ننشر فيما يلى نص الدراسة التى أعدها السيد محمد الحبيب عباس للمساهمة بها فى مؤتمر الأدباء العرب التاسع الذى مرت اليوم سنة كاملة على انعقاده . وقد تعذر على صاحبها آنذاك الحضور أيام المؤتمر لتغيبه فى مهمة بالخارج
عندما يستوفى مؤتمر الادباء العرب موسمه التاسع ، يوم الخامس والعشرين من شهر آذار ، مارس ، ( 1 ) يكون الفلك الزمنى قد أتم دورته الثامنة والعشرين على بداية أول سعى " جماهيرى " ( 2 ) لتحقيق اللقاء الرمزى ، اللقاء الاول فى تاريخ العالم العربى المعاصر ، بين شطريه : المغرب العربى ، والمشرق العربى
اجل ! فى السادس والعشرين من آذار ، مارس ، سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف 26 / 1945/3 - شرع زعيم الشعب التونسى فى سعيه لاحياء لحمة الاخوة التى تجمع شقى الكيان العربى ، وتوجهه الى دك ما اقامته حكومات الحماية والاحتلال بين الاشقاء من حواجز شغلتهم ، بكروب مهولة ، عن أنفسهم : وبأحرى أنستهم فى اخوتهم !
فكانت مغامرة بطولية فريدة ، أشبه بأساطير الملاحم التى خلدت فى الاداب القديمة مآثر الابطال من الفرس ، واليونان ، والأغريق ، والرومان والقرطاجنيين . . .
فى ذلك التاريخ ، كان المأمور الرسمى فى احدى ديار الاخوة الشرقية لا يعرف هوية الحبيب بورقيبة زعيم تونس ، وقائد جهادها التحريرى ، ولا سمع به !
وليكن هذا القادم المتنكر على مستوى زعامة سعد زغلول " باشا فى أوج تألقه فى قيادة مصر ، فلا مخلص لذلك المغامر من الايقاف ، والاستنطاق والتتبع وقبل ذلك فلن يقام لجهاده الوزن اللائق حتى لا يزج به فى حجرة مظلمة شبيهة بالسجن المضيق ، ليقضى يومه بها ، وينام ليلته فيها بالعراء (4)
فلما اجتاز الزعيم التونسى المهاجر هذه المحنة ، كانت دهشته أشد بحقيقة ما انتهت اليه اللحمة العربية من التفتت ! وهل أوجع لزعيم عربى من أن تلقن الناشئة العربية في أرض عربية رائدة معلومات عن بلاده ، وهى فى صراع مصيرى لا أمر ، أن تلقن ، معلومات تبرهن عن مبلغ انفصام آصرة القربى
يا للفاجعة ! كتب الدراسة الرسمية ، فى البلد المقر لجامعة الدول العربية ، نواة التقارب العربى ، ومنطلق اتحادهم ووحدتهم ، تعرف بلدان شمال افريقيا البلدان المغربية العربية ، تعرفها ، بافريقيا الشمالية الفرنسية ! على عهد من ؟
وزير المعارف آنذاك ، والمسؤول الاول على التربية والتعليم هناك ، هو احد أبرز اعلام النهضة الفكرية والادبية الحديثة فى العالم العربى ، وأحق مفكريه بتصحيح المعلومات عن شخصية افريقيا الشمالية العربية ، لا لكونه وزير المعارف لاقرب البلدان المشرقية من هذه المنطقة فحسب ، بل ولان دولة وزارته من البلدان المغربية ، علاوة على ما تهيأ له من ظروف التعرف الى تاريخها والاتصال بابنائها العرب أثناء دراسته فوق العالية ( 5 ) .
بهاتين الواقعتين أرسم سماكة الحواجز التى كانت مضروبة على الاشقاء
العرب ، وخطورة تشتت أوصال الامة العربية ، وفاجعة التمزق التى كان يعانى آلامها القادة والجماهير بصنوف القهر والارهاب . .
