هذا نص المحاضرة التى القاها المستشرق الكبير ريجيس بلاشير بتونس فى شهر نوفمبر عني بنقلها الدكتور محمد فريد غازى
انها مشكلة صعبة هذه التى سأحدثكم عنها هذا المساء وسوف لا اتحدث عنها الا من الخارج ولكن مع الرغبة فى الولوج الى الداخل ، مع انى ادرك ادراكا بينا اننى لن اتوصل الى ذلك وصولا كاملا
وعلى اولا ان ابرر اختيار عنوان محاضرتى . ولهذا يجب علينا ان نحدد ما نعنى ب " العربية الفصيحة لغة اعتزاز " والتي سننظر اليها باعين اللغويين لا لان غير هذه النظرة تدخل البلبلة ، بين " لغة الحضارة " و " لغة الثقافة و " لغة الاعتزاز " . انها لمعان متشعبة متشابكة بينها تتحد فى بعض المعاني ولكنها لا تملك نفس المعنى . ولنضرب امثلة : حتى تفهمون معنى هاته الكلمات مثل اللغة الارمية التى كانت " لغة حضارة " ولكنها لم تكن لا لغة اعتزاز ، ولا الغة ثقافة . لقد كانت آلة مرنة حاملة الحضارة .
واما مثل لغة الثقافة : فمثل الفرنسية ، والالمانية ، والايطالية ، ولكن ليست هاته اللغات بلغات اعتزاز واما لغة الاعتزاز : فمثلها مثل اللغة اليونانية في العالم القديم ، واللاتينية ، والصينية ، والفرنسية فى ازهى ايامها اى فى القرن الثامن عشر وفى مطلع القرن التاسع عشر
تحديد معنى لغة الاعتزاز
لا ينطبق هذا المعنى على اللغة العربية كلها ، ولكن على اللغة المكتوبة عن اللغة التى يذيعها الراديو ، عن لغة الصحافة ، عن لغة المنابر الادبية . انها لغه القرآن ، التى تتعارض وتتناقض مع العربية العامية - العامية تلك اللهجة التى لا تخلو من القيمة ومن الانسانية ولكنها ليست بالمرة لغة اعتزاز
واني لاصرح ان لغة الاعتزاز هذه ، هى العربية الفصيحة . واقول العربية الفصيحة عوضا عن العربية الادبية ، اقول الفصيحة عوضا عن الكلاسيكية اقول الفصيحة عوضا عن العصرية لان هاته المعانى لا تشمل الا جزءا من تطو اللغة العربية اما فى ماضيها واما فى حاضرها 415 15
العربية ، لغة اعتزاز فى تطورها التاريخي
الاسباب التى دعتنا الى ان نختار هذا الاسم متعددة ، متشعبة ، يكمل بعضها بعضا ويدعو بعضها بعضا .
- لقد طبعت اللغة العربية ، وهي ماتزال فى مهدها ، بطابع العزه . لقد كانت لغة تفاهم ، او ما يسمونه " الكويني " koine اي باللغة المشتر كة ولا اقول " لغة تفاهم عادية " لانها كانت لغة جميلة Langua Franca نبيلة ، يستعملها الشعراء للتعبير العاطفى جميلة ويباعثة في النفس احساسا بالجمال وهاته " اللغة المشركة " نجدها مستعملة من القرن ال 3 الى القرن ال 6 فى الجزيرة العربية وخاصة فى اراضى نجد . " لغة مشتركة " تبنتها كل قبائل الجزيرة وهى تظهر لك دون قناع ، وتجدها فى اقوى واجمل مظاهرها فى خطب " الخطباء " وان كانت تلك الخطب نصوصا لا اثق كثيرا بصحتها .
