لقد استعمل الاخصائيون فى الفن المسرحى ، ومن اهتم به من فلاسفه ومؤرخين . وادباء ، ونقاد . واصحاب المعاجم والقواميس ، عبارات عديدة ، مختلفه للتعريف بهذا الفن ، باعتبار المنظار الذى ينظر به كل منهم اليه . فالفلاسفة يقولون انه " محل النسيان " اى المكان الذى يؤمه الناس لينسوا فيه مدة بضع ساعات اتعاب يومهم وهموم غدهم ، ويقول المؤرخون انه " معبد قد تطور " تلميحا الى ان الفن المسرحى خرج من الطرق الدينية ومن الحفلات التى كانت تقام بالمعابد الوثنية لتمجيد الالهة ، او من كانوا يسمونهم بالابطال بذكر امجادهم فى ملاحم واذكار ترافقها اناشيد وانواع من الرقص والموسيقى ويسميه الادباء " بالعالم الصغير " الذى تجرى فيه حوادث منقولة عن الحوادث التى جرت ، او تجرى ، او من شأنها ان تجرى فى " العالم الكبير " ويقول رجال المسرح من مؤلفين ، ومخرجين ، وممثلين ، وانقاد انه " مخبر توجيهى " تدرس فيه فنون البلاغة ، والتعبير بالحركة والملامح عن الانفعالات النفسية ، بتطبيق نص كتب لهذه الغاية . وتقديمه فى اطار مناسب يتجمع فيه كل ما يلزم ما وسائل فنية وآلية لبلوغ ذلك الهدف .
ولئن اختلفت هذه التعاريف فى ظاهرها . فانك تجد فى جميعها ما يكسبك فكرة شاملة عن الفن المسرحى ، لان كل واحد من هؤلاء المفكرين نظر اليه فى ناحية من نواحيه
واذا اختلف الفنيون فى الطرق الواجب اتباعها لابراز هذا الفن على وجهه الاكمل - بقدر الامكان . لان الكمال الفنى غاية لا تدرك - فانهم على كل حال مجمعون على ان اعمالهم ، وجهودهم ، وابتكاراتهم موجهة كلها نحو غرض واحد ، وهو ارضاء ذلك العنصر الذى لا وجود بدونه للتمثيل ، ولا للفن المسرحى ، وهو جمهور النظارة . ذلك " الحيوان المخيف ذو الالف رأس والالفى عين التى تبصرك فى الظلام " . وترقب فى صمت حركاتك وسكناتك . ذلك الجمهور الذى دفع لك ماله واتاك طالبا منك ان ترضيه بخلق حياة وهمية تتملك بها على عواطفه وشعوره وحتى على وعيه وفكره مدة بضع ساعات .
وقد اجمع هؤلاء الفنيون ايضا على انه لا سبيل الى بلوغ هذه الغاية الا اذا اهتدوا الى معرفة ما يحرك عواطف ذلك الجمهور ، وشعوره ، ويتملك على فكره واذا ادركوا هذه الحقيقة القارة وهى انهم يختلفون كل الاختلاف عن مؤلف القصة لانهم يخاطبون جمهورا من الناس فى حين انه يخاطب افرادا ، ولان طرق اثارة الحماس فى الجماعة ، والتأثير على الجماعات بما يضحكها او يبكيها غير طرق اثارة حماس الافراد وابكائها واضحاكها .
والجماعات تهتز وتتأثر بما يفيق فيها ذكرى اشياء تلذ لها اعادة رؤيتها ، او تصويرها اممها بطريقة ملموسة ، وبما يستفز شعورها او يثير حماسها من حوادث عرفوها بالحكية او عاشوا فترة منها فى ماضيهم القريب .
وجميع المسارح القديمة من مصرية وصينية ، وهندية ، ويابانية ، ويونانية نجحت وتقدمت ، ولاقت فى بلادها اقبال الجماهير ، واحرزت على رضاها لانها عملت طبق هذه المبادئ القارة التى ليس بدونها للفن المسرحى معنى . فكانت المواضيع دائما مستوحاة من واقع الامم ومن عاداتها وعقائدها وتقاليدها وحياتها الاجتماعية والسياسية .