أما اليوم ، فها هو ذلك الغريب المهاجر بقضية شعبه للتعريف بها ، الساعى لاشقائه بوجيب أمته ، المغامر بحياته ، يستقبل الوفود الممثلة للفئة العربية النيرة فى لقاء هام على مستوى عظمة المسؤولية الملقاة على عواتق القادة مفكرين ، وأدباء ، وسياسيين . يستقبل الفئة العربية النيرة باعتباره المسؤول الاول على ادارة شؤون بلاد عربية استطاعت بقيادته ان تستعيد صلتها باشقائها بعد استرداد سيادتها ، واحياء ذاتيتها وكيانها
وأيضا باعتباره من طليعة أدبائها . بل فى طليعة أدباء العربية اللامعين
كثيرون الذين يجهلون بورقيبة الاديب ، لان العمل السياسى الوطنى والقومى والدولى ، وبناء الدولة التونسية قد طغيا على ذلك الجانب الهام من شخصيته بالنسبة لكثيرين لم يتعرفوا التعرف البين على شتى أبعاد عبقريته
وبورقيبة الاديب لم يتخصص فى الكتابة السياسية ، بل وأيضا ، وهذا ما لا يعرفه الا قلة ضليع فى الادب العربى ، تاريخا ، وأدبا مقارنا ، من طراز الدارسين المختصين ، والموهوبين البصيرين
وكم يكون من المفيد أن توفر ادارة الاذاعة التونسية للسادة والسيدات المؤتمرين - فى احدى الحصص القادمة - نموذجا من التسجيلات التى بحوزتها عن احدى تدخلات بورقيبة الاديب خلال بعض الدروس النظامية الثانوية عن الادب العربى
وتونس ، البلد العربى ، التى ارتبطت باسم محررها ، تلك الرقعة التى كانت ، قبل ربع قرن أو يزيد ، لا موقع لها على الخارطة فى اذهان اشقاء كثيرين ، أو لا تعدو أن تكون نقطة مبهمة لدى عدد آخر غير قليل هى التى تحتضن حاليا رسل الكلمة العربية ، وحملة أقلامها ، وأصحاب الرؤى المتألقة من ابناء الامة العربية ، تحتضنهم باعتزاز لا أخلص ، وابتهاج لا أوفى وتواجد لا أنعش
أفما يكون هذا حجة بالغة على صدق نظرية قائدها بخصوص حاجة البناء الوحدوى الى عمل دائب ، وتطور متلاحق ، وتطبيق تدريجى يؤول حتما ، الى انبثاق الوحدة العربية ، انبثاقا طبيعيا لا طفرة فيه ، ولا مخاطرة ؟
ان هذا اللقاء العالى ليمثل ، بعد التحول العميق الذى فرضته الارادة العربية لدك الحصار المضروب هنا وهناك ، لاعادة الحياة والحيوية والاكتنار للحمة الاخوة - ان هذا اللقاء ليمثل - معلما رفيعا فى مجرى العلاقات العربية الدائبة نحو المزيد من التقارب العربى الفعال ، والتفاهم الجدى ، والتعاون البناء ، بل ما هو الا عوامة هادية فى عقد الثمانين من القرن العشرين لمسيرة عربية نريدها أثبت على طريق العزة والمناعة ، لتحقيق وجود عربى ناضج ، ونهوض قومى صامد متجدد ، وابراز الذاتية العربية ابرازا متكاملا على الصعيدين العلمى والفنى للاسهام فى حضارة العصر عن وعى حتى لا تختلط علينا سبلها ، ولا يعتورنا ازاءها بهر ولا تهافت .
وفوق ذلك فهذا المؤتمر ظاهرة مائلة لما يحدو الادباء العرب من تحفز صميم للاسهام الخلاق فى بناء وجود عربى قبل كل شئ على مستوى التحديات الساخرة بمصير العرب على ما هم عليه ، فى الحال ، من انهيار مخجل
وما موضوعاته ، بالنتيجة ، وفى عمق حصائلها الا مراجعة فاحصة لصيرورة الادب العربى المعاصر ، وبالتالى لحياتنا القومية بشتى أوجهها . .
وهل الاديب الحق الا صاهر مبتكر لمعادن الحياة على نحو ما من التصور الطريف ، وفى بعد من أبعادها ، ينفخ فيها من روحه ، فينشئها من المفاعل الفنى قطعة وجدانية نابضة ، أو صرخة طلعية رائدة ، أو جذوة عزة هادرة أو نظرة تأملية فاتحة ، أو عمقا حضاريا نافذا ، أو نزوة ظرفية سادرة ، أو اشراقة علوية مخلصة ، أو مدركا وجوديا أو ما ورائيا منبلجا . . أو غوصا شجاعا على دخائل النفوس فى أعماق الاحياء ، أفرادا ، وخلايا بشرية ، وعلى اسرار الكون الزاخرة بالجمال . والطرافة والثراء . .
