الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

المضمون السياسي في الرواية التونسية

Share

يرتبط مضمون الرواية العربية المعاصرة الى حد كبير بوقائع الاحداث والملابسات الاجتماعية والسياسية ، والاقتصادية التى مرت بها الاقطار العربية ، منذ مطلع القرن الحالى وحتى الآن .

فاذا كان الشعر العربى قد ساهم فى الهاب المشاعر ، والدعوة الى النفير ، ونزع الى التحريض والايقاظ وجلجل فى الساحات ، واذا كانت القصة العربية قد رصدت حركة التطور الانسانى فى هذه الرقعة الجغرافية على سعتها ، وسجلت الخطوات البارزة التى قطعها المجتمع العربى فى رحلتى العذاب والرخاء - فان الرواية التى تعد أحدث أنماط الكتابة العربية لم تتوقف عند حد التحريض ، ورصد التحولات فحسب ، وانما نجدها تؤرخ لنضال الجماهير فى هذه الاقطار ، وتفتح صفحاتها لتكتب التاريخ الذى لم يتجرأ المؤرخون على كتابته حذر التعرض لسخط السلطات ، ولتدون فى سعة وتمثل التجربة الابداعية السخية للطبقات الكادحة فى نسق يغالب تواتر الاحداث وتعاقبها .

ان الروائى العربى لعب لحد الآن دورا مزدوجا دور المؤرخ الذى يكرس معظم ابداعه لاظهار مواهب الفئات الواسعة ، ودور الفنان الذى يقصد بسعيه تأكيد الوقوف الى جانب الجماعات المكافحة الغاضبة ، والمغضوب عليها .

ومن هذه الزاوية فان الرواية العربية ، ربما اصبحت فى المدى القريب والقرين مصدرا هاما من مصادر التاريخ الاجتماعى لا غنى عنه لمعظم الباحثين في مختلف تفرعات الفكر ، بما فى ذلك المؤرخون المتخصصون فى دراسة التاريخ ذاته ولربما كانت الرواية أيضا المصدر الوحيد الذى يصح الاعتداد به مستقبلا

فى مثل هذه الدراسات لانصراف الرواية فى معظم أحوالها الى ابراز الواقع المعدوم ، المتجاهل للفئات الهامشية التى ترتبط بالاحداث اليومية ولا تتصدر النشرات الاخبارية فى مطلع كل ساعة زمنية ، ولا يعبأ بها المؤرخون للاحداث .

وانه لمن الصدف الرائعة أن تلج الرواية العربية تاريخها من خلال المراحل العصيبة التى عاشتها الامة العربية فيما مضى من ثلثى هذا القرن . فعاصرت غمرات النضال ، وواكبت الانتقالات الفريدة التى خرجت بهذه الرقعة العربية ذات الامتداد الباهر من طور الاستعمار الى طور الحرية .. ومن طور حكم السلالات المستبدة الى طور الطبقة الفاعلة ، اليقظة المؤثرة فى توجيه الاحداث ومن طور الطبقية والامية الى وضع الشعور بالذات والكرامة ، والقدرة على التمرد والعصيان والثورة .

وقد استمر تطور الرواية وارتباطها بالاحداث السياسية يتنامى بتنامى الصدمات الاجتماعية والسياسية ، وتراكم الازمات التى مر بها العالم العربى اثناء مواجهته الثأرية العنيفة مع الاستعمار الانقليزى والفرنسى والايطالى والصهيونى . وكذلك اثناء طرح مشاكل التفاوت الطبقى ، والصراع الاجتماعى ، والانحراف السياسى .

