انما هى معركة دائمة بين القديم والجديد ، بل هى امتداد لمعركة قديمة جديدة ، فكثيرا ما تطالعنا فى الصحف مقالات ومواضيع ، تحت هذا العنوان وكثيرا ما نسمع من المناقشات ، والنضال والجدل ما يطرق أسماعنا بهذه العناوين المتلاحقة المتواصلة . حتى ليخيل لكل كاتب يمسك بقلمه انه ابتكر جديدا حين يخوض ببراعة فى موضوع «القديم والجديد» والواقع انه لا يوجد جديد . وصدق من قال انه ( لا جديد تحت الشمس ) وأن كل جديد هو امتداد لشىء قديم .
فاذا ادرك احدنا شيئا لاول وهلة ظنه جديدا . ووسمه بالجدة والطرافة وهذا الذى يقوله ينطبق على النظريات الادبية والجدلية فقط . أما المسائل العلميه . فلا تخضع لهذه القاعدة اذ أن مجال العلوم بعيد الافق . وميدانه فسيح المدى ونذكر فيما يلى بعض الاقوال الطريفة المتناقضة فى هذا الباب ..
قال ابن شرف من الشعراء المتقدمين :
أولع الناس بامتداح القديم وبذم الحديث غير الذميم
ليس الا لانهم حسدوا الحى ورقوا على العظام الرميم
ومن المعاصرين قال محمود سامى البارودى :
لكل جديد باعترافك عزة فمالك عفت الشيب وهو جديد .
و كذلك قال السيد حسن القاياتى من الشعراء المعاصرين
هل فى الحياة جديد حتى خفوق فؤادى ..
سئمت كل قديم سوى القديم المعاد
على أن القصة لا تنتهى بين القديم والجديد بل هى لن تنتهى الا لتبدأ مرة ثانية ، وتتكرر كالحلقة المفرغة ، وذلك أمر طبيعى فالشىء الذى نراه جديدا اليوم ، ونتعصب له كل التصعب . وندافع عنه فى ثقة وحرارة وقوة . لا نلبث بين عشية وضحاها ، ان نغير رأينا فيه وهى ( العشية وضحاها ) تختلف قيمتها المادية فى اعمار الافراد عنها فى اعمار الزمن ؟ فبينما هى تقدر فى اعمار الافراد بالسنين ، قلت أو عنها فى أعمار الزمن . فبينما هى تقدر بالقرون والاجيال ..
واذا كان العرف الادبى جرى على تقسيم عصور الادب العربى الى اربعة أقسام ، أولها العصر الجاهلى ، ثم عصر المخضرمين وهم الذين ادركوا جزءا ما الجاهلية وجزءا من الاسلام ، ثم العصر الاسلامى الذى تلا ذلك وهو يشتمل على عهد الامويين والعباسيين . ثم العصر الرابع الذى يشمل ما بعد ذلك فان كل واحد من هذه العصور كان جديدا ثم آل الى القديم . ووجد بين الناس من امتدحه جديدا ، وذمه قديما وهكذا بالتتابع ..
ومن الطريف حقا ان نجد هذه المعركة الدائمة تتجدد فى كل مناسبة زمنية ، بين قوم وآخرين ، ثم يعفى عليها الزمن ثم نراها تتجدد فى نفس الصورة . وانما بين قوم آخرين . بعد ان دارت دورة الزمن على سابقيهم ، وهكذا دواليك تتجدد نفس الدعوة ، ويتكرر نفس الادعاء ..
ومن الطريف أيضا ان نذكر فيما يلى الابيات التالية لشاعرين من فحول الشعراء المعاصرين ، وهى وثيقة الصلة بموضوعنا فى القديم والجديد .. قال شوقى رحمه الله :
لا تحذو حذو عصابة مفتونة يجدون كل قديم شىء منكرا
ولو استطاعوا فى المجامع انكروا من مات من آبائهم او عمرا
من كل ماض فى القديم وهدمه واذا تقدم للبناية ، قصرا
واتى الحضارة بالصناعة رثة والعلم نزرا ، والبيان مثرثرا
وقال حافظ رحمه الله :
وقفنا على النهج القديم فاننا سلكنا طريقا للهدى غير مهيع
ملأنا طباق الارض مجدا ولوعة بهند ودعد ، والرباب ، وبوزع
وملت نبات الشعر منا مواقفا بسقط الهوى والرقمتين ولعلع
واقوامنا فى الشرق قد طال نومهم وما كان نوم الشعر بالمتوقع
تغيرت الدنيا وقد كان أهلها يرون متون العيس الين مضجع
وكان يريد العلم عيرا واينقا متى يعيها الايجاف فى البيد تطلع
فاصبح لا يرضى البخار مطية ولا السلك فى تياره المتدفع
وقد كان كل الامر تصويب نبلة فاصبح بعض الامر تصويب مدفع
ونحن كما غنى الاوائل لم نزل نغنى بارماح وبيض وادرع ..
عرفنا مدى الشئ القديم فهل مدى لشىء جديد حاضر النفع ممتنع
لدى كل شعب فى الحوادث عدة وعدتنا ندب التراث المضيع
فيا ضيعة الاقلام ان لم نقم بها دعامة ركن المشرق المتزعزع
ورحم الله حافظا وهو يقول « وقد كان كل الامر تصويب نبلة » ولا يرضيه أن يكون بعض الامر تصويب مدفع فكأنه ينظر الى الصاروخ الموجه الذى يمضى بغير تصويب وكأنه كان يتوقع من التجديد ان يصل الى أبعد غاية من تصويب نبلة ، وتصويب مدفع ، الى ان تمضى نبلة أو مدفع بغير تصويب .
وكأنه لا يرضى البخار مطية ولا السلك فى تياره المتدفع حتى وجد الطائرة ، ووجد المخابرة بغير سلك ، والبقية تأتى ..