وكذلك الادب الحق مستحضر خاص استحالت اليه الحياة المعاشة على نحو ما ، وفى بعض احوالها ، بكيفية تختلف فى انماط التشخيص ، ومقاديرها لكنها لا تختل الجوهر ، ولا تجمد الحركة ، ولا تعزل الاثارة ، فان تدلى العطاء عن هذا المستوى فلا أقل من تشخيص ملامحها على مستوى ملكات الفن ادراكا ووعيا ، غيبوبة وتمثلا ، تصورا وابداعا . .
وحصيلة تلك المراجعة استبصار نافذ بآفاقنا الادبية ، وغدنا الحيوى كى تلتحم اتجاهاتنا الالتحام الاجدى بحياة المستقبل التى نريدها على مستوى من التطور الفنى والذوقى بقدر ما يتقاضانا السباق الحيوى من مؤهلات ذاتية
راسخة على غير انغلاق ، ولا تحجر ، ضاربة فى كينونة الحضارة المتنفذة بلا تقهقر ولا انحسار .
لكن هذه المراجعة لا تحقق غايتها ان هى لم تنبثق عن تقص لاهم المصادر - على الاقل - التى تكون منها أو لاجلها مجموع الانتاج الادبى
ذلك ان دراسة أى جانب من جوانب الاتجاهات الادبية لا تستغنى عن هذا المنطلق العماد ان أريد تحصينها بالموضوعية المنتجة ، وقصدت لتحقيق صيرورة ادبية مطردة التأصل والابداع .
1 - لكن ماذا تعنى المعاصرة فى الادب ؟ ما دامت المعاصرة مناط البحث فى اتجاهات الادب العربى . لان أول ما يتبادر الى الذهن فى هذا العدد هو أن نتساءل عن مدلول المعاصرة فى الادب
ذلك أن المعاصرة إذا كانت تعنى فى مدلولها اللغوى : المعايشة ، مما يقتضى استمرار حياة المعاصر للمعاصر استمرارا حقيقيا ، فهى فى الادب ، كسائر الالفاظ التى تنقل من معناها الاصلى للدلالة على معنى آخر اصطلاحى ، يغاير أصله لدى أهل اللسان ، - يغايره - بالتجوز مرة ، والتخصيص اخرى والتعميم ثالثة . . .
وما صدق المعاصرة فى الادب لا يقتصر على انتاج الاحياء من الادباء ، والا كنا بهذا التحديد قد اعتسفنا بالحمود على المضمون اللغوى العام المستفاد من اللفظ حال الاطلاق ، ولم نتعمق فى استكناه المعرف بالتماس ميزاته الخاصة .
واذا جاز الاخذ بذلك المفهوم المطلق فيما يخضع للانضباط الزمنى الدقيق ، فمشاغل الفكر والوجدان ، والادب من صميم هذه المشاغل ، أبعد ما تكون عن الحران الزمنى الصارم ، بل ان عنصر الزمن كثيرا ما يكون حاجزا مصطنعا وفاصلا مفترضا ، وضرورة تستخدم عند ابتغاء الاحاطة بأطواره ، واستيعاب تحولاته لغاية تربوية أو تاريخية أو اجتماعية . . . ذلك هو شأن العصور الادبية ، ومواقيت التيارات الفنية يكون لها من الخصائص المستجدة ما يبرر ترجيحها على غيرها فى منهجية التبويب والتوقيت ، لكنها تظل فى مرحليتها النسبية غير حاسمة التطويق
ومن ثم يتأكد استعمال المعاصرة فى معنى الحضور ، والادب المعاصر فى الادب الجاضر حتى يشمل الانتاج الذى ينتظم بخصائصه مع من تحققت فيه
المعاصرة تحققا كاملا وان لم يكن منتجه ضمن المعاصرين الاحياء ، فلا نجحد بمقتضى هذا التحليل اللاسطحى - عددا هاما من الادباء الاعلام هم فى صميم الحركة الادبية المعاشة مع أنهم قضوا نحبهم فغابت معاصرتهم الجسدية
وعلى النقيض من ذلك نجد أدباء امتدت أعمارهم على مدى السير الزمنى الذى انظرف للتحولات الادبية التى تمخضت عنها المعاصرة ، ولكنهم ظلو - فيما قبل العصر الذى يعيشون - ينبشون أو يجترون عاجزين عن مواكبة ما يجرى حولهم ، فلا يعونه ، أو يكادون .