كان الروائيون العرب على اختلاف نزعاتهم وأساليبهم ، وعبر السنوات المختلفة دعاة تطلع وطموح ، عبروا بأكثر ما يمكن من الصدق والواقعية عن ايجابيتهم من الاحداث . وحافظوا على مواقفهم فى اتجاه التقدم بما فى ذلك الروائيون الذين شغفوا بتناول قضايا ومشاكل الطبقة البرجوازية اذ كانوا فى أكثر الاحوال قد عملوا على فضح تناقضاتها ، وتفسخها . وعدا نفر قليل من كتاب الرواية الذين اتخذوا من الكتابة حرفة الهاء لتسلية المراهقين والمراهقات ، وابتزاز مشاعرهم ، وحبك المغامرات والعواطف الكاذبة فان بقية الروائيين العرب نجدهم يطرحون أعمق المشكلات الثورية والانسانية ، ولا يقلون فى ذلك مستوى فنيا أو فكريا - رغم حداثة التجربة - عن بعض روائى الطليعة فى العالم الثالث .

ومن المؤمل ان تبلغ الرواية العربية منزلة لائقة بشرط أن يثابر كتابها على الاستمرار فى الخلق والابداع ، وان يخرجوا بهذه المحاولات من اطار تسجيل الاحداث الماضية والوقائع التاريخية الى اطار معايشة القضايا المتجددة بين اللحظة والاخرى .

ورغم ان عددا من نقاد الرواية لا يوافقون على استحالة الروائى الى صحفى، أو مراسل حربى أو كاتب مذكرات يومية الا انهم يأبون عليه ان يدع الاحداث تمر تحت ذقنه ليعيد تركيبها بعد انتفاء فاعليتها واستحالتها الى ركام من الذكريات .

ان المضمون السياسى للرواية العربية يرتبط لحد الآن بتاريخ الاحداث البعيدة التى تعاقبت على الاقطار العربية ، ودور الروائى العربى فى ذلك لم يتعد فى الغالب اعادة تركيب هذه الاحداث من خلال التصورات والتخيل . وهناك محاولات محدودة اهتمت بتقصى الحافز واستلهامه ، ولكن كاتبيها لم يتمكنوا من تجريد انفسهم منها ، مما جعل هذه الرواية تبدو أقرب الى تعبير عن الواقع الذاتى للكاتب ، منها الى التعبير عن الواقع السياسى والاجتماعى لمرحلة من المراحل .

هذا اذا لم يعمد المؤلف الى الارتداد بمضمون روايته الى الماضى ، قصد طمس معالم الحاضر بسبب التهيب والخوف من التبعات والاشكالات السياسية

وفى هذا المنحى تتشابه معظم الاعمال الروائية التى صدرت فى المغرب او المشرق على السواء ، ذلك التشابه الذى يدل بوضوح على طبيعة المشاكل التى تعانى منها الاقطار ، وتماثل الاحداث فيها ، ونوعية الأنظمة السياسية فى جميعها . كما يدل هذا التشابه على وحدة التجربة الابداعية بين هذه الاقطار التى لها خصائص متقاربة ، وان تفردت كل منها بما يميزها من سمات قطرية محلية تمليها الاوضاع الجغرافية والبشرية والاقتصادية ، وكذلك الظروف السياسية الوطنية .

يطرح المضمون السياسى للرواية العربية قضيتن جوهريتين : قضية الكيان والهواية فى مرحلة الصدام مع الاستعمار ، وقضية الصراع الطبقى فى مرحلة البناء الوطنى والقومى .

وحول هاتين القضيتين تحوم معظم القضايا الطفيلية الاخرى التى تتشعب عنهما .

وعند البحث فى القضية الاولى ، نصادف فى جل ما صدر من روايات على امتداد الحروب التى خاضتها الامة العربية آثارا لهذه الحروب وصورا من المقاومة الشعبية ضد الانقليز فى روايات نجيب محفوظ من مصر ، وغائب طعمة فرمان

من العراق ، وضد الفرنسيين والايطاليين والصهاينة فى كتابات محمد ديب وكاتب ياسين من الجزائر وحنا مينا من سوريا وعبد الكريم غلاب من المغرب وغسان كنفانى من فلسطين ومحمد المختار بن جنات من تونس وغيرهم .

