أنعم الله على أهلها بجمال موقعها وخصب أرضها ، وما فجر فيها من الينابيع فوق ما يحتاجون . . كان سكانها يعيشون هادئين وادعين يأتيهم قوتهم رغدا ، ولا تعنى " رغدا " هذه أن الله ينزل عليهم مائدة من

السماء لا ! فأن الأرض التى يكدحون فيها طول يومهم والمزروعات التى يتعهدونها شهورا عديدة والمواشى التى يطعمونها ويحرصون عليها حرصهم على انفسهم كلها كانت تؤتى أكلها طيبا فكان هذا فى عرفهم منتهى الخير والسعادة ، وذلك لان غيرها من القرى كان به كثير من الفلاحين الكادحين لا يحصلون على ثمن ما يزرعون فى الارض ، فهم بالنسبة لغيرهم فى خير عميم

وفى طرف هذه القرية كان هنالك بيتان لاخوين متوسطى الحال ولكن السعادة كانت تخم عليهما والوفاق يشملهما ، فمحمود ومحمد - وهما الاخوان كانا مضرب المثل فى التصافى والمحبة عند أهل القرية ، فهما يشتغلان سويا فى الارض ومواشيهما مشتركة يخدمانها معا . . وأضف الى ذلك أن ابن محمود الشاب حسن قد أحب ابنة عمه سعاد وخطبها لنفسه وهو على وشك الزواج بها ، وقد جمع أبوه لنفقات الزواج والمهر مائة وعشرين جنيها اقتصدها من مصروف العائلة ، وهذه الرابطة كانت رابطا جديدا يربط بين الاخوين ويزيد من الوفاق والمحبة .

وكانت الثورة قد اجتاحت البلاد كلها وبدأ الشمال يتحرك والمتطوعون يتوافدون الى قيادة الشمال وكان الواحد منهم يبيع ما يدخر ليشترى بندقية ومسدسا يخرج بهما مجاهدا فى سبيل الله ثم الوطن ، واشتد ضغط الانكليز على الثوار وصمموا على قمع الثورة بأشد الوسائل وأفتكها ، ولكن هذه السياسة ما كانت . تزيد الشعب إلا حبا فى الثورة وتفانيا فى خدمة الوطن وطمعا فى الاستقلال .

وبدا شباب القرية يخرجون للجبهات وينضمون للثوار ، وتضاربت فى نفس حسن ؛ عواطف مختلفة فهو يرى شباب القرية يخرجون للقتال فيحن إليه ويرى انه من العار ان يبقى ويترك المجد والشرف ، ولكنه يلمح فى عينى ابنة عمه سعاد السحر والحب فيزيد شوقه إليها وخصوصا وهو على وشك الزواج ؛ ودام هذا الصراع شهرين وأخيرا عزم على أمر .

خرج ذات يوم مبكرا ولم يذهب إلى الحقل ، وغاب النهار كله وقلق عليه أهلوه وكان أكثرهم قلقا سعاد ، وقبيل الغروب لمحوا عن بعد ، شبح شاب ، وما دنا حتى عرفوا فيه ابنهم " حسنا " ولكن هيئته مختلفة تماما ، ففي وسطه وعلى صدره أجندة للرصاص وعلى كتفه بندقية وفى وسطه مسدس ، وعلى ثغره بسمة واعتداد ؛ اندهش الجميع و دهشت سعاد ولكن بان فى عينيها نظرة إعجاب وفخر بابن عمها وخطيبها وحبيبها ، وكل حواء تتمنى للرجل الذى يحب أن يكون محط الانظار وموضع الفخر والاطراء فى رجواته ، ولفرحتهم بعودته لم يسألوه عن سبب التغير فى مظهره الابعد لأي ؛ فأجاب : لقد اشتريت بندقية ومسدسا وأجندة للرصاص وإنى أود الالتحاق بالثوار ! !

ألقاها قنبلة فى البيت فاضطربوا جميعا ، وتساءلوا وسألوه : لماذا يريد الالتحاق بالثوار ؟ ألا ينعم بالسعادة ؟ ألا يريد أن يتزوج ؟ ولكن سعادته فى سعادة الامة والوطن ولن يتم له هناء إلا وعلم الحرية يرفرف فوق سماء قريته ، وإن تربة البلاد المقدسة لعطشى لدماء شهدائها لترتوي بها ؛ واخيرا سألوه : من أين لك النقود التي اشتريت بها سلاحك ؟ وقال بجرأة وايمان : بالنقود التى كانت مهرا لابنة عمى .

وقرب موعد الرحيل والالتحاق بالثوار فزاد قلق والديه وعمه وابنة عمه التى بدأ الأحمرار فى عينيها من أثر البكاء ، وكلما دنا الموعد ، زاد قلقها وقلق الاهل : ولكن ذلك كان يزيد فى قلبه الايمان والشجاعة وحب التضحية .

وأزف اليوم الموعود لرحيل " حسن " وكان جماعة من شباب البلد الثائرين قد عادوا لأهلهم فى إجازة ويريدون الرجوع فاتفق على الخروج معهم ؛ ووقف أهله امام البيت يودعونه وكلهم يبكون ويدعون له بالسلامة إلا " سعاد فقد كانت تشجعه ببسمة مشرقة ، كلها هيام واعجاب ، لتجعل منها زاد له فى غربته ، وودع أهله وقبل يدي والديه وعمه ، ووجناتهم ، ونظر الى سعاد نظرة هيام ، وكم تمنت لو كان وداعها له بقبلة ، تسكون لها ذكرى ، ولكنها التقاليد تحول دون ذلك ، ولكن بسمتها والجميع يبكون أكبرتها فى نظره وجعلته يفخر بها كما فخرت به

وهذا خير زاد لكليهما ، وبعد رحيله خانتها أعصابها فبكت ما شاء لها البكاء . .