2 - مصادر اتجاهات الادب العربى المعاصر :
أ - ولئن لم يكن مطلبى هنا بحث الاتجاهات الادبية المعاصرة نفسها ، ولا استكناه خصائصها ، وتحليل مميزاتها ، فللوقوف على مصادرها - التى هى مناط هذه الدراسة - لا مندوحة ، بعد استجلاء مضمون المعاصرة المنطلق الاساس لدراسة شتى جوانب هذا الجزء من الادب العربى ، قلت لا مندوحة من استمخاض تلك الاتجاهات : النسغ المشترك الذى انبثقت عنه فى مجاريها المختلفة ، وردها - بالتالى - الى المنبع الاصلى الذى مدها كافة بالطاقة الحيوية للاخضال فيما تخلقت . .
وأمت المحاور الى طبيعة جل اتجاهات أدبنا المعاصر : منزع محاولة اثبات الشخصية بوجه من أوجه الاثبات . فعن هذا المنزع انبثقت اتجاهاته ، وفيه افترقت ، ومن أجله تعايشت أو تواثبت .
ب - يطالعنا هذا المنزع فى الادب الذاتى ، الوجدانى ، وغير الوجدانى ، وفى الادب التعاطفى ان صح اطلاق هذه العبارة على الادب الذى لم يتفرغ لشخصية منتجة فحسب ، بل أريد للاستمداد من حوار متعدد الاطراف يتجاوز ذات المنتج وأناه بدءا من المحيط الاجتماعى ، فالمشاغل القومية ، الى المشارب المورودة هنا وهناك فى رحاب المعمورة ، فالمواقف الانسانية المعاشة بالتعاطف أو بالتقابل ، والأيديولوجيات المذهبية ، فالانظار التأملية أو الفلسفية التى تتجاوز عالم الاديب الخاص
ع - واثبات الشخصية يختلف من اديب لآخر كما وكيفا ؛ ومن ثم تعددت الاتجاهات الادبية تبعا للعوامل النفسية والاجتماعية ، والذهنية والثقافية والاحداث السياسية والحضارية . . . ثم بقدر ما للاديب من قدرة على التملى من
حقيقته ادراكا واحساسا واعتدادا ، ومبلغ ما يصيب من أسرار الحياة فى أى مستوى من مستويات التساؤل والاستكناه والحضور المكين
د - والرأى عندى أن اتجاهات الادب العربى المعاصر على اختلافها ، بين التحررية ، والوجودية المادية والروحية ، والرومنطيقية ، والرمزية الحسية والحدسية ، المشرقة والمظلمة ، المتعالية والمتغلغلة فى محيطها ، المتفائلة والمتشائمة ، يمكن ردها الى مصدرين كبيرين :
I - احدهما ذاتى صميم . II - والآخر أجنبى واذا كان الادب المعاصر ، ككل الآثار الفنية ، لم ينحدر فى مجاريه الخاصة مورد الصدفة ، ولا اشتقت انواعه هكذا اعتباطا لا لعلة ، فان طى كل مصدر من هذين المصدرين ، بالإضافة إلى الاستعدادات الشخصية التى يشترك الجميع فى الاصدار عنها ، - فان طى كل مصدر من ذينك المصدرين - من الاسباب الوطنية والقومية ، والعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية ما مد له بالطاقة المخصبة بوجه أو اكثر من اوجه التحقق
1 المصدر الذاتى :