اما قضية الصراع الطبقى ، والمناداة بالعدالة الاجتماعية والثورة ضد البرجوازية المحلية التى ورثت الامتيازات التى كانت للاستعمار تحت دعاوى مختلفة فانها تكاد تحتل الجزء الاوفر من اهتمامات الرواية العربيه ، بالرغم من ان معظمها لا يصدر عن نظرة ايديولوجية لقضية الصراع الطبقى بقدر ما يعبر عن المساندة ، والتعاطف مع كفاح الاغلبية الاجتماعية . والرواية التونسية على حداثة تجربتها نجدها منذ البداية ترتبط بالاحداث السياسية فتتجند لمقاومة المستعمر او بالاحرى لابراز الكفاح الجماعى الذى خاضه التونسيون ضد الفرنسيين فى الخمسينات ، وتتوافر على تسجيل هذا الكفاح ، وعلى الاشادة بالبطولات الظافرة التى بذلها المقاومون فى المدن والجبال ، من اجل الدفاع عن الكيان الوطنى وتأكيد الهوية القومية لهذا الشعب وهو ما تبرزه روايات ((ومن الضحايا )) ، (( حليمة )) و(( التوت المر )) للعروسى المطوى ((الدقلة فى عراجينها)) للبشير خريف ، و((ارجوان)) و((نوافذ الزمن)) للمختار بن جنات و ((بودودة مات)) لرشاد الحمزاوى و((يوم من أيام زمرا)) لمحمد صالح الجابرى ، و ((عندما ينهال المطر)) لعبد الرحمان عمار و((في بيت العنكبوت)) لمحمد الهادى بن صالح كما تبرز قصة الارض وكفاح الانسان العادل من اجل القوت وتكافؤ الفرصة فى معظم الاعمال الروائية الاخرى كروايات ((المنعرج)) لمصطفى الفارسى و((نصيبى من الافق)) لعبد القادر بن الشيخ و ((سوق الكلاب)) و((هذه الشجرة)) لمحيى الدين بن خليفة و(( البحر ينشر الواحه )) لمحمد صالح الجابرى ، و ((عواصف الخريف)) لعبد الرحمان عبيد .

ومن خلال هذه المحاولات الروائية يمكن التعرف على تاريخ الشعب التونسى. ومدى ما قدم من تضحيات جسيمة فى سبيل الكيان والهوية ، وفى سبيل الارض ، ودعم حق الاكثرية فى الحق والعدالة .

واذا كان بعض النقاد يضع جانبا من الاحترازات تجاه ما يكتب عن الثورات الوطنية التى ما يزال قادتها على قيد الحياة ، وربما كانوا فى قمة السلطة أحيانا فان هذه الاحترازات تبدو فى الواقع ضربا من الاتهام المسبق لقدرة الروائى على تجاوز المبالغات الخاصة بالاشخاص ، والنظر اليهم فى اطار الكفاح الجماعى .

على ان المقصود احيانا بهذه الاحترازات المطروحة هو حمل الكاتب على الخروج من دائرة الماضى ، والتغنى بالثورة والامجاد والبطولات التى صنعها الشهداء والراحلون الى الكتابة عن الحاضر والواقع اليومى ، والانغماس فى حمأة الصراع الدائب المستجد ، ومواجة الحياة بصرامة وربما كان المقصود منها أيضا دك خط الرجعة لدى الكاتب العربى الذى يعشش فى قلبه حنين أبدى للحلم واعتزاز مفرط بكل ما خلف وراءه من أمس .

تعتبر رواية (ارجوان) لمحمد المختار بن جنات فى مقدمة الاعمال الروائية التى أرخت لمرحلة المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين ، وقد بذل كاتبها جهدا خارقا من اجل ان تكون موسوعة روائية تستوعب عامين من النضال : هما عاما اندلاع الثورة الوطنية من سنة 1952 الى سنة 1954 اى بداية من الكفاح المسلح الى الاستقلال الداخلى الذى سبق الاستقلال التام فى سنة 1956 .

