الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

الكتاب :، نشأتها وانواعها

Share

شعر الانسان منذ عصور تنغمس أطرافها فيما قبل التاريخ بحاجة ملحة الى مخاطبة الغير عند غيابه فاستخدم الاشياء رموزا تعرب عما يخالج نفسه فكانت الكتابة . فهى اذن أى الكتابة وسيلة تمكننا من تجميد الكلام المنطوق وتثبيته لانه مطبوع على الزوال السريع . فالكتابة تمدد فى عمر الكلام وتحتفظ بكيانه ولقد مرت بمراحل عديدة . فالانسان البدائى كان يتكلم ويكتب غير أنه لا وجود لصلة مادية ملموسة تربط بين كلامه وكتابته .

كانت القبائل القاطنة بجزر المالزى تضع أمام الحقول أشياء تعنى الوعيد لمن يريد دخول تلك الحقول خلسة على أن الاشياء المعربة عن الوعيد لا يربطها شىء بذلك الوعيد من حيث الاسم والصوت بل اتفق القوم على أن ترمز القرعة الى مرض ما يصيب السارق . تلك هى المرحلة الاولى التى خطتها الكتابة منذ ما قبل التاريخ . وهي تتميز بالشقة التى تفصل بين الكلام والكتابة من حيث الصورة والصوت . فصورة القرعة لا تشير رأسا الى مرض معين عند الماليزيين . ولا صلة بين اسم القرعة عندهم وبين اسم المرض الذى ترمز اليه القرعة لا صلة بينهما من حيث الصوت . فهاته المرحلة الاولى بدائية عويصة فقيرة الامكانيات لتفوق عالم الافكار على عالم المادة من حيث الابعاد والتشعب . فمن العسير على مادة جامدة محدودة أن تفصح عن أفكار الانسان جميعها وتعرب عما يخالج نفسه من شعور وعواطف مع كثرة خلاياها وتعدد ألوانها تلك الخلايا والالوان التى تتجاوز طاقة الكلام نفسه .

لقد شعر الانسان البدائى بضعف وسائل الكتابة لديه فبات يسعى الى تحسينها : كان الشىء الواحد يرمز الى فكرة واحدة أو قل يحتوى على معنى واحد فصارت له بعد تجارب عديدة مدلولات مختلفة حسب الموقع والاتجاه فان مر صياد بمكان وأراد أن يترك رسالة مخطوطة الى صياد آخر استطاع مخاطبته بواسطة سهم من سهامه : يضع السهم فى الطريق فتكون الرسالة أما فحوى تلك الرسالة فيختلف حسب مكان السهم واتجاهه . فان كان مطروحا على الارض مثلا كان له معنى خاص واذا كان مرشوقا فيها أو معلقا على شجرة ، تغير فحوى الرسالة .

وتمادى الانسان يخطو الخطوة تلو الاخرى فى هذا الميدان حتى ترك الاشياء وبات يفصح عن أفكاره وعواطفه بواسطة علامات بسيطة كالعقد والفريضات والصور . فاذا أراد سكان جزيرة سومترا اعلان الحرب على عدو

لهم ارسلوا اليه مسعارا عليه فريضات منحوتة . أما الفريضات فهي ترمز الى عدد الجنود . ونار المسعار تشير الى فوز قبائل سومترا كما تشير الى الحريق الدى سيضرم فى أرض العدو . والعقد قد استعملت خاصة لكتابه الارقام وقد لوحظ ذلك عند شعوب كثيرة منها قبائل امريكا الجنوبية . وجاء فى كتب القدماء أن الذين كلفتهم روما يجلب الضرائب في فلسطين كانوا يستخدمون حبلا طويلا . وكلما دفع رجل معلوم ضرائبه تسلمه السلطة قطعة من الحبل المذكور فيها عقد تعبر عن مبلغ الضرائب ولعلها تشير أيضا الى نوعها . ونلمس ذلك - أى استعمال العقد لضبط العمليات الحسابية - فى لغه العرب : " فالعقود " من الاعداد أولها العشرة فالعشرون والثلاثون وآخرها التسعون " . ويقال عقد الحاسب أى حسب ويقال العقد الاول من القرن العشرين أى السنوات العشر الاولى من هذا القرن كل ذلك ينبئنا باستخدام العقد كوسيلة حسابية عند العرب فى القديم ونظرا لقيمة الارقام فى دنيا السحر والسحرة ترى العقد ترتدى ثوبا سحريا وتغدو من أعظم وأنجح أدوات السحرة حتى جاء فى سورة الفلق :

قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقت ومن شر النفاثات فى العقد " وجاء فى تفاسير القرآن أن المراد بالنفاثات الساحرات اذ كن يعقدن العقد ويتفلن فيها لينعقد السحر . ويبدو أن العقد دخلت دنيا السحر عن طريق الارقام . دخلته لانها كانت تستخدم لكتابة الارقام والرقم يحتوى على قوة سحرية أقرتها الشعوب القديمة منذ العصور السحيقة وما زلنا نلمس أثرها فى حياتنا اليومية . فمن منا يجهل القيمة التى يكنها رقم " خمسه " تراه يحتوى على قوة عظيمة حتى يتحاشى بعضهم نطق الكلمة وان تلفط بها عفوا أسرع بالتماس المعذرة مبينا بطريقة ملتوية أنه لا يريد استخدام الرقم لهدف سحرى . والحديث فى ميدان الارقام قد يطول بنا ونحن نريده بحثا حول الكتابة .

كانت العقد اذن تستخدم لتسطير الكلام المنطوق غير أن صور الاشياء كانت اكثر استعمالا فى هذا الحقل وعرفت انتشارا كبيرا عند الكثير من الشعوب القديمة فكانت الكتابة " التصويرية " وهي حاصلة مجهودات كبيرة قامت بها القبائل البشرية منذ غابر العصور . كانت الصورة بادىء ذى بدء يشير الى جمله كاملة أو الى عدد من الجمل المتشعبة . فكانت الصورة إذ ذاك تلهم بالمعنى ولا تقرأ . ففى هاته المرحلة من الكتابة التصويرية لا يقع تفكيك الجملة الى عناصرها الاولية اى الكلمات . بل ترى الصورة الواحدة تستخدم لكتابة جملة كاملة مهما تعددت كلماتها . وفى المرحلة الثانية من الكتابة التصورية تمكن الانسان من تحليل الجملة وتفكيكها الى عناصرها الاولية فأصبحت الصورة تعبر عن كلمة واحدة وكتابة الجملة تستوجب صورا عديدة ولم تصل شعوب ما قبل التاريخ الى هاته المرحلة الحاسمة . ولا شك أن تلك الصور قد اقتبس غالبها من عالم الاشياء والاحياء الملموسة . والى هذا النوع من الكتابات التصويرية تعود كتابة المصريين القدامى المعروفة باليورغليفية . ويقول

الاستاذ جامس فيفريى ( James Février) " إن العلامات اليورغليفية لا شىء سوى صور تحكى باخلاص ودقة الاشياء التى تعبر عنها " . فان أرادوا الحديث عن شيخ رسموا رجلا مقوس الظهر يتكى على عصا طويلة . هذا فيما يتعلق بالعالم المحسوس ولا يخفى علينا وجود كلمات تعبر عن معان مجردة ليست لها صور فى الامكان استخدامها للتعبير عنها كتابيا . عند ذلك تراهم يلجؤون الى كلام الحركات ويقتبسون منه صورا تدل أو ترمز الى تلك المعانى المجردة كالصداقة مثلا وتعبر عنها الكتابة الصينية وهى من النوع التصويرى بصورة يدين مبسوطتين " . فالكتابة التصويرية اذا تقتبس علاماتها من صور الاشياء الملموسة ومن الحركات التى تعبر عن بعض المعانى المجردة .

ولئن كان غالب الصور فى الكتابة التصويرية يحكى الاشياء أو الاحياء ومنها ما يعبر عن المعانى المجردة كالصداقة والصلاة الى غير ذلك ، فالبعض يرتدى قيمة صوتية بحتة . يمثل بعضها حروف الربط بين عناصر الجملة ويعبر بعضها عن التغييرات التى تطرأ على مختلف الكلمات بمقتضى قواعد الاعراب فان كانت الكلمة فاعلا كان لها لون خاص بتلك الوظيفة وان أصبحت مفعولا به تغير شكلها أى تظهر الصورة فى مظهر جديد باضافة علامة أو حذف أخرى . من ذلك نتبين أن الكتابة التصويرية تحتوى على بعض العناصر الصوتية . ذلك ما نلمسه جيدا فى الكتابة المصرية ولعلها من أشهر الكتابات التصويرية وهذه تعرف كما أسلفناه باليورغليفية وقد ركبت هذه اللفظة من مادتين يونانيتين : تحتوى الاولى على معنى القداسة والثانية على معنى النحت فالكتابة اليورغليفية هى الكتابة المقدسة المنحوتة قالوا كتابة مقدسة لان غالب النصوص التى سطرت بواسطة هاته العلامات لها علاقة متينة بالآلهة والموتى وقالوا منحوتة لانها كانت تنحت على الحجارة أو ترسم على جدران المعابد والاضرحة .