أ - ويصدق المصدر الذاتى - عندى - فى هذا التصنيف على المعطيات التى تمخض عنها المحيط الوطنى الذى نشأ فيه الاديب ، والمناخ القومى الذى تشرب مشاغله وهمومه ، وتجاوبت اصداء هذه أو تلك فى أعماقه بنحو موافق أو معاكس من انحاء التجاوب ، وما امتد الى مداركه ومشاعره من تيارات وطنية وقومية تأثرت به أو أثر فيها ، وكانت قدرا مشاعا بينه وبين شركائه فى المجتمع ، ومقاسمه الكيان القومى ، وما كان لمضاعفاتها القريبة والبعيدة من ردود فعل حبلت بها الاداة الفنية المعبرة
أما العوامل الاخرى التى تميز اديبا عن آخر ، وتكيف انتاجه بكيفيته المخصوصة ، وتحدد نظرته للأشياء ، وتتدخل فى ابراز موقفه ازاءها ، واشتراع اسلوبه الخاص فى تناولها ، وما اليها من عوامل التكوين الشخصى التى تصوغ الاديب على طرازه المتميز ، كنوعية الثقافة التى حذقها ، والمفاهيم الاجتماعية التى تشربها ، والمثل الاخلاقية التى علق بها ، وما نفذ الى اعماقه من مواريث المحيط الذى انجبه ، ونمط العلاقة التى سادت حضوره الاجتماعى والقومى
وما استماله من انماط التأدية الادبية ، والمدارس الفنية - فذلك وان كان مصدرا ذاتيا فانى استبعدته - هنا - عن مفهوم المصدر الذاتى الاعم الذى حددته قبل ، فمطلبى هنا ، ليس المصدر الذاتى الشخصى ، وانما ما يتجاوز الخويصه ، لان المصدر الذاتى بمفهوم الخويصة وان كان - هو الآخر - فاعلا مؤثرا ، فان تأثيره ومفعوله يبحثان فى مرحلة تالية من مراحل التمييز سمها ان شئت : الميزات الشخصية الخاصة .
ب - والعالم العربى منذ استهلال الخمسينيات ، ومن قبل - يعج ، وما يزال ، بالمفاجآت والتحولات التى أثرت تأثيرا عميقا فى الحياة الخاصة والعامة ، بعضها قد تجاوز المجتمع الذى تمخض عنها مباشرة الى بيئات أخرى تغايرت ردود فعلها . .
وكان الاديب فى طليعة من تنشق روائحها ، وبحسب وعيه وحضوره ، ومبلغ فهمة وتأثره وتحسبه وتخيله واخلاصه ، صرف اداته الفنية ، عن هدى أو ضلال ، عن عقيدة أو تعصب ، عن اقتناع أو اغترار أو اضطرار . . . صرف أداته لخوض المعمعة فى الاتجاه الذى تخيره ، أو جرى مجراه .
واذا كانت شؤون الفكر ، وتيارات الادب لا تخضع للتحديد الزمنى الصارم ، لان أى اتجاه فكرى ، وكل تيار أدبى ، يغوص بجذوره فيما هو اسبق من فترة تبلوره وتميزه ، كما يمتد بالتوريث فى مزحزحه عن تربته ، فانه لا مندوحة عن تجاهل دور الاربعينيات ، وخاصة السنين الاخيرة منها ، فيما حفلت به العقود الثلاثة بعدها من احداث انعكست آثارها على الحياة القومية ، كما امتدت موحياتها على فنون الادب ، خاصة وفى احداث الاربعينيات ما هو على جانب عظيم من الاهمية والخطورة لم ينفك مهيمنا على حياة الامة العربية ، ماثلا فى واقعنا مثولا بارزا متحولا فى مستتبعات بناءة ، وأخرى شائكة ، واحيانا صاعقة . . .