وفى النصف الاول من القرن العشرين ، هذا القرن الذى تحورت فيه وجهات نظر الامم . واخذت كلها تعمل فى سبيل التقدم والانطلاق ، فى هذا العصر الذى شوهدت فيه حروب عالمية وجهوية عنيفة هزمت فيها امم ما كان لها ان تهزم . وانتصرت امم ما كان لهان تنتصر رأينا المسرح يعمل عند البعض لاستنهاض الهمم ، ومقاومة الياس الذى اعترى الامة عقب هزيمة نالت من عزتها او كرامتها . وعند البعض رأيناه يعمل لمقاومة الانحلال الذى اصاب الامة لما فوجئت بنصر لم تكن لتحلم به حتى فى المنام .
وفى الفترة الحالية التى يعيشها عالمنا العربى ، وخصوصا مغربنا العربى الكبير ، فقد شاهدنا ونشاهد محاولات مشكورة من طرف رجال الفكر والقلم ففي ايام المحنة الكبرى ، حين كانت البلاد العربية باجمعها تئن تحت نير الاستعمار بمختلف انواعه وطرقه ومظاهره ، رأينا فى لبنان ، وسوريا ، ثم فى مصر وتونس ، ثم فى الجزائر والمغرب الاقصى ، اناسا يفتحون كتب التاريخ ويستوحون منها عبرا يصبونها فى قوالب مسرحية تذكرنا بمجدنا التليد وماضينا المجيد ، فيذكون فينا نار الحمية العربية الاسلامية . ويوقظوننا من سبات الجهل واليأس والاستسلام ، وينفخون فينا روح الوطنية ، والحرية ، والشهامة والاباء . ويقول لنا شاعرهم :
وانفث بهم روح الكرور على الوغى
فالحرب اولها نداء الشادى
فمسرحيات صلاح الدين الايوبى ، وفتح بيت المقدس ، وابى الحسن المغفل ، وفى سبيل الوطن ، وطارق بن زياد ، والمامون ، وزيادة الله الاغلبى ، وحنبعل ، والكاهنة ، وفتح الاندلس ، وفتح افريقية ، والواثق بالله الحفصى وغيرها كان لها فى نفوسنا اثر لا ينكر .
اما الآن ، وقد تحررت بلادنا ، ولم يبق للاستعمار فيها الا بقعة واحدة من تراب مغربنا الكبير ، ولم يبق متشبثا الا ببقاع محدودة من الجمهورية التونسية والمملكة المغربية العتيدة ، فان الادباء والكتاب بصورة عامة ، والمؤلفين المسرحيون بصورة خاصة ، قد شمروا عن ساعد الجد والعمل من جهة لاعانة زعمائنا وقادتنا وجنودنا البواسل على ابقاء نار الحمية فى نفوسنا واشعالها فى نفوس الراكدين والمتشككين من جهة وعلى نشر قضيتنا الحقة والتشهير باعمال المستعمر الغاصب فى جميع انحاء الدنيا من جهة أخرى .
ويرجع الفضل هنا الى عنصرين قاما بواجبهما احسن قيام . واديا رسالتهما على الوجه الاكمل ، هما الاذاعة من جهة والفرقة الجزائرية للتمثيل العاملة تحت اشراف جبهة التحرير الوطنية من جهة اخرى .
