ان فى الانسان عدوا كامنا في نفسه يعكر عليه صفوه ويسلبه راحته ويقف حجر عثرة فى سبيل هنائه وسعادته الا وهو ) القلق ( .
ان الانسان الذي تمكن بعقله وذكائه من الوصول الى كثير من اسرار الكون وسخر وانما فى سبيل خدمته ورفاهيته ما زال عاجزا عن تفهم كنه هذا العقل والوقوف على بواطنه واسراره . والعقل للانسان كربان السفينة يديرها دائما الى بر السلامة والأمان فلو غفل عنها لارتطمت السفينة على شعاب الصخور او ذهبت بها الاعاصير والانواء الى الغرق والفناء وكذلك العقل اذا غفل عن قيادة صاحبه لتأثر بالانفعالات النفسية التى قد تؤدى به الى كثير من الامراض ومن اكبر تلك الانفعالات النفسية " القلق " .
وينشأ القلق بسبب صدمة لموت حبيب او وقوع كارثة او مرض مخوف ، او افلاس هذا اذا انزلت به مثل هذه النوائب بالفعل وقد ينشأ القلق من توقع وقوع مصيبة لما تقع ويقدر وقوعها وقد ينشأ القلق من التوافه التى ليس لها وزن بالمرة فاذا كان هناك عقل واع يتلقى الصدمات بالصبر والسلوان ويترك التفكير فيما يقدر وقوعه ويطرد الاوهام وصغائر الامور وسلم اموره لله وحده ويعلم انه مسير لا مخير فقد أمن لنفسه الصحة والعافية اما إذا لم يردعه عقله وتمشى مع خياله واوهامه فانه يفقد هناءه وسعادته وربما أدى به الى امراض خطيرة لا قبل له بتحملها والتخلص منها .
ويقرر اطباء علم النفس والاعصاب أن جميع الانفعالات النفسية لها اثر خطير على الصحة وتؤثر في الوظائف الفسيولوجية الجسم وانه يوجد فى كل جسم ضعف في ناحية من نواحي تكوينه فتتأثر تلك الناحية
قبل غيرها فيصاب الانسان بالارق او فقدان الشهية او قرحة بالمعدة او التهاب الاثنا عشري او السكر او ضغط الدم واخيرا قد يسلمه القلق والتفكير الى الخبل والجنون . .
ولقائل ان يقول ان سبل المعيشة اليوم قد تعددت مسئولياتها وكثرت تبعاتها وهي لا تعفى أى انسان من المهم والقلق والخوف من المستقبل . . وهذا صحيح الى حد ما ولكن يلزم الانسان ان يتغلب بعقله ويصد كل ما يخيفه ويقلقه وينغص عليه هناءه .
ويقول اطباء علم النفس والاعصاب :
ان التفكير المعقول يعالج بالاسباب والنتانج والتفكير اللامعقول يفضى الى التوتر والانهيار وعلى الانسان ان يواجه اسوا الفروض في محنته ويرضى مما ليس منه بد فعليك والحالة هذه ان تسأل نفسك وهو اسوا ما يمكن ان يحدث لك وهئ
نفسك لقبول اسوا الاحتمالات ثم اشرع في انقاذ ما يمكن انقاذه ثم لترض بالامر الواقع رضاءا بالقضاء والقدر وهذا ما اشارت اليه الآية الكريمة : ) الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ( .
يقول افلاطون ان اكثر اخطاء الإطباء انهم يحاولون علاج الجسد دون العقل فى حين ان العقل والجسد وجهان لشئ واحد فلا ينبغي ان يعالج احد الوجهين دون الآخر فيلزمنا ان نثق بالله وحده ونشكل عليه فى كل الامور ونؤمن بقوله تعالى : ) قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ولننظر الى الجانب البهيج من الحياة فنضحك لها ولنترك النظر الى الجانب القاتم منها فنبكى وحدنا . يقول الفيلسوف الاغريقي هرقليط من قبل خمسة آلاف من السنين : ) كل شئ يتغير الا قانون التغير فانك لا تهبط نهرا بعينه مرتين فالنهر يتغير كل ثانية وكذلك الرجل الذي يهبط الى الحياة فالحياة فى تغير دائم والشئ الاكيد فى هذه الحياة هو اللحظة التى نعيش فيها فلماذا نشوه جمال حياتنا بحمل هموم المستقبل الذي يخضع لقانون التغير ( .
وجاء القرآن الكريم فأجمل كل هذه المقالة فى جملتين فقط ) كل يوم هو فى شان ( . .
