أفاقت القرية الهاجعة على صوت مؤذنها ، فقام الشيخ سليم لأداء صلاته والاستعداد للعمل . كانت طقطقات العربات المتوجهة الى مقاطع الحجر وصياح الديكة ونباح الكلاب وضوضاء الفلاحين بمواشيهم خارج منازلهم أو فى طريقهم الى الحقول والمزارع أحب الى الشيخ من موسيقى الجاز ، والأوبرات . - مرا . . يا مرا . . شوية ماء بش نتوضا . وأحضرت الماء في ابريق فأخذه الشيخ ومضى متثاقلا يتوضأ
وبعد ان صلى ودعا الله ، أعد عدته وخرج مع ابنه الأصغر للعمل .
رفع عن وجهه الغطاء ونظر متمليا فى أرجاء الغرفة العتيقة ، حيث ينام أبناء أخيه حمادى ، فأحس بجسمه ينهار ، وبأعصابه تتشنج ، وشعر أن برأسه دوارا وألما شديدا .
وعاودته ذكرى يوم السبت الاسود ، اليوم الرهيب المشهود .
ولكن لماذا هرب الى هنا ؟ ألينام حيث يشقى اخوانه ؟؟
.. وضربت سميرة فسقطت على الربوة فتدحرجت على الحصى والصخور فدمى جسمها الرقيق وتلوثت ثيابها . فرأيتها فى هذه الحالة المزرية فأسرعت وأسعفتها .
وزغردت النسوة بالجبل الاحمر ، ومضينا بين الأزقة الضيقة وأكوام المدر جريا على الأقدام حتى وصلنا فحمدنا الله على السلامة .
وشعرت بانهيار . فتهالكت على السرير . بيد أن طيف سميرة لم يفارق مخيلتى ، فنهضت عن السرير ورفعت ستار النافذة وحدقت فى الجبر الاحمر حيث تركت حلم حياتي وأمل عمري . ففكرت في الخروج اليها توا ولكنى امسكت نفسي .
وفي المساء أشرقت شمس الأمل ، فذهبت لأقتبس منها نور الحياة .
وانتفض فوزى على صوت أمه تناديه : - فوزى . قم اغسل وجهك وكل هذه البيضة . - بيضة ؟ لا يا أماه ، اتركيها لقضاء حاجة تنقصنا . - لا يا ابنى ، أنت أولى . انظر الى وجهك والى بدنك . لقد ضعفت يا ولدى . - وهل البيضة سترد الى قوة بدني ؟؟ .
وخرجت عائشة المسكينة دامعة العينين بدون أن تجيب عن سؤال المحرج . وغسل فوزى وجهه ولبس ثيابه وأخذ حقيبته . فجاءت امه تودعه : - حافظ على نفسك يا ولدى . الوقت صعب . . - اطمئني يا أماه . فانا اعرف ما يصلح بي . - نعم أعرف ذلك . ولكن أولاد الشر وبنات الحرام كثيرون . - القضية ليست كذلك يا أماه . المشكلة أعمق . ولكن لا يهم . مع السلامة - فى أمان الله يا ابنى . الله يحفظك من كل سوء . امين يا رب العالمين .
أطلت المدينة الشامخة من بعيد كالأمل بأحلامه وأوهامه بأفراحه ومخاوفه .
وخفق قلبه بعنف وشعر بقشعريرة تسرى فى كيانه المنهوك . فابتسم وسالت دمعة على خده فمسحها بيده المرتعشة وفرك عينيه واستعد للنزول .
وما ان وطئ الارض كالمتخوف حتى وجد سميرة فى انتظاره . فأشرق وجهه وغمرته فرحة عارمة . تبادلا السلام بحرارة وتساءلا عن حالتيهما ثم سارا فى نهج ابن خلدون فى غبطة مشوبة بالأسي .
- أنا خائفة يا فوزى . - أنت خائفة ؟؟ هذا الجمال الملائكى لا يمكن أن يخشى شيئا . - أحقا تقول يا فوزى ؟ أأنا جميلة الى هذا الحد ؟؟
- بالطبع وضحك الحبيبان وواصلا السير فى أناة . وهمس فوزى : يجب ألا تخافى يا سميرة . - سأتشجع . ولكن كيف ؟ - كوني قوية النفس راسخة الايمان ، يتلاش عنك الخوف شيئا فشيئا . واشتبكت الأصابع والتصق الجسمان وسال الشعر على كتف فوزى حريريا ناعما . وتوردت وجنتاها فعادت اليها الطمأنينة . ويمسح فوزى بيده شعرها المرسل قائلا : الخوف يا سميرة علامة الجبن . ونحن اليوم نعيش فى عصر يستدعى منا ان نكون شجعانا . وتنشغل سميرة بالنظر الى سيارة طويلة أنيقة . ويلاحظ فوزى ذلك فيصمت . فتقول سميرة معجبة : كم هى جميلة .
