- الدمنة
المستشفيات هياكل أو قصور لايواء المرضى قصد العلاج تشيدها الملوك والحكومات وتخصص لها من بيت المال أو خزينة الدولة أو من أوقاف مؤيدة ريعا ينفق منه على المرضى من لباس ومآكل وأدوية وعلى الأطباء والخدمة القائمين بأعمالها .
- إن العرب لم تؤسس المستشفيات فى الجاهلية والمظنون أنها وجدت لأول مرة ببغداد فى عهد عضد الدولة العباسى
يذكر ابن أبى أصيبعة أن عضد الدولة دعا الطبيب الفارسى أبا بكر الرازى وطلب منه أن يختار مكانا صالحا لبناء مرستان ببغداد ، فأجاب الرازى دعوة لأمير وعلق قطعا من لحم فى مختلف أنحاء المدينة وعاينها يوميا وعين لبناء المرستان الموضع الذى لم ينتن فيه اللحم إلا مؤخرا مستفيدا من ذلك طيب الهواء ، والمرستان أو البيمرستان كلمة فارسية معناها المستشفى
ومن المرستانات ما هى مخصصة لايواء الجذماء وتسمى (( دار الجذماء )) يقيمون بها ولا يخرجون منها خيفة انتشار المرض - ومعلوم أن الجذام مرض مشهور بالعدوى من قديم العصور ، سجل وجوده بالهند والصين ومصر قبل الاسلام ويعرفه اليونان والعرب وفيه جاء المثل (( فروا من الجذام فراركم من الأسد )) ذلك أن المرض مشوه يبشع الوجه ويجدع أصابع المرء ويقعده عن العمل .
أما بافريقية فانه لم يبلغ لعلمنا أن مرستانا وجد فى العهد البربرى الفنيقى و الرومانى وحتى فى القرن الاول من الفتح العربى . وإن أقدم المصادر التى تشير لدار الجذماء بالقيروان يرجع وجودها الى القرن الثانى للهجرة
جاء فى معالم الايمان ( 1 ) والمدارك ( 2 ) و ح . ح . عبد الوهاب ( 3 ) وغيرها من المصادر - وهى تنقل بعضها عن بعض - أن ابا عمرو هشام بن سرور التميمى (( كان يذهب الى دار الجذماء بالدمنة فى ( عيد ) الفطر ، و ( عيد ) الأضحى ، ويجعلهم صفوفا ويطعمهم بيده ويفلى خروقهم ويدهن رؤوسهم وتوفى سنة 307 )) يشير بذلك الى انه يتقرب الى الله بجبر خاطرهم ولو أدى به ذلك الى العدوى
والدمنة توجد خارج المدن - جاء فى معالم الايمان أن أبا عبد الله السوسى كان عظيم القدر كبير الشأن خرج من القيروان فسكن الدمنة ( 4 ) والدمنة بالقيروان خارج السور (( وبالقرب من تربة أبى زمعة البلوى)) ( 5 ) وهو حى من أحياء القيروان توجد فيه الدمنة ، أطلقت عليه هذه الكلمة بالتبعية ، فكان يوجد به مسجدان مسجد السبت ومسجد الخميس يقرأ فيهما القرآن والرقائق ويسكن فيهما الزهاد العباد ( 6 )
وفي الحاوى للبرزلى ( 7 ) وهى اليقعة بالقيروان تسمى الدمنة ويسمى مسجدها مسجد الدمنة ومسجد السبت ، وأحفظ عن ابن شرف فى كتابه المذيل على ابن الرقيق أن هذا كان معروفا بالمبتلين ، يسكنه أهل العاهات ، به ماجل يسمى ماجل المجذومين [ و ] بعد خراب القيروان [ قال ] ثم كثر الناس فيه ثم عمارتهم حتى سكنه أهل الدنيا لكونه مسرحا لا يؤدى باعثه ظلما ، فلما كان زمن فتنة العرب ، فهو أول ما خرب لكونه خارجا عن البلد وهو اليوم بقرب تربة أبى زمعة البلوى ) .
