الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

اللهو بالموت

Share

هذه صفحات من قصة للكاتب زهاريا ستنكو سماها " اللهو بالموت " وهو قصاص مشهور ولد بقرية صغيرة من قرى رومانيا وعرف الفقر والفاقة ولكنه تغلب على ذلك بإرادته وأصبح صحافيا وأسس مجلة أسبوعية أدبية . وارتقى حتى اصبح نائبا ثم عضوا فى أكادمية رومانية . وقصصه نالت اعجاب شعوب كثيرة حتى أن قصته "الحفاة" ترجمت الى أربعين لغة وقصته " الكلاب " الى اثنتى عشرة لغة . اما هذه القصة " اللهو بالموت " فقد كتبت بين سنة 1956 و 1962 وترجمت الى الفرنسية ونشرت فى الثلاثة أشهر الأولى من سنة 1964 .

تقع أحداث القصة فى الحرب العالمية الأولى وبطلها " داريا " وهو فتي في الخامسة عشرة كان يبيع الجرائد والمجلات فى لوخارست فالتقطه الألمان عند زحفهم على رومانيا وساقوه هو وأمثاله الى الواجهة ليحفر الخنادق ولكنه فى الطريق يواجه أخطارا عديدة ويتعرض الى الموت مرات ومرات ويقف أمامه بشجاعة ورباطة جأش رغم صغر سنه ومعرفته الضئيلة للعالم ومخبآته ورغم تجربته القصيرة للنفس البشرية وللمجتمع الذى لم يعنه على تحمل أعباء الحياة .

غير أنه ، أثناء مغامراته هذه تسلح بسلاحين عظيمين خولا له أن يصمد أمام الكوارث وأن يحيا ويرجع الى بلده سالما هما : الخيال الخصب الذى يملأ به فراغ وقته عندما تهدأ عواصف الأحداث وتتقلص عنه مخالب الموت وتخبو سورات البشر ومطامعهم نحوه ومواقفه المليئة واقعية ورجولة ودقة ملاحظة وسيطرة على ضعف النفس وخلطها بين الأشياء عندما تتكالب المصائب وتدق ساعة الخطر . وكم مرة وهو منساق الى خياله تداخل نفسه الحيرة من أجل هذه الأخطار التى تحف به فينسبها الى حكم الأقدار ويحدث بينه وبين نفسه مثل هذا الحوار :

" ومرة أخرى فوجئت وأنا أحدث نفسى فى ضرب من الهذيان.

قالت النفس : - أيا " داريا " ان من حقك أن تكون لك عينان أكبر من هذين وأعمق . وان توقك الى ان ترى كل شىء يتطلب أن يكون لك ألف عين .

قلت : - تكفينى عينان ، وان عيون الخيال تكشف لى عن كل شىء فهى لا تعد ولا تحصى ولا تحجبها أهداب .

- وحتى أهداب النوم الحريرية لا تحجبها . - ولا هي . فعندما أنام يبقى خيالى يقظا . فتراودنى الأحلام . هى اللعنة التى لا يمكن أن أفلت منها . ذلك أن احدى آلهة الشر عندما حضرت ولادتى قررت فى صيحتى الأولى :

- أن لا يصرخ هذا الطفل الا فى نفسه وألا تنفك صرخاته تمزقه تمزيقا من دون أن يسمعه سامع .

كما أن الالهة الثانية قررت : - أن لايعرف هذا الطفل السعادة أبدا .

أما الثالثة وهى أرحمهن فانها باركتنى قائلة : فليضربه الخيال بسياط من النار عند اليقظة اما فى النوم فلتجلده الأحلام بسيور من ذهب .

وأردفت الالهة الاولى قائلة : - فلتكن الشفاه التى يقبلها مرة مثل الحنظل . وزادت الثانية :

ولتخنة كل الأيدى التى يضغط عليها محبة ومودة . وقالت الأولى : - ولتغالطه الايدى التى يهبها قلبه ... وليأكله الحزن ، حزن العالم بأجمعه . ورغم ذلك فلتلوث حياته نفايات من الفرح ، قليلة ، ولكن فليعرفها ، وليحترق مرة واحدة ، مرة واحدة بنار الحب بين فترة تفتح براعم الصفصاف وفترة قطف أزهار الزيزفون .