ب - ظهور الاسلام . الحدث القرانى
هذه اللغة الجميلة سيدخل عليها الاسلام روحا دينيا ويرتفع بها الى مكانة اسمى من التى كانت لها قبل . فتصبح - لاكما كانت لغة شعرية ترن بالجمال ولكن لغة الوحى المقدس
نحن الآن امام الحدث القرآنى ، الذى امتدت آلاؤه فى جميع ميادين الحياة الاسلامية ، وصبغت الوانه جميع مظاهر المجتمع الاسلامي
ومنذ ظهر الاسلام ، لم تعد اللغة العربية آلة عادية للكلام وللتخاطب ولا لغة انسانية محضة بل شيئا آخر . نعم لن نفهم جوهر اللغة العربية وكيانها بل لن نستطيع لها فهما ان نحن اهملنا اهمية هذا الحدث القرآني هذا الحدث الذي بفضله تجاوزت اللغة حدود الانسانية المحضة .
وتفسير هذا الحدث يعود فى حقيقته الى علم الاجتماع الجماعي ، وعلم التاريخ الدينى لانه جعل اللغة ، فى اعين متكلميها انفسهم حدثا سماويا ومنذ اذ لبست اللغة العربية حلة مقدسة وتاجا من العزة لا تملكه اللغات الهندية الارية فالذين كانوا يتكلمون بالعربية ، احسوا فى قرارة نفوسهم بهذا العامل الالهى . انهم يتكلمون " بلسان عربى مبين " ومعنى مبين ليس في رأيي لغة بينه ، ولكن معناه : اللغة التى تعطى الفكر كل قيمته والتى تخرج الباطن الى اجمل نور والمع ضياء . ولقد تطورت هذه اللغة حتى اصبحت ظاهرة هالية epiphenomeneوانتهى بها التطور الى ان اصبحت فى نظر الذين يتكلمونها علما فى ذاته .
ج - الدراسات فى اللغة وفقه اللغة
واكبر غلطة نرتكبها نحن الغربيين هى تجريد العربية من هذا الاعتزاز ترى الم يحب العرب لغتهم محبة تشبه العبادة ، حتى ان اجيالا متواصلة من فقهاء اللغة ، واصحاب اللغة والنحو ، كرسوا حياتهم فى سبيل العربية ولقد فكروا جميعا ان العربية حرية بوجود علوم نحوية ، وصرفية ، ولغوية تتعرض لبحث كنوزها . فراينا عند ذاك زهورا يانعة وبكثرة هائلة ، تفتحت في كل البلدان العربية . ولكن هذه الكثرة كانت تخفى اخطارا جسيمة اهمها ان العلماء لم يعودوا قادرين على ادراك البذور الحية الموجودة فى العربية ولا النزعات الحية التى كانت تعمل فيها ، ولا ان العربية كائن حى يتحرك و ينبض حياة وهو خطر جسيم جابهته اللغة واللغويون . ولكن عواقبه ل تكن حميدة فى غالب الاحيان
وانت تدرك من الخصومات التى ثارت حول اللغة ، ومن المعارك الطاحنة بين المدارس ، مقدار المحبة التى كان يحملها علماء العربية للغة الضاد . وكل البحوث ، وكل الدراسات ، وكل المعارك وكل الخصومات وكل الردود تعود الى مصدر واحد هى رغبة العلماء فى فهم العربية ، والدخول الى قصرها المسحور لان العربية لم تكن عندهم وظيفة انسانية ، انها لغة الوحى