وتقع رواية (ارجوان) فى سبعة اجزاء ، وفى نحو اكثر من الف صفحة مطبوعة وهى بذلك تتجاوز فى حجمها كل ما صدر من روايات عربية لحد الآن بما فى ذلك ثلاثية نجيب محفوظ . وقد ظهر من هذه الرواية - النهر - كما يقول الاجانب او هذه الموسوعية الروائية ان صح التعبير - ثلاثة اجزاء فقط ، ثم عطل الناشر صدور بقية الاجزاء لخلاف شخصى بينه وبين الكاتب . ورغم انى تمكنت من قراءة مخطوطة هذه الرواية اكثر من مرة فان الموضوعية تلزمنى بأن لا أتجاوز معالجة مضمون الاجزاء الثلاثة المتوفرة لدى القراء وهى اجزاء تقدم فى مجموعها صورة متكاملة لكل من يطلع عليها ، ولكنها لا تعطى سوى صور منقوصة لمن تسنى له ان يطلع على ما لم ينشر من هذه الرواية .

وقد عزز المختار بن جنات تجربته الروائية فى الاتجاه الى الادب التسجيلى الوطنى برواية ثانية صدرت سنة 1974 بعنوان (نوافذ الزمن) لتروى قصة ما حدث في معركة بنزرت الشهيرة فى صائفة 1962 . ويبدو لمن اطلع على كلتا الروايتين ان المؤلف استطاع ان يقنعنا بتطور تجربته الروائية من خلال التوازن الفنى الدقيق الذى اقام عليه معمار روايته (نوافذ الوجود) التى اعدها شخصيا رواية الروائيين التونسيين من الناحية الفنية على الاقل ومن المؤسف ان تلقى بعض المحاولات الروائية الفاشلة من الدعاية والرواج بسبب غياب النقد الواعى النزيه ما لم تلقه اعمال هذا الكاتب الذى وجد فى نفسه الجرأة بأن يكتب عن الاحياء ، ويبرز اسماءهم الصريحة ، ويعلن عن أدوارهم فى الثورة التونسية.

ومهما قيل في هذا اللون من الكتابة وما ينطوى عليه من الاحكام والآراء التى لم ينته المؤرخون من البت فيها فان المؤلف لم يكتب تاريخ الثورة التونسية ، لكنه حاول ان يضع هذه الثورة فى اطارها الاجتماعى ، ويبرز من خلالها ما قامت به مختلف الفئات الاجتماعية خصوصا وقد لعب دور البطولة فيها الابناء المغمورون من هذا الشعب دون ان يفرد المؤلف فى روايته أى زعيم او قائد بما يتمنى لنفسه من الهالة ، عدا ما كانت الاخبار العامة تفرض تداوله بين الناس فى مختلف الاوساط عن هؤلاء القادة الذين سجنوا ، او هذا الحزب الذى يقوم بالتحريض على الثورة أو تلك المنظمة النقابية التى شاركت بفعالية فى دفع العمال وترشيدهم الى وعى منزلتهم من خلال شخصية (قدور القادرى) مثلا ، وعلى خلاف هاتين الروايتين فان معظم ما كتب من الروايات الاخرى ، عن الثورة ومضمونها السياسى والاجتماعى ، كان يفتقر إلى العمق أحيانا ، والى الفن والابداع فى أكثر الاحايين ، وهو فى جملته مجرد استعراض للوضع البائس الذى كانت تعيشه تونس فى العهد الاستعمارى ، ومجرد تصوير لاحداث لها أساس فى الواقع ، عرضت باسلوب تغلب عليه التقريرية ، وتجمح فيه الروح الوطنية العالية .