1 - تحرير السيادة الوطنية وفى طليعة مصادر الاتجاهات الادبية : مطلب تحرير السادة الوطنية . لقد شغل هذا المطلب ، فى بدء الخمسينات وقبلها وبأحرى بعدها ، الاقطار العربية التى كانت ترزح تحت نير الاستعمار ، والتى كانت تناضل من أجل تحررها ، وخاصة بلدان المغرب العربى ليبيا ، وتونس ، والجزائر ، والمغرب وفلسطين ، فانعكس النشاط التحريرى على أدب هذه البلدان ، وامتدت اصداؤه
الى أدب أشقائها فى البلدان العربية المستقلة حتى تجمع تراث ضخم من أدب النضال - شعرا ، ونثرا ، وقصصا ، وتمثيليات - متمثلا مواقف الابطال والثوار والشهداء ، أو مراوحا بين الاسهام العملى فى حركات التحرير السياسية والثورية ، وبين الانغماس فى تجارب النضال بوسائل الابداع الفنى ، وعبر هذه المشاركة تواجد ادباء البلدان العربية المستقلة مع اشقائهم فى معامع التحرير ، وتجاوبت مشاعرهم فى انحاء الثورات ، ومعاقل الابطال ، فى المحتشدات والسجون ، وفى الملاجئ والمهاجر والمنافى
وعلى سبيل المثال - لا الحصر - نخص بالذكر من اعلام النثر التحريرى : الفيلسوف سالم بن حميدة ، ومحمد الخضر حسين ، ومحمد الهاشمى ، واحمد الشريف وزين العابدين السنوسى وعبد العزيز الثعالبى ، ومحمد البشير الابراهيمى ، وابراهيم طفيش ، ومحمد العاصمى وأبو اليقظان الحاج ابراهيم وعبد الحميد بن باديس
والرئيس الحبيب بورقيبة ، والهادى نويرة ، ومحمود الماطرى ، ومحمد بدره ، والحبيب ثامر ، ومحيى الدين القليبى ، وراجح ابراهيم ، وفرحات حشاد ، والمنجى سليم ، والطيب المهيرى ، وعلى البلهوان ، والطيب العنابى وحسين الجزيرى ، ومحمد الفاضل ابن عاشور ، ومحمد المختار بن محمود ومحمد الشاذلى ابن القاضى ، والمنصف المستيرى ، ويوسف الرويسى ومصالى الحاج ، وأحمد توفيق المدنى ، وفرحات عباس ، وعلال الفاسى ، واحمد بن سودة ، وعبد الكريم غلاب ، ومهدى بن بركه ، ومحمود شرشور ومصطفى الفيلالى ، ومحمد مزالى والحبيب الشطى ، والهادى العبيدى ، ومحمد العروسى المطوى ، وسعيد المبروك ، ومحمد المرزوقى ، ومحمد الحبيب عباس
ومن الشعراء نسمى سالم بن حميدة - أيضا - ومصطفى خريف ، والطاهر القصار ، ومحمد العروسى المطوى ، ومحمد المرزوقى ، والهادى نعمان ، والناصر قمحه ، ومنور صمادح ، ومحمد المزهود ، ومفدى زكرياء ، وعبد الله صالح الجزائرى ، وصالح الخرفى ، والاخضر السايحى ، ومحمد المختار السوسى وعبد القادر بن حسن ، وعبد المجيد بن جلون ، وعبد الكريم ثابت الفاسى وأحمد رفيق المهدوى . . .
أما الذين جندوا أقلامهم ومواهبهم لاسناد قضايا التحرير فأخص بالاشارة أمير البيان شكيب ارسلان ، والمجاهد العربى الكبير الكبير محمد على الطاهر والزعيم الثائر أحمد حسين ، وانطون الجميل ، وأحمد رمزى . .
ومن الشعراء معروف الرصافى ، وعبد الوهاب البياتى ، وبدر شاكر السياب ، ونازك الملائكة . . .
وكما سبقت الحركات التحريرية بالظهور بداية العقد الخمسينى ، فالاتجاه التحريرى فى الادب العربى كان هو الآخر ، وتبعا لهذا المصدر - اسبق ظهورا من الخمسينات . وغاية الامر أن الحركات التحريرية والادب التحريرى - كليهما . أخذ منذ انتصاف القرن يتحسس بعمق مأساة الاحتلال الاجنبى ، ومتطلبات التحرير الوطنى ، ويلتحم أكثر فأكثر بقضية الحرية ، وخاصة بعد اندلاع الثورات المسلحة لمواجهة الارهاب الاستعمارى بالسلاح والفداء . .