فأما الاولى - اى الاذاعة - فأنها لم تأل جهدا ، فى جميع البلاد العربية - وحتى فى غيرها من البلاد التى ترمق حركتنا بعين التشجيع والرضى - وخصوصا الاذاعة القومية التونسية - من تقديم مسرحيات تتقد حماسا ووطنية ، تبسط فيها وجهة نظرنا . وتدافع بحماس عن موقفنا سواء فى القضية الجزائرية ، او قضية بنزرت القائمة الآن بيننا وبين فرنسا . وكلنا يعلم ان التمثيل الاذاعى ، وان كان منقوصا بالنسبة للفن المسرحى اذ لا تتمتع به جميع الحواس له مفعول عظيم لانه يرفع صوته على امواج الاثير الى اقصى ما يمكن من بلاد العالم ، ولانه يدخل الدور والاندية والمقاهى ويفرض نفسه حتى على من كان بارد الاحساس او ضعيف الايمان ، فيوقظه من سباته ويثير شعوره ويستفز حماسه وان لم يكن وسط جمهور من الناس ، كما هى الصورة فى المسرح
واما الثانية - اى الفرقة الجزائرية - فانها تعمل تحت ادارة رجل خبير بالفن المسرحى ، يحمل ثقافة واسعة . وله معرفة جيدة بالاخراج ، وهو الاستاذ مصطفى كاتب ، كما لها مؤلفوها المقتدرون ، وممثلون من الفحول ، ومصورون للمناظر . واخصائيون فى الانارة ، وموسيقيون بارعون . وهى تنشر دعوة القضيه الجزائريه بايمان صادق وعزيمة ثابتة لا تعرف الكلل ، ومن فن رفيع بعموم البلاد العربية ، وحتى غير العربية . وهو لعمرى عمل يضاهى عمل الزعماء الابرار الذين يقاومون فى الميدان السياسى ، والمجاهدين الابطال الذين يذيقون المحتل الغاصب مر العذاب ولا يدعونه لحظة واحدة يتمتع بالحياة الهادئة او يتذوق الى طعم الراحة ، وكل ميسر لما خلق له .
والى جانب هذين العنصرين الاصليين ، فان الكاتب العبقرى " كاتب ياسين " الف وما زال يؤلف مسرحيات باللغة الفرنسية مسرحيات اخرجها ويخرجها الفرنسيون على مسارح فرنسية ، عالج فيها فلسفة حياة المجتمعات وطموحها الغريزى الى الحرية والاستقلال . فهو ايضا يساعد بسلاحه هذا ، اى باستخدام الفن المسرحى ، على ازاحة الاجنبى عن بلاده لتستعيد عزتها وكرامتها السالفتين
والجمعيات التمثيلية التونسية التى تعمل الآن فى حرية شملة ، بعد ما تخلصت من عذاب الرقابة الاجنبية ، لا تترك فرصة للتشهير بأعمال القمع والتنكيل الصادرة عن رجال الاستعمار بشقيقتنا الجزائر . فهذه فرقة انصار المسرح تقدم منذ ثلاث سنوات ، امام قاعات مغتصة بالجماهير ، على اختلاف انواعها ، مسرحية " جميلة بوحيرد " التى كتبها الهادى القرجي . وهذه فرقة بلدية تونس تقدم فى عدة حفلات مسرحية " الفدائى " لمحمد المرزوقى وهى قطعة يستعرض فيها اطوار المقاومة التونسية ويصرح بأن استقلالنا لا يكون كاملا ، ووحدة مغربنا العربى الكبير لا تتحقق ما لم تتحرر أختنا الجزائر ، موطن صناديد الاوراس ، وابطال سطيف ، وسكيكدة والجزائر ووهران وتلمسان
وبهذا يتضح ما للمسرح من اهمية كأداة ثقافة حية ، ووسيلة دعاية فعالة ومخبر توجيهى لتهذيب الاخلاق ونشر كلمة الحق . وتوحيد صفوف المواطنين حول مباديهم السامية . واهدافهم المقدسة ، وقادتهم المخلصين
فالمسرح ليس بمحل النسيان فحسب ، بل هو كل ذلك فى آن واحد
ولهذه الاسباب كرسنا حياتنا فى سبيل نشره فى بلادنا ، وعملنا وما زلنا نعمل لترقيته الى المستوى اللائق به وبنا حتى يكون مرآة صادقة ينعكس عليها واقعنا المغربى العربى الاسلامى ، وحتى يكون اداة فخر لنا لدى غيرنا من الامم .
ولهذه الاسباب اسسنا له المدرسة التى تحورت الآن فى بلادنا المستقلة الى فرع كبير من المعهد القومى للموسيقى والتمثيل والرقص .
ولهذه الاسباب ندعو لخدمته جميع المثقفين من رجال ونساء ليعملوا بحقله فى جميع الفروع من تأليف وتمثيل واخراج
فالمسرح عنصر لا استغناء عنه فى امة تحترم نفسها ، وتقاوم ما فيها من تخلف لتنطلق نحو الرقى والازدهار وتساير ركب الامم المتقدمة كما يردد ذلك صباح مساء زعيمنا الاكبر وقائدنا الاوحد .