ان السمة البارزة للرواية النضالية فى تونس ، هى ان القارىء يستطيع ان يطالع من خلالها تاريخ الثورة التونسية الذى لم يكتب بعد . وعلى خلاف ما يظهر به كتاب التاريخ من خشية واحجام عن ابداء وجهات نظرهم ومواقفهم من الثورة المسلمة ، والثورة السياسية وما حف بهما من ملابسات ، فان الروائيين وجدوا فى أنفسهم بعض الجرأة ليكتبوا هذا التاريخ كتابة أدبية ، ولينصفوا الفئات المغمورة والهامشية التى قامت بواجبها الوطنى ، وكانت لها غايات تتجاوز مجرد المصالح الشخصية ، وتهدف أساسا الى ابراز الهوية الوطنية والقومية ازاء ما كان يقصد اليه الاستعمار من طمس لهذه الهوية . فجلال القديرى ، وصلاح وقدور ابنا عمه رغم تفاوت المستويات الثقافية والبيئية ، ورغم ما يفرق بينهم من الاختلاف فى المستوى العائلى والفطرى نجدهم جميعا امام القضية الوطنية على نفس المبدإ والغاية .

جلال الشاب الذكى المثقف الواعى لكل تحرك استعمارى ، والذى ما يزال طالبا بالزيتونة ، وكذلك صلاح ابن عمه الذى يقل عنه ذكاء ووعيا ، وثالثهما ابن عمهما العامل البسيط الذى يعول اخته (فضيلة) ووالدته (صالحة) ثلاثتهم يؤلفون طليعة الفئة الاجتماعية التى توحدت جهودها لاخراج المستعمر واعلان

الحرب عليه ، كل بوسيلته الخاصة . جلال بعقله المدبر المنظم للمظاهرات والاجتماعات وبطبيعته المتميزة بالدهاء والخجل والبرودة .

(( علت الهتافات فغطت الهمسات ))

وشعر انه استمع الى ما فيه الكفاية . وادرك بمرارة انه لم يكن مخطئا حين ظن ان الهمسات ذات دلالة مرتابة تثير الريب والشك : ((تلك معادن الثورة/ الذهب والحجارة . لكن هل نحن فى حاجة الى الضفادع ، والحيات السامة، والجراثيم الفتاكة لابد من صهر المعادن ..

.. وخطرت له فكرة . وقلبها فى ذهنه قليلا ، ثم نهض بهدوء واخترق صفوف الجالسين حتى اقترب من المحراب ، وأشار الى احد المتصدرين ، واقتحم الجناح الخلفى لبيت الصلاة . وتساءل فى قلق (( أفهم الرجل ما تعنيه ؟ وهل انتبه الشيخ وجليسه الى اشارته ؟ ))

وأسرع يطمئن نفسه الى أنه اجتهد كثيرا فى اخفاء اشارته .. فلا خوف اذن من الامر ما دام قد فضل الاقدام على تنفيذ الفكرة .. وماذا يخشى ؟ هل الوقوق فى يد المفتش ، ام الاستهانة بفكرته ونبذها ؟ سيراها مجرد هواجس لا سبيل الى اعتبارها .. واقع الحال يفرض دائما وجود الخونة .. والمظاهرة ستنطلق ، وليعطلها المفتشون مهما كثروا ، واندسوا بين الصفوف .. هذا فقد اوقعتك الاوهام والمخاوف فى الشطط .. ثم هاهو واقترب الرفيق منه ، فغرس نظرته فى عينيه :

- أريد أن أفاتحك بسر خطير ص (95) .

وصلاح باندفاعاته الوطنية التلقائية ، وبوقوعه تحت تأثير جلال ابن عمه الذى استطاع ان يطلقه من قيد عائلتهم الموالية للادارة او البروقراطية ، ويزج به جنديا فى معركة الشعب .