وصاحت الثالثة غاضبة وقالت : ليصب في سنته الثانية عشرة وليبق صاحب عاهة الى أبد الآبدين وليقتبله الغبار وليجعله غبارا يوم أن يخالط شعره بياض الشيب ...

وقالت له نفسه : انك لا تعدو الخيال ، فمن أين لك أن تعرف كل هذا .

قلت : اننى أتخيلة ولكن أين هى الحدود التى تفصل بين الخيال والواقع ! أين هي هذه الحدود التى لم يتمكن أى انسان من ضبطها ؟ خطها لى أنت أيها الوطواط الذى يعشق الظلام أنت عرفتها . وأنت أيها النجم عرفنى بها وانت أيتها النبتة بينيها لى ان نفذت الى هذا السر " .

مثل هذا الحوار يتكرر مرات عديدة ولكن الواقع المر يدفعه الى أن يقف من الحياة موقفا بعيدا عن الأحلام مليئا بالجرأة وبكل ما يتصف به الشخص "اللاهى" من سيطرة على النفس وانفلات من القيود وحكم صحيح على الأشياء ، وابتكار وخلق .

وفي هذه الصفحات القليلة التى ننقلها من هذه القصة سيتضح للقارىء الكريم هذان الجانبان من شخصية " داريا " الشاب .

فها هو يتخلص بأعجوبة من القطار الذى حطمه الثوار ويخرج من الركام سالما .

... ولقد اعتدت أن أجوب الأرياف وبيدى عصا ألوح بها ، وفى هذه المرة انتزعت من ركام القطار شظية حادة من الخشب اخذت أشق بها الفضاء كأنها سيف من السيوف وأبتعد شيئا فشيئا حتى أظلتنى شجرة العليق فافترشت العشب واضطجعت ... ووجهى الى الأرض تحفظه من خدش الأعشاب يداى المشتبكتان . وسعيت أن أنام ولكن دقات المطارق وصلصلة الحديد المنبعثة من السكة الحديدية وغناء العملة وحديثهم كل ذلك كان يتسلل الى من خلال الهواء الطلق ويمنعنى من كل نوم . وكان النسيم العليل يمر على العشب الأصفر الملتف فيتموج كأنه الماء الساكن ألقى على صفحته حجر عبثا ولهوا . وكانت فروع شحرة العليق الملتفة تحرك أوراقها التى صهرها الخريف فينبعث منها صوت وصوت .

وهل يجدينى بعد كل هذا ، أن اخشى على حياتى ، وحولى الموت يحصد من الناس من لم يفكر قبل وفاته بقليل آئنه سيصير أشلاء مبعثرة . والآن يموت الناس فى الأرض قاطبة وفى كل يوم آلافا وآلافا . فمنهم من ينتزعه الموت من الهرم وجلهم يهلك وقد نخرته الأوبئة التى خلقتها الحروب والمجاعات .

أبدا لم يعرف العالم جيوشا حرارة من القمل مثل هذه التى تودى بصاحبها بعد عضة صغيرة يكاد لا يفطن اليها . أبدا لم تكتسح الأرض سيول دافقة من الدماء مثل الذى عرفته اليوم . أبدا لم تنتعش الأرض من جثث البشر مثل الذى انتعشت فى هذه الأعوام القليلة .

الأرض ! نعم من التراب نولد ثم نتيه فى العالم ردحا من الزمن ، نغتاظ تارة ونغني أخرى . ونحقد أو نحب ثم نرجع الى الأرض . أنت أيتها الورقة ستسقطين لأن الخريف قد حل وستصيرين ترابا . وأنت أيها العصفور ، وأنت أيتها الحشرة تشقين الفضاء كأنك سهم أزرق من الذى رمى بك ومن أى قوس انطلقت ...

- وانت يا "داريا" . - نعم أنا هو ...

ان الأرض كريمة : هى تجود على الكائن المصنوع من الفكر واللانهاية بغشاء من الغبار . وان الأرض لمضيافة : فاذا ما ضعفت الفكرة فينا وكاد اللهيب يخبو واذا ما تاقت الفكرة الى الراحة الكبرى وانطفا اللهيب واذا ما بدأت ذرة اللانهاية الكامنة فينا تتلاشى كما يتلاشى سحاب من الذهب طوح به فى أبعاد الكون نسيم المساء البارد ، تجود علينا الأرض المضيافة بحفرة داخل قشرتها وتحثو علينا التراب وتأكلنا أكلا وتحولنا كما كنا فى بدء البدء ترابا . ولعل وجهى هذا الذى أحوله الآن عن شمس الخريف الدافئة كان من قبل قشرة شجرة . ولعل فخذى كانتا فى قديم الزمان فخذى وعل من الوعول . ولعل ساقي كانتا من قبل ساقى مهر وحشي لا يطيق رؤية القرد العملاق الذى غطى جسده الشعر وضاقت جبهته ولكن الحياة علمته أن يأخذ بين رجليه الأماميتين ذلك الدبوس المهول المعقد .