وأطلق صاحب المدارك على معنى الدمنة فى ذكر يحيى بن عمر الكنانى وأنه ( أى يحيى بن عمر ) ألف كتابا فى النهى عن حضور مسجد السبت - كلمة - ربض العتلنين ( 8 ) ، وفي المخطوط عدد 18620 من الكتاب نفسه ( 9 )، أبدلت الكلمة بعبارة (( ربض المفلس )) ( 10 )
والجذام la lé pre تسمى باليونانية ، lepros - قشور - وهى من أوصاف المرض ، فقد تعددت الالفاظ والمعنى واحد
ومما يؤكد ما جاء فى كلمة الدمنة بمعنى حى الجذماء أو دار الجذماء ، الفتوى الآتية للفقيه الونشريسى ( 11) : ( سئل الونشريسى عن دمنة فى بعض نواحى افريقية وبها أرض تسمى (( الأحباس )) يسكنها أصحاء - هل يثبت
تحبيس هذا الموضع ؟ فأجاب : هذه البقعة المسماة بهذا الاسم كان بها الأضواء بالجذام ، واذا كثر عددهم ليكونوا بناحية لا يضرون بالناس فهم أحق بها وما كان من وقف فاليهم يقصد) .
ومن الملاحظ أن الدمنة لم يأت ذكرها فى المصادر إلا بمناسبة زيارة أمير او محسن أو فتوى ، ولا تعلم شيئا عن إدارتها ونظمها وتأسيسها .
إزاء دمنة القيروان وجدت مؤسسات مثلها بالمدن الأخرى بتونس جاء فى محاسن الايمان ( 12 ) نقلا عن البكرى فى ذكر جلولاء قال : (( أنشأ أهلها - أى أهل القيروان - بموضع حصن جلولاء الرياض الأنيقة المسماة بسردانية ( 13 ) جميع أوواع الشجر ، حتى كان فيها من النارنج ما يزيد على ألف أصل ، وكان بها ربض على حدة ، لسكنى أهل العاهات والأمراض ، لا تؤدى باعته ولا ما يدخل إليه ظلما من مكس أو غيره لكونه مسرحا من ذلك رفقا بمن يسكنه من المبتلين ويسمى ذلك الربض بالدمنة)) - وبضواحى سوسة يذكر البكر ( 14 ) : (( أن دمنة الدومس كانت خارجة عن المدينة بموضع يسمى وادى الدمنة )) .
وبالمصدر نفسه ( 15 ) أن ربض المرضى بتونس ( العاصمة ) خارج عن المدينة وذلك فى عهد بنى الأغلب
يتجلى بوضوح من كل هذه التحقيقات أن (( ربض المرضى )) أو (( حى الدمنة )) و (( الدمنة )) كانت لسكنى أهل العاهات بمعنى المجذومين ، وكانت خارج المدن لاجتناب العدوى وحفظ صحة السكان
ذهب المؤرخ الشهير حسن حسنى عبد الوهاب أن الدمنة بالقيروان هى المستشفى نفسه ودار الجذماء بداخله وقسم من أقسامه ( 16 ) حيث أن المصادر لم تذكر أين كان هذا المرستان وكيف كان رسمه وترتيبه ، ويذهب أكثر من ذلك فيتخيل هذا الرسم ويصفه كما يلى :
(( ومما تجمع من الاطلاعات والبحث يتبين أن الدمنة كانت بشكل مربع ، يدخل إليها من باب واحد يفتح على سقيفة طويلة . . ويحف بجانب السقيفة غرفتان باسكنهما حارس . . وفى آخر السقيفة باب يفضى الى صحن متسع
غير مسقف ، يحيط بجوانب الصحن ثلاثة أو أربعة أروقة ( مجنبات ) معقودة السقوف ومن ورائها عدة حجرات لايواء المرضى ، ومن جهة أحد الأروقة باب مستقل يدخل منه الى الدمنة . . . دار الجذماء ) ويصف دمنة سوسة بأنها (( على غرار مرستان القيروان على شكله ونظامه وترتيبه )) (17)
إن هذا الرسم هو رسم مستشفى عزيزة عثمانة اليوم بالحاضرة من غير الطابق الاول ، وسأعود إليه ، ولم أجد في كل ما قرأته من كتب القدماء ما شير الى وجود مرستان بالقيروان وبالاحرى على رسم مثل هذا أو غيره ، ويشق على ، بالتالى ، أن أذهب مذهب ح . ح . عبد الوهاب
عثرت أخيرا على خريطة مسح القيروان وناحية منها ( 18 ) قام بصنعها الحبش الفرنسى إثر احتلاله لتونس ، فوجدت بها غربى البلد أرضا ملاصقة لجبانة سيدى عرفة وتربة العوانى تدعى المرستان وأفادنى عميد أسرة العوانى ( 19 ) انه كان يوجد على الارض المذكورة مرستان للامراض العقلية فى القديم وان هذه الارض كانت من أملاكهم فأعلمت بذلك معهد الآثار لاجراء التحقيقات والحفريات اللازمة ؛ وعلى كل حال فان باب البحث لا يزال مفتوحا