يقول الاستاذ بودلى فى كتابه ) رياح الصحراء والرسول ( ما خلاصته :
انه فى عام ١٩٣٨ يمم شطر افريقيا الشمالية الغربية١ حيث عاش مع الاعراب المسلمين فى الصحراء وقضى سبعة اعوام
بينهم اتقن خلالها لغة البلاد وارتدى زيهم وأكل طعامهم وعاش فى الخيام وتعمق فى دراسة الاسلام وألف كتابا عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم عنوانه ) الرسول ( وكانت تلك الاعوام امتع الاعوام وامتع سنى حياته واحفلها بالسلام والاطمئنان ( .
ومحل الشاهد قوله : ) تعلمت من عرب الصحراء كيف اتغلب على القلق فهم ) مسلمون ( يؤمنون بالقضاء والقدر وهذا الايمان ساعدهم على العيش فى امان واطمئنان انهم يؤمنون بأن ما قدر يكون وان الفرد لن يصيبه الا ما كتب الله عليه ( ويقول : ان الاعوام التى قضاها فى جنة الله ) الصحراء ( أقنعته بأن الملتاثين والمرضى النفسيين والسكريين الذين تحفل بهم اوروبا وامريكا ان هم الا ضحايا المدنية امتى تتخذ السرعة اساسا لها ولقد دلت الاحصائيات فى امريكا اخيرا بأن ثلث منيون امريكى قتلوا فى الحرب العالمية الثانية بينما قضى بداء القلب الذى نشأ من القلق مليون شخص وهناك علاج وظيفى يقول به علماء النفس وهو ان ينهمك الانسان فى عمل ما فاذا لم يكن لديه عمل وظيفى فعليه الاشتغال بالالعاب الرياضية كالصيد او الرسم او التجديف او لعب الكرة فان انشغاله بالعمل لا يسمح له بالتفكير فى قلقه وأحزانه يقولون ان تشرش سئل فى ابان الحرب العالمية عندما كان يشتغل ثمانية عشرة ساعة هل هو قلق من جراء المسئوليات الضخمة الملقاة على عاتقه ؟ فاجاب : ) انى مشغول جدا الى حد انه ليس لدى ، الوقت الكافى للقلق ( ويقول برنارشو الكاتب والفيلسوف الانكليزى : ان الاحساس بالتعاسة هو ان يتوفر لديك الوقت لتتساءل اسعيد انت ام
لا ؟ ويقول الدكتور كارل منجز الطبيب النفسي : ) ان القلق يجعل من اصلب الرجال عودا مريضا واهنا ( ويقول الدكتور الكسيس كاريل : ) ان رجال الاعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرين ( .
اصبت في اواخر السنة الماضية بشئ من القلق والضيق النفسى وكنت ازمعت ان امضى اوقاتى ما بين الصلوات فى الحرم النبوى وتلاوة القرآن والمطالعة والتحرير وبالفعل هيأت كتبا لهذا الغرض وما ان مر شهران على ، حتى احسست بضيق وقلق يساورنى كلما خلوت بنفسى وتراآت لى الاحلام المزعجة والرؤى الخبيثة واحسست بدنو الاجل حيث جاوزت الستين من العمر واصبحت لدى حساسية مرهفة بحيث أتأثر من وقع الجرس او دق مسمار وفي بعض الاحيان ابكى ، لأتفه الاسباب فكنت اسرى عني بتلاوة القرآن اجزاءا عن ظهر قلب واتجلد بالصبر والسكوت حتى لا تدرك ام عزيز ) قرينتى ( ما يعتورنى من القلق والضيق ولكنها اكتشفت اخيرا ما ألم بى فطفقت تسليني وتذكرني ما قاسيناه من الشدائد حينما كنا فى ضنك من العيش وافراد عائلتنا يزيد عن الاثنى عشر شخصا فكنا هانئين واليوم بفضل الله كبر الاولاد وتزوج من تزوج من الاخوات واكثر الاولاد . وبقى منهم اقل من النصف فى طريق اتمام دراستهم ولدينا من المال ما يستوعب مصرفنا والحمد لله ، فكنت اسمع منها كالمتبلد ثم ارجع لنفسى فأقرر بصحة ما تقوله لا سيما ما قاسته هى من اهوال شتى الامراض فأجريت لها اربع عمليات فى البطن كلها خطيرة فكانت تتحملها بصبر ورباطة جأش وانا ألم أكن
منهمكا فى عدة اعمال ذات مسئولية قبيل عشر سنوات ؟ فبينما انا كنت ادير معمل النسيج بالمدينة كنت اقف لدى المحاكم المباشرة قضايا المالية وغيرها فى الوقت نفسه اتخذت الفلاحة مهنة اتسلى به فى اوقات الفراغ وكثيرا ما كنت امشى فى حر الظهيرة الى بستان النصيرى راجلا فتشفق على ، ام عزيز فكنت ارى ذلك الشقاء سعادة وهناء ولم يسعني بعد هذا الا الاعتراف بأنى بطر واشر بنعمة الله سبحانه فأظل ابكى على السعادة التى اراها شقاء وتعاسة وكم كنت اترنم بقول ابن نباتة :