- أيا داريا ، هل أنت راض عن غشائك الزائل . كيف أكون راضيا ؟ وأنا أشعر بالعبودية داخل هذا الغشاء . فهو حمل من الصخر .

- لكن لحمك ليس صخرا . - لا . لحمى ليس من الصخر ولكنه ثقيل كالصخر . - وهل غشاؤك هذا سبب آلامك . - آلامى ؟ لا . ولكن اللحم منى داخله الألم كما داخل البحر الاسفنجة . اذ الألم يولد من الفكرة واللانهاية الكامنتين فى .

كنت أتألم من هذا الغشاء الذى حمل الأثقال والأكدار أحيانا وأتعبته الثياب الخلقة وغطته فمنعنى من أن أتيه كما طاب لى فى العالم بأجمعه . وهكذا ، وأنا الذى عجزت عن أن انطلق بكيانى كله ، أتخلص من غشائي المسكين الذى أشعر من أجله بالقرف وأنطلق بعيدا بعيدا . فأسير أحيانا فى مركب القمر الفضى بين الكواكب الساطعة وأنطلق أخرى الى أبعد من ذلك في مركب من الذهب ذنب نجمه من غبار أبيض قد تفتح وامتد الى اللانهاية . ويلذ لى أن أضع فى اصبعى خاتم زحل النحاسى ... وكم مرة فى خريف أشقر مثل هذا شويت حزمة من سنابل الذرة على جمر المريخ المحمر . وتهت فى المجرة وقد غشاها النور كما يغشى عدد عديد من الشموس شارعا من الشوارع . وكنت انظر الى عالم السماء بعين نجم الصباح الزرقاء فكان يبدو لى هذا العالم أزرق تماما وعندما يراودنى التعب أعود الى غشائى النائم وأسكن اليه بحثا عن الراحة .

الراحة ! ان دماغى لم يعرف الراحة وكأنه عاجز عن الاخلاد اليها ، وحتى عن معرفتها . وهكذا تظهر أحلامي وهي دائما عطشى الى المثل العليا والقيم . وانطلقت فى خضمها من جديد ولكننى فى هذه المرة سلكت الطرق التى يسلكها الناس . وكانت هذه الطرق وعرة الى حد بعيد .

وثقل وجهى على يدى . فلعل يدى كانتا من قبل جناحين أحلق بهما فوق البحور وقد غمرها الزبد وأثارت غضبها زوابع مهولة لم ترها عيون البشر على مر الدهور .

عيون البشر ! لعل عينى كانتا فى غابر الأزمنة زهرتين من النيلوفر ماتتا لأنهما فتحتا أهدابهما قبل الأوان الى نور ساطع من شمس وحشية ما زالت فى ريعان شبابها . ولعل لسانى الذى أدافع عن نفسي به وأصب بواسطته لاذع السباب على من يعتدى على كان فى قديم الزمان لسانا مشقوقا لثعبان أخضر اللون ، لسانا مصفرا ...

وافقت فجأة من أحلامي المتقلبة . وفتحت عينى وأضحت بأذني . فهل تحول النسيم الى ريح عاتية بينما بقى العشب العالي يتموج تمويجا خفيفا ،

وحفيف أوراق شجرة العليق لم يتعد الحفيف . ان الصفير الذى تبينته الآن بوضوح حادا ، نحاسيا لا يمكن أن يأتي من بعيد . فامتدت يدى بحكم الغريزة إلى شظية الخشب ورفعت رأسى بحذر . فرأيت على بعد خطوات مني تحت شجرة العليق ثعبانا عجيب المظهر كأنه خرج من عالم آخر : له ثوب غريب مطرز لونه يضرب الى الخضرة والشقرة ، وانتصب من العشب عاليا رأس له رمادى ، أخضر الفكين وكان الثعبان يحدق الى بعينين مدورتين يريد بذلك أن يجمد كل حركاتى بينما لسانه الطفلى المشقوق يضرب الفضاء كأنه سوط .