وكانت النصوص اليورغليفية تكتب حسب اتجاهات مختلفة فتارة يكتبونها من الاعلى الى الاسفل وطورا من اليمين الى الشمال كما هو الشأن فى الكتابة العربية . وتارة اخرى يكتبونها من الشمال الى اليمين شأن الكتابات الاوربية مثلا . ولكن كيف يتبين القارىء ذلك الاتجاه ؟ إن اتجاه العلامات اليورغليفية يختلف حسب الاتجاه فى الكتابة . فترى الصور التى تمثل الانسان أو الحيوان متجهة نحو بداية . فان كان الحيوان مثلا ينظر نحو اليسار عرف القارىء أن النص كتب من اليسار الى اليمين .

جهد منذ قديم فى حل الكتابة اليورغليفية ثلة من العلماء لكن الفضل فى ذلك يعود خاصة الى الفرنسى شامبوليون حيث تمكن من قراءة النصوص اليورغليفية وفهمها على ضوء نصوص مسطرة على حجرة عثر عليها بمدينة رشيد . إنه فى الحقيقة نص واحد كتب بلغة الفراعنة وترجم الى اللغة

اليونانية . أما حجرة رشيد فهى توجد حاليا فى متحف البريتيش بلندن : فالترجمة اليونانية كانت يسيرة الفهم وهى التى عرفت بفحوى النص اليورغليفى . فوجد إذن شامبوليون أمام نص يورغليفى معروف المحتوى وهو يتضمن أمرا أصدره مجمع الكهنة المصريين فى السابع والعشرين من شهر مارس 196 قبل الميلاد اجلالا وتقديرا للملك بطليموس الخامس . قارن شامبوليون بين ما بقى من النص اليورغليفى والنص اليونانى فلاحظ أن علامات النص اليورغليفى تفوق عدد كلمات النص اليونانى من ذلك استنتج العالم الفرنسى أن علامات النص اليورغليفي لا تمثل جميعها كلمات معينة بل غالبها يمثل حروفا أى أصواتا مجردة تساعد على ربط الجمل كما تساعد على النطق أحيانا .

انكب شامبوليون على حجرة رشيد قصد العثور على مفاتيح اللغة الفرعونية وتمكن بادىء ذى بدىء من قراءة الاعلام منها اسم بطليموس واسم الملكة كليوبترا وكان يعلم مسبقا أن الاعلام كانت في النصوص اليورغليفية  توضع فى خراطيش وهى نتيجة وصل اليها من سبقه فى البحث عن سير الكتابة الفرعونية وبقراءة تلك الاعلام استطاع ضبط بعض العلامات الحرفية الصوتية . ثم أخذ يبحث فى النص اليورغليفي عن الكلمات المصرية المكتوبة بعلامات صوتية بحتة وبعد العثور عليها وقراءتها تمكن من معرفة مدلولها بواسطة لغة الاقباط وهي أى لغة الاقباط وليدة اللغة الفرعونية القديمة . هكذا كان شامبوليون يخطو الخطوة تلو الاخرى حتى ولج النور عالم الفراعنة وأصبحنا أدرى به من هيرودوتا وغيره من القدماء .

وفى العصر الذى كان الفراعنة يدونون تاريخهم وعقائدهم وكل ما يخالج أنفسهم بواسطة الكتابة التصويرية اليورغليفية كانت الشعوب القاطنة فى وادى الرافدين تسجل أيامها بواسطة كتابة تختلف عن التى رأينا وقد أدهشت العلماء منذ قديم وأعجزتهم زمنا طويلا وعرفت تلك الكتابة بالمسمارية لان علاماتها تشبه صور المسامير . وقد نشأت كما أسلفنا فى وادى الرافدين ويعود الفضل فى ابتداعها الى أهل سومر وكانت مدنهم شامخة بقصورها ومعابدها فى المنطقة الجنوبية من بلاد ما بين النهرين ومن أشهر تلك المدن السومارية مدينة أود ومنها خرج ابراهيم الخليل متجها نحو الاقطار السامية . ابتدع السوماريون هاته الكتابة لكنها سرعان ما انتشرت فى المدن البابلية والاشورية .