ومن القرن الثاني الى القرن العشرين ، هيمن النحو واصحاب النحو . لقد ادركنا هذا الصباح وانا اتحدث مع جماعة من الاساتذة ، هذه الحقيقة فرجونا ان نرى دراسات اكثر في علم اللغة ، ودراسات اقل فى النحو ومهما يكن من امر فلقد توجت هاته الدراسات النحوية والصرفية اللغة العربية بتاج من العزة وادى هذا المجهود ، فى مقدار واسع ، الى استمرار الدراسات العلمية التى تدور حول العربية
د - لغة الاعتزاز : لغة الادب
ولغة الاعتزاز هي قبل كل شئ لغة ادبية . ونستطيع بل واجبنا ان نتحدث عن الآثار والروائع الادبية ، وعن مدى مقدار تمثيلها لافكار المؤلفين خاصة اولئك الذين يثير اسمهم في اذهاننا معنى العزة والافتخار بروائعهم 1 - الشعر افكر اولا في الشعراء . لافي شعراء القرن السادس شعراء العرب في الجاهلية ولكن فى شعراء العصر الاموى : فى جرير ، والفرزدق والاخطل ، وجماعتهم
ولا يقف فكرى عند هؤلاء بل يتعداهم متخطيا نحو ابن الرومى ، والمتنبى ، والمعرى ، وأراه يذهب الى شوقى . . هؤلاء رجال وشعراء حملوا ، على اختلاف بيئاتهم ونزعاتهم ، كل على حدة ، وجميعا الى اللغة مؤلفاتهم انها احجار فى صرح اللغة العربية الشامخ
2 - النثر - مقالة ( اصول النثر العربى ) التى كتبها ويليام مارسي ، قد بينت لنا مكانة اللغة العربية وتطورها فى هذه المرحلة . فراينا ان العربية ، لم تثمر - ان استثنينا القرآن - ولم تنجب مؤلفات انسانية رائعة طيلة قرن كامل . ولكنها لم تدم على هذه الحالة طويلا حتى اصبحت اداة مرنة للفكر ويتبادر الى ذهنى كتاب كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع الذي اتحفنا اخيرا بدراسه قيمه عنه ، وبترجمة فرنسية كذلك اخرجت ما فيه من انسانية ومن حيوية ، ومن ذوق . ولكن كليلة ودمنة ظهر يقرن او اكثر بعد القران وتتبادر الى ذهنى كذلك مؤلفات الجاحظ ، وابن قتيبة ، والغزالي . تلك المؤلفات التى تعرفونها حق المعرفة . وهذا التعداد ، يمكننا من فهم هذا الاعتزاز سواء فى ميدان الادب او فى ميدان الفلسفة ، او الكلام والفقه . . ولنذكر الاطباء ، ولنذكر كذلك اصحاب الصنعة فمؤلفاتهم - وان كانت احيانا متلعثمه اللغة ، متعثرة الخطى ، فهى فى اغلبها تشعرك ان العربية اصحت لغة حضارية عالمية باتم معنى الكلمة .
2 - العوامل العاطفية فى تطور اللغة العربية كلغة اعتزاز
1- ان العوامل التاريخية التى تعرضنا لها ، لو تعمقنا فيها هي عوامل عاطفية . فلو كنت عربيا لكنت بالطبع فخورا بهذه اللغة العربية . وهذا المفهوم ، مفهوم الاعتزاز اراه بينا عندنا . لقد احس العربي بعاطفة قوية من الافتخار الناشىء عن مجرد دراسته ، لتاريخ اللغة . وهذه العاطفة سوف تدرك مداها وتبلغ اقصاها فى القرن العشرين ، اكثر من اى عصر قبل وانت تعلم ان ما دعا هذا الكاتب ، او ذاك الشاعر ، او ذلك المفكر ان يثابر في طريقه هو فى الغالب عاطفة من الفخر ومن العزة . وفي اصل نهضة العرب الآن تجد العواطف الدائمة الحية التى تربط الاجيال بالاجيال.