يا للهول ! لقد بزغ من خيشومه قرنان حادان أصفران كأنهما الحنطة الناضجة ، حاولت أن أبتعد عنه زحفا وأنا مستعد الى أن أقفز جانبا كالبرق الخاطف وأن أضرب خصمي دفاعا عن نفسي . ولكنني ما أن تحركت قليلا حتى استولى الثعبان قائما بسرعة فائقة وانقض على فحدت عنه بنفس السرعة وضربته بقفا شظية الخشب على رقبته . وظننت أنه سيختفى وقد تملكه الذعر زاحفا داخل الأعشاب . ولكنه جن جنونه والتوى على نفسه فى أقل من طرفة عين ودار دورة وانقض على مرة أخرى فتمكنت من أن أثب فى الوقت المناسب فلمس برفق جسمه الملون أذني . وكان بوسعي أن أفر وأتخلص من هذا الثعبان غير أن الغيظ تملكني أنا بدورى وأعجبنى هذا الصراع . فتأخرت عنه خطوات وعيناى ترقبان كل حركة تصدر منه . فما راعنى الا وقد اعتمد الثعبان على نصف جسمه الذى بلغ من الطول على الأقل أربعة أقدام ، وشد عليه كأنه قوس وأخرج لسانه المشقوق يرقصه رقصا محدثا به صفيرا حادا قويا وانقض على مرة ثالثة كأنه رمح . فتمكنت من أن أسدد اليه ضربة على رأسه . ولكنني لست من الذين يخال لهم أن الثعبان سيقضى بضربة أفقدته صوابه فقط وسقط على العشب يهز رأسه ليعيد الكرة من جديد . فأحسست بأن جسمى كله قد غشاه عرق بارد وقلت فى نفسى ان اللعب أصبح خطيرا . فمجرد عضة من هذا الثعبان كافية لأن تقضى على قبل غروب الشمس وبعد ساعات من الألم المريع يتورم الجسم منى ويتغير لوني . فقررت الا أمكنه من الهجوم مرة أخرى . فانقضضت عليه وضربته ضربات عديدة على رأسه بقفا شظية الخشبة وجست وسطه تحت رجلى العرجاء . فانتصب وحاول أن يلدغنى فى ركبتى وهو يضرب بذنبه ضربات قوية ، متتآلية كأنه سوط من مسامير . غير أنى لم أكن لآبه لهذه الضربات وتماديت في دق رأسه بالخشبة حتى فقد صوابه أكثر من ذى قبل فوضعت قدمي الأخرى على رقبته . وضغطت بكل قواى حذرا من أن يتسلل ويهرب ثم أخرجت منديلى من جيبى ولويت أحد أطرافه وقربته من فم الثعبان فى سرعة فعض عليه ولما شعرت بأنه أطبق فكية على طرف المنديل وأخذ يضغط عليه بكل قوة انتزعته منه فجأة فى حركة خاطفة . لقد كان ناباه الأبيضان مغروسين فى المنديل الذى ابتل لعابا وسما فرميت به فى العشب .

والآن فى وسعى أن أغنى له الأغنية المعروفة :

أيها الثعبان الذى ما يزال فى قيد الحياة ...

أيها الثعبان الذى سيقضى ...

وكنت بهذه الأغنية الساحرة أهدىء شيئا فشيئا من روعه ، وألين من قناته ثم أنبهه وأعبث به كما يطيب لى . وكان بوسعى أن ازحزح قدمى صوب رأسه وأضغط بقوة فاحطمه تحطيما بسهولة كبيرة . ولكن ، أن ألهو بثعبان فقد أنيابه السامة يكون عملا ليس فيه ما يغرى ويعجب . أما أن أقتله فما هى الفائدة ؟ فهل سيفتك منى خبزى اليومى ؟ فوثبت وثبة وخلصت الثعبان من وطأتي ورفعت خشبتى على أهبة أن أضربه اذا هو خلا من كل حكمة وعاود انقضاضه على مرة أحرى . ولكنه لم يرتم على . فعندما أحس بأن قدمى قد انزاحتا عنه أخذ ينساب فى سرعة عجيبة وتوارى بين الأعشاب الصفراء فى الحقل المقفر الموحش ليوم الخريف الأزرق .

اشترك في نشرتنا البريدية