ومن نماذج ادب الترسل فى الاتجاه التحريرى ما نقتطفه من رسالة للزعيم الحبيب بورقيبة :
" ٠٠٠٠ لا يمكن تصور ما يقاسية المغترب من الآلام الادبية عندما يكون محروما ، فوق ذلك ، من اخبار بلاده . . الكوليرا ضاربة أطنابها فى البلاد . ونحن عائشون فى قبر . . . ان سكوت تونس المضنى ، مع الكوليرا المخيمة هنا يجعلاننى أحس بوحشة العزلة ، وثقل الانتظار ، بل وكابوس الغصة . انتظر بفارغ صبر نهاية هذه الحالة . أنا كالشجرة المستأصلة من وسطها الطبيعى تصبو بكل ما لديها من قوة الى الاتصال بتربتها التى نشأت فيها ، وبالكائنات التى ربطت بها حياتها واوثقتها . نعم انى امتنع من قطع اسباب الماضى وتنظيم حياتى بمصر على قاعدة تلك القطيعة ، لان روحى دائما بتونس ريثما يلتحق بها جثمانى . ألتهب شوقا الى الجو العائلى ، حب العشيرة غريزة أخذت منى كل مأخذ طول حياتى . وقد كان مما أذكى ألم الشوق بين جنبى أن قدرت على تصاريف الدهر القاسية بالعزلة والنأى . ما يحزننى . . ان الشعب لا يأتى بأى عمل جدى لاثارة القضية التونسية ، والسعى فى تعبئة التأييدات التى توفقت الى حصولها من الخارج . كيف لى ، وأنا فى عزلة أو كدت ، أن أغير من هذه الحالة ؟ ! أطالع أهم ما ينشر فى تونس فاذا هى عين التذمرات المعروفة وعين التظلمات ، وعين الشكايات من عين سياسة التصرف المباشر والابتلاع والاستغلال ، بينما تمشى بنا الايام ، وكل يوم يلقى العدو بصخرة جديدة على رؤوسنا ، ويأتى بمصيبة لم تكن فى الحسبان ، وتتقهقر بالامة لفائدة جالية فرنسية صارت تستبيح لنفسها ما تريد بدون مبالاة . وما قدمته من التعليمات ، وما اصدرته مباشرة من الاوامر لم يكن له ادنى نتيجة ، فلا يوجد من يغامر بحريته ، وبالاحرى بحياته . تلك هى خاصية الشعوب المقضى عليها
بالاندثار ، يودون أن يكونوا احرارا ، ولكنهم ينتظرون تحريرهم من معجزة تأتى من الخارج . وتلك المعجزة لن تأتى ما لم يعملوا من الداخل . . . " ( 6 )
أما القضية الفلسطينية فهى أهم المصادر الذاتية للتيارات الادبية المعاصرة على الاطلاق ، لانها ما تزال قضية العرب الكبرى ، وحلها ما يزال شغل احرارهم ومفكريهم وقادتهم منذ الثلاثينيات ، كما كانت وراء ظهور الدعوة الى اعتناق القومية العربية ، وربطها بمطلب الوحدة السياسية لاقطار العالم العربى وشبت بسببها أو تذرعا بها ، الثورات ، وظهرت الانقلابات والانتفاضات وارتكبت الاغتيالات والخيانات ، وأنجزت تجارب وحدوية أقل ما يقال عنها أنها لم تحقق غايتها المنشودة ، واحق ما تذكر به انها استغلت استغلالا شنيعا رمى البلاد العربية بالانقسام والتناحر ، والشعوب المحتضنة لها بامتحانات عصيبة وحملت على مضاعفاتها الايدولوجية بأساليب ميكيافيلية باطشة . ولم يسلم الفلسطينيون انفسهم من لفحها الضارى تحت شعار تحرير الارض المغتصبة من الاحتلال الصهيونى ، وانتحال التهم لمصادرة حركاتهم ، وتمزيق جموعهم
واستنزاف قواهم ، والحيلولة بينهم وبين أى نشاط فدائى منظم ، أو تكتل سياسى كفيل بحماية القضية الفلسطينية من التلاشى ، وتوفير المناعة لاستمرار حدة المشكل كيفما امتد الزمن حتى يتحرك الضمير العالمى استشعارا بفظاعة المظلمة التى صرف عن ادراك حقيقتها ، فيهب لتدارك مواقف الخدلان التى أسهمت فى ضياع حقوق الفلسطينيين جراء تأثره بمغالطات المعتدى وتقصيره فى التعرف الى ابعاد القضية تعرفا موضوعيا لا يتعاطف مع الاطراف التى لها علاقة بقيام دولة اسرائيل ، فكانوا وراء التآمر على ابناء الوطن الفلسطينى ، وكان للجدل العقيم الذى غرقت فيه القضية الفلسطينية عبر المتناقضات العربية أسوأ الأثر على تطور القضية ، وظلت تغور فى المزايدات المخربة بدل أن تكسب الانصار والمؤيدين ، وارتبط مصرها بقيام قيادة فلسطينية جريئة ، واندلاع ثورة عتيدة مخططة تعدها ادمغة فلسطينيه ويشنها فدائيون فلسطينيون تكون على مستوى الاحداث بذلا وتدبيرا استمرارا وضراوة . .