يا مشتكى الهم دعه وانتظر فرجا
ودار وقتك من حين الى حين
ولا تعاند اذا اصبحت فى كدر
فأنما انت من ماء ومن طين
واردد قول الشاعر :
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التى انت فيها
وكم تعوذت فى تلاوتى ودعائى بأدعية واردة فكان يخفف عنى بعض الشئ غير ان اليأس والخوف كان يتغلب على ويقلقني فى الوقت الذى يسرنى الشعر الرومانطيقي كدالية المتنبى
عيد بأية حال عدت يا عيد
وخاصة قوله :
يا ساقيي اخمر في كؤوسكما
ام فى كؤوسكما هم وتسهيد ؟
اصخرة انا ما لى لا تحركنى
هذى المدام ولا تلك الاغاريد
اذا وجدت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب القلب مفقود
ماذا لقيت من الدنيا واعجبه
اني بما انا باك منه محسود
وكانت احسن الساعات تلك الامسيات
التى اروح فيها مع جارى الحبيب القاضى فضيلة عبد المجيد حسن فى سيارته الى ضواحى المدينة فنقضى ما يقرب من ساعتين فى احتساء الشاى والمسامرة فكان يسلينى ويصف لى آيات لاعادة الطمأنينة والسكينة وهناك بعض القريبات زعمت انى مصاب بعين واحضرت لى بعض التعاويذ فاشترطت ان تكون من القرآن فكانت سورة الفاتحة مكتوبة على صحون الصينى وموضوع العين والحسد والسحر ثابت بالقرآن فى سورتى ) الفلق ( و " الناس " كما ان القلق والوسوسة ثابتة فى سورة الناس ايضا
لا اطيل عليك قارئى العزيز فان حالتى لم تعد لحالتها الطبيعية فعرضت نفسى على الاطباء فاكتشفوا ضعفا فى الاعصاب ووصفوا لى دواء مقويا فقط واخيرا نصبت من نفسى خصما استجوبه ما هى اسباب هذا القلق والضيق فكانت الاجابة كما يلى :
١ - أيها الكهل انك مع قرينتك اصبحت سجينا فى شقة بعد ان كنت كثيرا بعيالك فى بيت مستقل
٢ - الم تتجاوز ايها الشيخ الستين من العمر فتتصور شبح الموت يدنو اليك
٣ - انك وكيل قصار وغيب من ذوى القربى فماذا عملت لأجل مصلحتهم
٤ - ماذا قدمت لآخرتك من اعمال صالحة وانت مثقل بالذنوب والاثام
٥ - ان هذه الصلوات والتسابيح والتلاوة ان هى الا كالروتين كالآلة الصماء بدون خشوع او حضور قلب ولذا فأنت قلق حزين .
صح ان هذه الافكار كانت تسبب لى القلق فعملت جاعدا فيما يمكن لى عمله وذلك بأن قررت السفر الى الاولاد والرجوع
بولدنا الصغير عبد السلام وترك اخيه الاوسط ) طالب بكلية الهندسة ( ضمن البعثة السعودية اما كريمتاى فسوف ازفهما زوجهما ما دام قد جرى عقدهما فى العام الماضى اما ما يساورني من قرب الاجل فان الآجال معدودة ) فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( وسأعمل لمصلحة القصار والغياب بما فيه مصلحتهم وبالفعل وفقت لأنماء مال القصر ٢٥ % ودار وقف الغيب ابدلتها بعقار يغل ثلاثة اضعاف غلته الحالية . ) ١ (
اها ما قدمته من صالح الاعمال فالله به عليم وسوف أقدم النور امامي بقدر امكانى واعتمادى على رحمة ربى التى وسعت كل شىء اما موضوع العبادات فهى فتنة عامة وان كان المسلمون الى خير ويوم نعمل بالحديث : ) الاحسان هو ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فأنه يراك ( فسوف ندخل الجنة سلاما بسلام .
وها انا جئت للقاهرة وكان من اثر القلق ان ترك عندى ضغطا فى الدم وضعفا فى الاعصاب فعولجت ولله الحمد وانا فى طريقى للعودة الى الوطن مصحوبا بابنى الصغير ولا انسى ما لمصر من الذكريات الطيبة وما لعلمائها من الفضل فى تثقيف اولادى الخمسة ونهلهم من مناهل العلم فى مدارسها وجامعاتها الكبرى