وكذلك قدور العامل فى حظائر البناء تحت امرة ضابط فرنسى نجده هو الاخر يطلق الخمرة واللهو واصدقاءه فى العمل . وينطلق ليلا من فوق سطح بيتهم الكبير من نهج (( حمام الرميمى )) ((بباب سويقة )) متحديا خطر التجول المفروض ، للبحث عن جلال الذى تناهت الاخبار بانه اعتقل مع الطلبه المعتقلين الذين نظموا مظاهرات الاحتجاج على الوجود الاستعمارى وعلى التعسف والقهر.

وعبثا حاولت (( صالحة )) ((اثناء ابنها قدور)) عن مغامرته وسحب السلم من تحت قدميه ، ولكنه كان قد عاب وترك السلم وراءه .

(( وباعد بين رجليه ، وهو واقف يستشرف برأسه المثقل معالم المدينة ، وعصر المساء بكآبته تلك النشوة التى اخذت تذوب فى رأسه .. كانت الشمس تحتضر وراء البنايات الشاهقة ، وتنشر اشعتها فى اشلاء السحب الملوثة بشحوب الاصفرار الغائم . وزحف اليه من الغروب تثاؤب اسود ، اخذت تسبح فيه اجنحة طيور ظلت تتخبط لتقع على اعمدة الكهرباء وعلى فغرات ميازيب السطوح ، وعبر السكون النسبى المخيم على العاصمة كان يرتفع من حين لآخر صليل السيارات الحربية . يرتفع ثم يتلاشى مع التواءات الشوارع المدفونة فى احشاء المدينة ، واحس بالاعياء يكتسح أعصابه ، فاستلقى فى انهيار على ارضية السطح المصدوع .

والتمس بانبطاحه وضعا مريحا ووسد رأسه فوق ذراعيه ، واطبق اجفانه . وامحت الصور والاحاسيس والخلجات ، بينما تلقف أنفه انفاسا مجهدة أحالها الى شخير ممجوج . ص (136) .

ومن ثم ينضم قدور الى الثورة المسلحة التى تتلاءم مع مواهبه فى الاندفاع وتحمل المشاق والرغبة فى البذل والاقتناع بان العنف المسلح هو الاسلوب الكفء لمواجهة العنف الاستعمارى .

ان ثلاثتهم (جلال - صلاح - قدور) يمثلون جيلا جديدا استيقظ ليجد نفسه فى خضم المواجهة مع العدو .. فى خضم حرب هم مدعوون لتحقيق الانتصار فيها ، مهما كانت الصعاب والاسباب ، لانها حرب الكيان والهوية . وبنظرة اوسع فثلاثتهم بالرغم من انتمائهم الى شجرة عائلية واحدة انما يمثلون الطبقات الاجتماعية المتباينة التى تختلف مشاربها واوضاعها وغاياتها غير انه ولا لقاء بينهما البتة الا فى هذه الجبهة .. جبهة الدفاع عن الارض والكيان .

وعلى سطح هذه الرواية تبرز عشرات الشخصيات الهامشية والسلبية ، التى تمثل اصنافا من الانتهازيين ، والبروقراطيين والعملاء من امثال حامد القويدرى ، عم جلال ووالد صلاح الذى يرى أن مصالحه مرتبطة بالدفاع عن اللغة الفرنسية ، ويصوغ مقولاته على نحو يوهم بان كل تفكير فى الاستغناء عن اللغة الفرنسية انما هو انتحار وطنى وعالمى ، لانها هى مفتاح صلة الوطن

بالعالم الارحب . وهو يجادل ابنه صلاح من هذا المنطلق ، كى يردع جموحه الوطنى ، ويوهن من عزائمه ، وينال من كبريائه القومى واعتزازه بلغته .

- انك تتحامل على لغتنا يا أبى .