اللغة العربية : لغة القرآن . اللغة العربية : لغة الوحي . ولكنها ليست بهذا فقط . فعند هذا الكاتب او ذاك الشاعر تدرك انه هو نفسه يشعر برابطة مع الماضى وبالتمثيل الصادق لروح العروبة . فالعقلية العربية قد ادركت من عهد بعيد ، جمال اللغة العربية . واذكر في هذا الصدد ابا الطبيب المتنبي ولكن يوجد كتاب ناثرون ايضا ، بجانب الشعراء الكبار الفحول
وفى القرن العشرين ، راينا جماعات ادبية ، استمدت روحها من الينابيع العاطفية التى تزخر ثرية فى حياة اللغة . فكانت عاطفتهم عاطفة الافتخار باللغة العربية . وهذه عوامل عاطفية كانت عميقة ، ولكنها لم تفتا ان تطورت فاصبحت عوامل " موضوعية " منطقية عقلية ، يمكن بحثها بحثا موضوعيا وفهمها فهما اجتماعيا واما الامر الذى ينبغى الا ننساه ابدا ، عندما نكون بصدد الحديث عن العربية ، هو ان هذه اللغة تمكن العربي ، من ابراز شخصيته امام لغات الامم الكبرى وتشعره انه يملك لغة حضارية ممتازة حقا لقد تعرضت بالدرس لهذه اللغة كغربي . ورغم 418 18
هذا توصلت الى ان هذه اللغة يمكنها ان تشعر ابناءها بالعزة لانها تقف وقفة عظيمة و " عزيزة " امام الحضارات الاخرى ، حضارات ظنت نفسها ، طيلة قرون متعددة ، انها اللغات الوحيدة الحاملة للروح الانسانية . ولكن هاته الحضارات انتهت باكتشافات " انسانيات " اخرى وجدتها فى حضارات اخرى غيرها . وكان اكتشافا باعثا على اكتشاف الكون والبشرية
والعاطفة التى تخالج العربى ، هو انه يتكلم بلغة نبيلة ، لاموازنة بينها وبين غيرها من اللغات . وهى عاطفة فيها امرا يصعب تحليله بل هو اصعب ما يلاقينا لاننا لانستطيع ادراكه ادراكا نيرا . ولانها تملك خاصيات انفردت بها . وفي الجملة فهو شعور بالانبعاث . الشعور بالتجدد ، هذا الشعور المرتبط ارتباطا وثيقا ب " النهضة العربية " التى قامت فى القرنى ال 19 وال 20 والتي انتهت بان اظهرت آثارا وروائع تؤيد حقيقة عندنا وجود نهضة وتجدد عربى معاصر
وفي عصرنا ، الم نشاهد ان العربية كانت قادرة على بعث مؤلفات متنوعة منها الادبية ، ومنها الفلسفية ومنها العلمية . وهذه المشاهدة ادتنا الى الشعور بعاطفة الاعتزاز الذى يشعر بها المؤلفون بهذه اللغة . وعلينا ان نحاول فهم هذا الشعور ، وهذا الاحساس . ويستطيع العالم ان يدخل هذا الميدان من طرق مختلفة وان ينظر اليه من زوايا مختلفة . ولقد حاولت فهمه فوجدت ان هذا الاعتزاز ، يتعدى بكثير . هذا الميدان نفسه . وهنالك طريقة اخرى على غاية من الاهمية بل هنالك طرق تخرج منها براى ، من دفاع العرب انفسهم عن فكرة الاعتزاز هذه ، دفاعا باسلا .