واشتدت سطوة الثوار كما اشتد ضغط المستعمرين عليهم وخطر الجواسيس والخونة ، فما يكاد الثوار يدخلون قرية حتى يصل الخبر الى السلطات فتحاصرهم وتقتل من يقع فى يدها منهم وتشنق من يضيفهم وتحل الدمار ببيته واهله ومع ذلك لم تفتر همة أهل البلاد الكرام بل صار الكل يفخر بانه موضع ثقة الثائرين ، وانه نال شرف إيوائهم واطعامهم .

جلست سعاد فى أمسية من الاماسى حزينة تفكر فى خطيبها وما ينتظره من الاخطار ، وتتمنى رؤيته ، وتندب حظها ، فاحلامها الجميلة الان بعيدة عن التحقيق بقدر ما كانت قريبة ؛ وهي فى وجومها وافكارها واذا بجلبة وطرقات على الباب . وخرج والدها ليفتح الباب واذا بها تفاجأ بجمع من الثوار داخلين على البيت وبيت عمها ومعهم " حسن رحب بهم والدها وفرش المجلس فقد كانوا يريدون ماوى وما كلا بعد التعب والسهر الطويل والجوع الشديد ، فأكلوا مريئا واستراحوا ، ونام كل منهم بثيابه .

وخرجت سعاد لقضاء حاجة لها بعد الغروب ، وكانت دارهم فى طرف القرية وتشرف من عل ، على الطريق العام ، وإذا بها تلمح من بعيد أضواء سيارات وتسمع جلبة موتوسكيلات ، فقفزت الى ذهنها صورة الجنود الانكليز يهاجمون البيت ويذبحون الثوار ومعهم " حسن " فجن جنونها ورجعت تعدو وصاحت فيهم فأيقظتهم ، كان حسن فى بيت والديه ومعه جماعة من الثوار فهرعت اليه توقظه وتوقظ إخوانه وتعلمهم بالخبر فقاموا مسرعين واستعدوا للخروج ؛ وسنحت لحسن فرصة قصيرة ودع فيها سعاد وشد على يديها وقبلها فى جبينها قبلة جمعت الامتنان والحب والاخلاص وبكت هذه المرة وخرجوا مسرعين وتوغلوا فى الظلام من الجهة المضادة وغابوا ، فتنهدت مرتاحة ؛ ولم تمض عشرة دقائق إلا والسيارات قد دخلت القرية واتجهت صوب بيتي الاخوين وسمعت طرقاتهم العنيفة على الباب

وقد حاصروا البيتين ، واشتد بهم الغضب لما لم يجدوا أحدا ولكن الآثار كلها تدل على ان الثوار كانوا هناك ، فهذه بقايا الاكل الكثير وبعض الفراش وكان لم يرفع والفوضى وكثرة وقع الاقدام فى ساحة البيت فبيتوا فى نفوسهم أمرا .

اشتد بحسن الشوق إلى أهله وان كان صدره جياشا بحب القتال واستأذن . من قائده فى يوم يقضيه عند أهله ، وسار قبيل الغروب نحو القرية بين الجبال ، والشمس الغاربة فى وجهه تحيى بسالته ورجولته وتمنيه بسعادة لقاء الاهل والحبيب والنسيم يداعب وجهه فينتشى ، وقطع الطريق وهو فى عالم من الاحلام الجميلة اللذيذة عن وطنه ومستقبله وأهله ، واشرف على القرية وأطل من كثب عليها ، وعلى بيتى والديه . لم يصدق نظره أول الأمر ولكنها الحقيقة المرة ماثلة أمام عينيه ، لقد كان الغبار يملأ القرية والانقاض والخراب يرفرف عليها وقد حلا محل الهناء والوداعة فى ربوع هذه القرية ، ونظر الى بيت عمه ووالديه فإذا هما أثر بعد عين والى الحقول فإذا هي خراب مجدبة ، وإلى القرية فاذا هي كالاشلاء ، وعلا عواء متقطع من كلب يحتضر وزارت الريح ورقصت أشعة الشمس الملتهبة على خرائب القرية وأحرق هذا اللهب قلب الشاب ، إذا فقد انتقم الأنذال من أهله : من أبيه وأمه وعمه وحبيبته بل من القرية كلها فخربوها وخربوا حقولها ، وأحالوا نعيمها إلى جحيم ، ويل للكلاب سوف يأتيهم يوسهم . . ونظر الى الشمس الغاربة ، ورفع بصره إلى الأفق الدامى كأنه قطعة من كبد مسلول لفظها مرة واحدة ، وسقطت على خده الملتهب دمعة حارة . " لقد نسفت القرية صباح ذلك اليوم "

وكرحسن راجعا الى ميدان القتال ليستشهد ، ويلحق بغيره من الشهداء ، وتستمر الثورة ويلحق به غيره ، وكل ذلك فى سبيلك ايها الوطن الحبيب

عرعر - خط الانابيب

اشترك في نشرتنا البريدية