- انا لا اتحامل عليها ، وانما اقول الواقع ، والا قل لى : هل تستطيع ان تثبت لى ان الطبقة التى تعلمت فى جامع الزيتونة تستطيع ان تسير الادارات التى هى الآن بيد الفرنسيين ؟

احتقن وجه صلاح واحس كان والده يهينه شخصيا ، وقال فى سخط : - اذن فنحن لسنا فى حاجة الى الاستقلال عن فرنسا ، ما دمنا عاجزين عن ادارة بلادنا واستخدام لغتنا ومؤهلاتنا الفنية ؟

قال حامد :

- هو الواقع .. ففيما يخص عجزنا اللغوى فاننا - كتونسيين - مجردون من اللغة نفسها ، فاللغة العربية التى تقول ليست لغة خاصة بنا اذ هى شائعة بين عدة اقطار فتحها العرب ، ولم يعد لاولئك العرب أى كيان سياسى . او جغرافى بعد ان دخلوا لحيز التراث التاريخى كالفراعنة تماما . وقد تركوا اللغة العربية كما ترك الفراعنة الاهرام . واذن فلا سبيل لتمسكنا بلغة لا نراها تخصنا اقليميا .

هتف صلاح : عجبا !

حول حامد رأسه وقال :

- هذا هو الحق مع كامل الاسف وسيجابهنا بأخطاره اذا تحقق هذا الاستقلال ، وسندرك ان لا جدوى من التعريب اداريا وتقنيا ، ولابد من ان نتمسك باللغة الفرنسية . وهذا التمسك سيوقعنا فى عجز كما قلت لك ، لاننا لا نستطيع ان نجاى الفرنسيين فى اكتساب لغتهم (60 خيوط الشمس)

وعلى شاكلة حامد نجد اسماعيل الجابر مدير ديوان وزير العدل الذى يكرس كل مواهبه الادارية الفذة لتأهيل ابنه من الناحية السياسية لاحتلال منصب

هام فى الدولة الجديدة فى اطار السلك الديبلوماسى ، ليضمن له عيشا كريما رخيا موصيا اياه بان يبذل القليل من الجهد ، وهو لذلك ارسل ابنه شريف الجابر للدراسة بفرنسا ، وشرع منذ حلوله بتونس يلقنه اصول السياسة ويطلعه على خفاياها دون ان يبيح له الاختلاط بالفئات التى تمارس السياسة لان مفهوم السياسة عند اسماعيل الجابر هو ان نحذقها كمهنة ، ولا نمارسها كعمل ثورى يقود الى السجون والموت .

أما رشيد الساحلى فهو الشرطى الحازم الذى يكرس كل مواهبه لخدمة الاستعمار ، ورصد حركة المناضلين ، والمشاركة فى تعذيبهم فى سجون (المحمدية) و (تبرسق)، وابتزاز اموال الاهالى الذين يلجؤون اليه للتوسط فى معرفة أخبار ابنائهم ومصائرهم .

وفى خضم هذه الموسوعية الروائية نتعرف الى ابطال الثورة الحقيقيين الذين اعتلوا مشارف الجبال ، وقاموا بتنفيذ أخطر عمليات الفداء فى الفجاج والطرقات ، من امثال البشير النورى ، وحمادى رابح ، ومحسن الازهارى ، ومسعود الفالح ، والمنجى ، ومذيوب ، كما ان الثورة المسلحة نفسها لم تسلم هى الاخرى من المنحرفين امثال ميلود الرداوى الذى بدأ ثائرا وتحول الى قاطع طرق ، ركب الثورة ليصبح الحاكم بامره فى الجبال ، يروع من يشاء ويقتل من شاء دونما وازع ولغايات خسيسة . وتتخلل الرواية اسماء الزعماء والقادة الذين قاموا بدور يذكر فى الحركة الوطنية ، وقادوا الثورة المسلحة ، ولكن فى حدود الادوار التى قاموا بها ، وادوها مخلصة للوطن .

- يتبع -

اشترك في نشرتنا البريدية