والشعور بالعزة حمل ثقيل ، وهو يملى واجبات ثقيلة فلذا نرى العرب الذين يتكلمون بهذه اللغة يحاولون تبرير موقفهم . ولكن أرى ان عليهم ان يبرروا موقفهم بالاثار الرائعة والمؤلفات القيمة لا بالجمل الخاوية والخطب الرنانة
وفعلا ، يقوم العرب الآن بحرب باسلة شنوها ضد اعداء مختلفي الوجوه ضد الامية ، والفقر الفكرى ، وضد ما يسميه علماء المجتمع " الانسلاب الثقافي "Deculturation حرب هائلة ضد اعدائه : ومن بينها ذكرت الامية وهذه اللغة هي سلاح ناجع في حرب العرب هذه . وهى فى نفس الوقت آله عالمية للتفاهم . لقد احسست بهذا ، فى ربيع السنة الماضية ، ونحن نزور اطلال دقة . فكان دليلنا يتحدث بعامية لم اكن افهم دائما كل معانيها فخاطبته بالعربية الفصحى واذا به يجيبني . واذا بعاطفة ودية تنشأ بيننا . ولقد ابقى هذا في نفسي اثرا عميقا وذكرى دائمة . ولقد شعرت كذلك ، خلال اقامتى بسوريا او بمصر ان التخاطب والتفاهم بهذه اللغة الفصيحة ازال السدود والحواجز يبني وبين العرب . بل شعرت وانا مار بقرى سوريا ، برغبه الشباب والكهول فى التحدث بهذه اللغة ، وعن رغبة الجميع فى ازالة الامية
ب - مشاكل اللغة العربية العصرية
طالما فكرت فى مشاكل العربية فى عصرنا . وكيف يتسنى لنا ان ندافع عن هذه اللغة ، وكيف نتمكن من اذاعتها ومن جعلها اكثر ذيوعا ولكن انا ضد استعمال اللهجات كلغات ثقافية . وذلك يعود الى اننى مؤمن بان اللغة العربية ستخطو نحو الشعب خطوات اخرى كلما ازداد عدد دور النشر واصبح الكتاب فى متناول الجميع
ولذيوع العربية ، ينبغى ان نقوم باصلاح الحروف العربية واصلاح الحروف العربية ليس معناه كتابتها بالحروف اللاتينية . كلا والف كلا ! فانا ضد كتابة العربية بالحروف اللاتينية . ولكن افكر فى اصلاح من نوع آخر يجعل العربية اكثر سهولة واكثر تناولا عند الصغار والكبار . وهنالك سبيل آخر لذيوع الفصحى : منها المدرسة ، وتكوين اكبر عدد ممكن من المعلمين والاساتذة
وانا اذ اتحدث عن هذا الموضوع على ان ابدى اعجاي بالمجهود الجبار الخارق للطاقة الذى اكتشفته فى هذه البلاد وفى غيرها من بلاد العروبة .
واللغة العربية قمينة ان تصير وسيلة للتعبير عن جميع الافكار والعواطف او النظرة الى الدنيا فى مستوى الحياة المعاصرة بما فيها من نزعات وتيارات . وهنا ندرك مشكلة " انبعاث الثقافة "Aculturationهذه مواقف ملموسة فى هذه المعركة التى يشنها الرجل العربى ، بكل ما أوتى من قوة ووسائل ضد كل ما من شانه ان يعوق نموه الكامل
وارى نقطة اخيرة ارجو ان ننتبه اليها وهى ان على العربى ان يبررمجهوده وموقفه بدراسات تاريخية وعلمية اجتماعية .
ولكن الاعتزاز لانجده بالنسبة الى العربى اى الى ابناء العربية بل بالنسبة لنا ايضا .
ج - موقف غير العرب امام العربية كلغة اعتزاز
ان الاعتزاز يمكن ان يحل ايضا بالنسبة للذين لا يتكلمون هذه اللغة او الذين لا يربطهم التاريخ بالعربية .
الم نر الرومانيين ينحنون امام يونان ويشعرون رغم انهم كانوا مواطني روما العظيمة ، ان الثقافة اليونانية قد اثرت عقولهم .
وفي فرنسا ، كم بذلنا من الجهود الواسعة ، لدراسة اللغة العربية واتقانها خاصة في مدرسة اللغات الشرقية حيث اسس لاول مرة فى اوروبا ، كرسى لتدريس اللغة العربية الفصحى . ترى العربية الفصحى ، لغة الاعتزاز ، جنبا لجنب مع اللغة الفارسية ، والصينية ، لغات اعتزاز هى ايضا .
ولقد عرفناها ودرسناها على اساتذة اساطين اعزاء علينا ! نحن نتحدث هذا المساء عن العزة ! - ولكنهم قد بذلوا اكثر جهودهم في سبيل العامية
اعتقد ان الاهتمام باللهجات - وحدها - امر تجووز فهاته اللهجات تتطور كل يوم ، فارى ان لاندرسها كما كان يدرسها هؤلاء الاساتذة الكبار ، الذين بذلوا جهودا جبارة حقا لا بد لنا من ذكرها .