ولا يعنى هذا ان الفلسطينيين قد تخلوا عن بلادهم ابان التآمر الاستعمارى عليها باقرار مبدإ التقسيم ، فالحوادث الدامية التى هزت سائر انحاء الارض
المقدسة هزا عنيفا وخاصة اثر اعلان قيام دولة اسرائيل تشهد لهم بالوفاء السخى الذى حاولوا به افتداء الوطن غير أن ضراوة الارهاب التى سلطها الصهاينة على السكان الاصليين أتت على أنشطة المقاومة الواحد تلو الآخر ، فاضطر الاهالى الى التخلى عن ارزاقهم وممتلكاتهم ، ونجا من استطاع ذلك بابدانهم الى ديار الهجرة ليلاقوا ضروبا أخرى من العناء والبؤس فى المخيمات المنبوذة ، واللاجئ المزرية ، الى أن انبعثت ارادة التحرير ، من جديد ، فى الاحرار الفلسطينيين بعد هزيمة جوان 1967 ، فعادت المقاومة المسلحة تحاول أن تبعث القضية الفلسطينية من حنوطها وسط ظروف عصيبة من التألب الخانق والتآمر الغادر . .
وليس من الوفاء أن نمر بهذه المحنة العربية دون أن ننوه بتضحيات المجاهدين من الرعيل الفلسطينى الاول فى بداية النكبة ، وعلى رأسهم المجاهد العربى الكبير محمد على الطاهر ، والزعيم الفلسطينى المرابط الحاج أمين الحسينى والقائد البطل عبد الله التل ، كما لا يجوز الا نمجد بطولة الرعيل المعاصر منذ نكبة 1967 الذين اشترعوا طريق الفداء بدمائهم الزكية .
ومن حول الرعيلين لم يزل وجيب المخلصين من ابناء الامة العربية ينبض لاخوانهم فى الارض المحتلة وخارجها ، وانكب على القضية المفكرون والسياسيون والزعماء ، وتحركت المواهب تستوحى اوضاع الفلسطينيين هنا وهناك فتدفقت فيوض من معين الادب الصادق بتجارب البطولة ، وآلام المحنة ، ومآسى الاضطهاد ، وجرى مداد غزير بمشاعر العرب الحامية ، وخيبتهم المرة وتطلعاتهم المشفقة . ولم يزل ادب المقالة والقصة والمسرحية والرواية والقصيد يثر على غير نضوب ، كما لم تنفك مشاعر التعاطف تهتز للاحرار بالتأييد والتشجيع ، ولدم الشهادة بالاكبار والاجلال
حسبنا أن نشير الى ما تناولت به مجلة " فلسطين " ( 7 ) القضية الفلسطينية على مدى ثلاث عشرة سنة تعريفا وتاريخا ونضالا . وما خصها به الكاتب العربى اللامع المجاهد المحتسب محمد على الطاهر - سواء فى جريدته " الشورى " وفى غيرها من الجرائد العربية اللسان ، أو فى تأليفه الخاص بفظائع الانقليز فى فلسطين وغدر اليهود الذى اسماه " أوراق مجموعة ، كتاب
احمر عن فظائع الانقليز فى فلسطين ، وغدر اليهود وصبر العرب أو ما اشتمل عليه كتاباه معتقل هاكستب " و " ظلام السجن " من فصول تناولت القضية الفلسطينية ، ومحن الفلسطينيين
والشهيد غسان كنفانى ) 8 ( والشاعرة كلثوم عرابى ) 9 ( أرمز بانتاجهما الادبى الى ما حبلت به مواهب الفلسطينيين كتابا وشعراء - وخاصة منذ الستينات - من انتاج أدبى صميم
يتبع