وتختلف الكتابة المسمارية عن الكتابة التصويرية المصرية مثلا اختلافا جذريا اذ هى كتابة صوتية هجائية . قلنا صوتية لان علاماتها ليست صورا تمثل أشياء أو ترمز الى معان معينة بل هى مجرد أصوات تلك التى تلفظ عند التلفظ بالكلمات . وقلنا هجائية لان العلامة تمثل حرفا بحركته أو إذا شئت مقطعا من مقاطع الكلمة . فلو أخذنا كلمة " كتب " رأينا أنها تتركب

من المقاطع التالية : " ك - ت - ب " وكلمة جالس تتركب أيضا من ثلاثة مقاطع وهي : " جا - ل - س " . وفى الكتابة المسمارية علامة لكل مقطع من مقاطع اللغة . فلمقطع " ك " علامة تختلف عن العلامة التى تمثل مقطع " ك " ولذلك سميت هاته الكتابة " هجائية " .

والكتابة الهجائية تشكل تقدما محسوسا فى ميدان الكتابة عامة ذلك أن علامات الكتابة الهجائية أقل عددا من علامات الكتابة التصويرية حتى أصبح من اليسير نسبيا تلقين الكتابة وبذلك ينتشر العلم وتنمو الثقافة . أما اذا أردنا معرفة وجه الاختلاف بين الكتابة التصويرية والكتابة الهجائية رأينا أن الكتابة الهجائية نتيجة عمل تحليلى للكلام . لقد أخذوا الكلمة وحللوها إلى مركباتها الصوتية الكبرى أى الى مقاطعها وأعطوا لكل مقطع علامة حتى أن الكلمة الواحدة أصبحت تكتب بواسطة علامات كثيرة لكنها سهلة الحفظ والتلقين اذ تجد نفس العلامة فى كثير من الكلمات . فبواسطة عدد محدود من العلامات تستطيع قراءة عدد كبير من الكلمات . ذلك أن القارىء يجد علامة " ك " فى كثير من العناصر - كتب - كتب - كراس - كوب - كرة وغيرها كثير .

بقيت الكتابة المسمارية الهجائية فى صناديق سوداء مدة قرون طوال ولم يستطع القدماء ولوج ذلك العالم العجيب . وانكب علماء العهد الحديث والعهد المعاصر على كتابة سومر وبابل وأشور قصد قراءتها وفك أسرارها . ولا شك أن المنهاج الذى خطه شامبوليون لحل الكتابات المجهولة الغابرة كان مصباحا ينير طريقهم للعثور على مفاتيح الحضارات الشرقية العتيقة ولئن قرئت وفهمت النصوص المسمارية فذلك بفضل المجهود الجبار الذى قام به ثلة من العلماء تمكنوا من قراءة المسامير على ضوء نصوص مترجمة مقتدين فى ذلك بالطريقة التى توخاها شامبوليون من قبلهم .

على أن الكتابة بما يتضمنه هذا اللفظ من علم وثقافة بقيت وقفا على أقلية ممتازة الى يوم ابتداع الكتابة الحرفية الابجدية ويعود الفضل فى ذلك الى الفنيقيين . شهد به القدماء واثبتته الحفريات الاثرية . أما القدماء فنذكر ما جاء فى كتب المؤرخ اليونانى هيرودوتا حيث يقول : " أقبل الفنيقيون الى اليونان صحبة قدموس ( Cadmus ) وأقاموا فى البلاد وأدخلوا عليها أشياء كثيرة من ميادين العلم والمعرفة من بينها الحروف . ولم تكن حسب ما يبدو لى معروضة لدى اليونانيين من قبل " وتحدث شاعر رومانى يدعى لوكان ( Lucain ) - عاش فى القرن الاول بعد المسيح - تحدث عن الكتابة الحرفية الابجدية قائلا : " إن الفنيقيين هم الذين ابتدعوا صورا بسيطة لرسم الاصوات " .

ثم أتت الحفريات بشواهد تثبت أقوال القدماء . وذلك أن خرائب المدن الفنيقية هى التى مدتنا بأعتق النقائش المسطورة بكتابات حرفية أبجدية