ونحن لانملك ما يكفينا من الموضوعية والزمن ، لنحكم عن هاته اللهجات التى تسير بسرعة نحو مصير جديد . فاللهجات " الحضرية " فتحت جنباتها للعربية الفصحى . ولقد لاحظت مقدار تحسين اللهجة بتونس . سمعت يوما احد الموظفين الكبار يحادث احد اعوانه قائلا - " اعمل هذا مباشرة " . وفى سيارة سمعت السائق يقول " رد بالك من التاخير " .
واني اعتقد ان اللهجة تقترب من الفصحى بفضل المدرسة ، وبفضل الاذاعة ، وبفضل الصحافة ، وبفضل الكتاب السهل الاقتناء ( وهو ما بدأ التونسيون بالتفكير فيه وبانجازه ) . ولن تبقى اللهجة لهجة بل ستقرب فى آخر مرحلة ، من لغة الاعتزاز هذه وهو امر شاهدناه فى بلاد اليونان ، حيث اقتربت اللغة اليونانية المعاصرة من اللغة اليونانية القديمة . وكذلك فى ايطاليا وفى المانيا .
وهذا الاعتزاز ادى مدرسة باسرها من الاساتذة والادباء واللغويين الى بذل جهود كبيرة لجعل العربية المعاصرة لغة عزيزة
وهكذا يدرك المستشرقون انهم ليسوا وحدهم الذين يهتمون بهذه المشاكل انهم لم يعودوا انفسهم بالعمل فى هذا الموضوع . وارى نفسي شخصيا فى مثابرة دائمة ، وفي جهاد مستمر اخشى ان نغلب فيه
واذا ما شاء غير العرب فهم هذه اللغة العربية - التى هى عرضة لكل تطور ، ولكل ثقافة ولكل منهاج مجتمعي ، فعليهم ان ينظروا اليها باعين جديدة ، وان يحللوا مشاكلها باساليب علمية جديدة
واختم محاضرتى ، بذكرى مازالت تشبع نفسي لقد كان حظي مع العربية - كغيرى من اساتذة الاستشراق - صعبا جدا .
ولقد خالجنى اكثر من مرة الشعور بان دنيا العرب وعالم العروبة سيبقيان عالما موصود الباب ابدا امام محاولتى . وقد كانت المجهودات التى ابذلها جبارة وآداب هاته اللغة العزيزة ، التى اثرت فى نفوس جماهير واسعة ، طيلة قرون متعددة ، حرية بان تسحر نفوسنا ، والاعتزاز بالعربية تشعرون به أنتم اذا ماعدتم الى ماضى تاريخكم . اما نحن ، فعلينا ان نثابر فى البحث والدراسة حتى ندرك بعد صعوبات جمة ان اللغة العربية لغة جميلة
وعن هذا الشعور بالجمال ، اذكر امسية بدمشق اذكر مدينة دمشق والفصل شتاء ، والمساء ينزل فوق سطوح المدينة . كنا فى الجامع الاموي ، جلسنا مع شيخ وقور . ذا هيبة وجمال روحى . وكانت اشعة الشمس المودعة تنساب من ثنايا النوافذ الملونة ، تذكرنى برسم رمبرانت " تقديم عيسى فى الهيكل " . وما تحدث به ذلك الشيخ الكبير ، كان مفرطا في البلاغة وعميقا جدا ، حتى احسست وشعرت ان هاته اللغة تعود الى شئ آخر يتجاوز النظام البشرى المعهود وانها تتشارك مع طبيعة الالهة
فحاولت منذ ذاك ان اجعل طلبتى يفهمونها فهما احسن ، وان يحبوها محبة اكبر ، كما احببتها انا .