والكتابة الابجدية هى كتابة صوتية وتشبه فى هذا الكتابة الهجائية لكنها تفوقها من حيث التحليل . رأينا فيما يتعلق بالكتابة الهجائية أنها نتيجة تحليل الكلمة الى مختلف مقاطيعها ورسم كل مقطع صوتى بعلامة خاصة . ولئن قلنا إن الكتابة الابجدية تفوق الهجائية تحليلا ذلك أن مبتدعى الكتابة الابجديه لم يكتفوا بتفكيك الكلمة الى مقاطعها بل تعمقوا فى التفكيك والتحليل حتى فرقوا الحرف عن حركته وهى المرحلة الاقصى فى التحليل إذ تمكن الوصول الى أجزاء لا تتجزأ . نحن الآن نستخدم الحروف لكتابة رسائلنا ومقالاتنا ولعل حركة الكتابة تبدو لنا يسيرة بديهية لكنها فى الحقيقة نتيجة عمل جبار وتفكير علمى صحيح حيث تمكن الفنيقى من النظر الى مشكل الكتابة نظرة جوهرية نظرة العالم الباحث الى كنه الامور ذلك الذى ببدأ بالوقوف على المشاكل وتحليلها الى عدة أسئلة أو مشاكل جزئية تطرح على بساط البحث ثم يتناولها الواحدة تلو الاخرى ويجتهد فى العثور على أسرارها وحلولها . تلك هى خصائص العبقرية العلمية وقد تحلى بها الفنيقيون منذ قديم .

وتنقسم الكتابة الابجدية عند الفنيقيين الى نوعين : أولهما نجده فى ألواح رأس الشمرة وهى مدينة فنيقية تعرف باسم أغاريت Agarit . وقد سقطت تحت ضربات الشعوب البحرية فى متوفى الالف الثانية قبل المسيح ولم يعثر على بقاياها الا فى خلال سنة 1929 حيث كلف الاستاذ كلود شيفار Claude Schaeffer بازاحة التراب عنها واخراج معالمها الى أشعة الشمس . وجد المنقبون قصر المدينة وفى غرفة من غرف القصر عثروا على مجموعة من ألواح طفلية رسمت عليها كتابة مسمارية لكنها تختلف عن التى رأيناها فى وادى الرافدين حيث أن العلامة فى كتابة أوغاريت تمثل الحرف دون أى حركة مضبوطة أى أنها تمثل صوتا مرمرما إن صح هذا التعبير وذلك كما أسلفناه نتيجة عمل تحليلى حتى عزل الحرف عند حركته . وأول من عثر على مفاتيح هاته الكتابة هو الالمانى هانس بوير Hans Bauer سنة 1930 .

أما النوع الثانى من الكتابة الفنيقية وهو الذى نجده ابتداء من الالف الاولى قبل المسيح فى غالب المدن الفنيقية كصور وجبيل وصيدا وهى الكتابة التى نجدها أيضا فى المدن البونيقية كقرطاج وحضرموت وغيرهما على سواحل غربى البحر الابيض المتوسط . عرفت هاته الكتابة منذ قديم ناهيك أن العلماء قد توصلوا الى قراءتها وفهمها منذ القرن الثامن عشر . ومن بين الذين ساهموا مساهمة فعالة فى العثور على مفاتيح هاته الكتابة الفنيقية وفهمها يجدر بنا أن نذكر القس الفرنسى بارلليمى (Barthélymé) : عثر فى خرائب جزيرة مالطة وقد استوطنها الفنيقيون خلال الالف الاولى قيل المسيح - عثر بها على نصبين يعودان الى القرن الثانى قبل المسيح وعلى كليهما نقيشة فنيقية تصحبها ترجمتها باليونانية . فاستنادا على الترجمة

اليونانية وبالرجوع الى اللغة العبرية تيسرت قراءة النص الفنيقى وكان ضبط الحروف الفنيقية .

فيبدو لنا بعد هذا الدرس والتحليل أن الكتابة أنواع ثلاثة : الكتابة التصويرية والعلامة فيها تمثل صورة المعنى بالحديث . من الاحياء كان أو من الاشياء الجامدة أو من المعانى المجردة . ولئن كانت الصور التى رسمتها قبائل بدائية لها معان تشبه الكتابة من حيث المبدأ فلقد ظهرت الكتابة الحق عندما حلل الانسان الكلام الى عناصر وضبط صورة لكل عنصر منها . وفى الكتابة التصويرية وقع تحليل بدائى سطحى وازداد ذلك التحليل عمقا فى الكتابة الهجائية حيث وقع تفكيك الكلمة نفسها الى مقاطعها الاولية وكانت المرحلة الحاسمة بتفكيك المقاطع تلك العملية التى تولدت عنها الكتابة الحرفية الابحدية . وهي من أكبر الخطوات التى خطتها البشرية فى صعيد التقدم العلمى وتنمية الثقافة ونشرها بين المجموعة البشرية وهل يمكن أن نتحدث عن الكتابة الابجدية دون أن نذكر أن الكتابات الابجدية المعروفة على وجه الارض قد اقتبست جميعها من الاحرف الفنيقية !

اشترك في نشرتنا البريدية