- السيارة ؟ . . بالطبع . ألا تفكر يا فوزى فى شراء سيارة ؟. - وانت ؟ - بكل تأكيد . - وتفكرين فى بناء فيلا ايضا ؟ بالطبع . - وهو كذلك . وانت ؟ - هذا أمر طبيعي يفكر فيه كل شاب وفتاة . ولكنى أخشى أن أصبح مترفا فأنسى واجبى . - وهل بناء فيلا وشراء سيارة يعتبر ترفا ؟ - قد لا يعتبران ترفا ، ولكنهما يؤديان اليه حتما . - تعنى أن صاحب السيارة والفيلا يغتر بكونه برجوازيا : - أجل . - أنا لا أعتقد ان رجال الغد سيشعرون مثل هذا الشعور الأثيم .
- أنت متفائلة كثيرا يا آنسة سميرة . انك تبنين القصور فى أسبانيا كما يقول المثل . - ولماذا نظلم الشباب ونسيئ فيه النية والظن ؟ .
- ألا ترين أن الكثير منهم - من أصحاب المبادئ كما يزعمون - قد تنكروا لمبادئهم بمجرد دخولهم ميدان العمل ؟ انهم ينافقون . وليس أشد على النفس من النفاق . وأمة فتية ضعيفة لا ترتقى قيد أنملة ما دام الشباب ينافق ويقدم مصالحه الخاصة على مصالح الشعب .
- هذا صحيح ولكن ينبغي أن نؤمن بالشباب . - والرياضة أيضا . - وما دخل الرياضة فى نهضة الشباب ؟ - الرياضة يا سميرة هى التى خدرت شبابنا فهاموا بها ومضوا سكارى يلعبون . - هنا اخطئك يا فوزى . الرياضة من أوكد وسائل الرقي . ولا رقي في أمة بدون رياضة .
- أجاريك فى رأيك . ولكن ألا ترين ان الشباب التونسي خاصة والعربى عامة قد انشغلوا بالرياضة عن واجباتهم . . ؟ - كيف ؟ ليس هذا صحيحا أيضا . لأن الرياضة هواية ، والهواية بعد الواجب لا قبل العمل ولا على حسابه . - أريد أن أقول ان الشباب قد شغلته الهوايات عن التفكير في مصيره . فأصبحت الرياضة اذن مخدرة للشعوب . وكثيرا ما تتخذ الرياضة وسيلة لو أد الضمائر الحية ، وللاختلاء بالمصالح العامة . - أنا أوافقك على هذا ، ولربما كان السبب هو كرهك لها . فأنت لا تهواها ولا تمارسها . بل انك لتضيق عندما احدثك عن " عتوفة " فتسخر من اسمه لا من شخصه لأنه أعظم من أن يصبح محل سخرية وازدراء ولعمري أن هذا لهو الغرور بعينه . - قليلا من الاتزان يا سميرة . لا تجعلى العاطفة تتحكم فيك . - اطمئن . انا لست غضبى وانما أعاتبك .
- وهذه الدماء التى صعدت الى وجهك ؟ - هي دماء الشباب تفور لتعلن وجودى . - الله ، الله عليك . حقا انك لسميرة الحياة . فهمست مبتسمة فى رقة وعذوبة : أنت تبالغ يا فوزى . - كلا يا سميرة . ان اسمك لاحلى من غناء العندليب وأغلى ما نادى به الحبيب - اصحيح ما تقول يا فوزى ؟ - وهل تعشق الا الشمس ؟ - الشمس . . نعم يا فوزى . الشمس هى التى ينبغى أن تعشق . وسنقتبس منها النور . . وسنسير فى دربنا يبارك الحب مسعانا .
- وسنعلنها حربا فكرية بين عقل وعقل . قبل ان نعلنها حربا وجدانية بين قلب وقلب . - وأيهما أدوم وأنجح ؟ - اسألى نفسك ؟ - الروح لا تعرف الحروب . - الروح في عصرنا لا قيمة لها . القيمة للمادة والقوة . - وهذه هي المأساة . - وهل يمكن لنا أن نخلص الروح من وضر المادة ؟ المارة يكثرون شيئا فشيئا . الضجيج يعلو مع أزيز السيارات . . وجوه ناضرة ووجوه كالحة . أيد تمتد فى استعطاف . . أفواه جائعة أعناق مشرئبة . . الكل دائب يسعى .
والتفتت سميرة إلى فوزى قائلة : انظر اليهم . لقد فقدوا الحياء وفقدوا الروح . لقد اصبحوا اجسادا عارية مجردة تبحث عن أجساد تأمن اليها ، ولا أمن . - وهل تعرفين السبب ؟ - السبب هو سيطرة المادة عليهم بلا ريب فهم لا
يرون الا المال ، ولا يسمعون الا الحديث عن المال ولا يكتبون الا عن المال . المال أصبح كل شئ فى حياتهم .
فقالت سميرة فى مرارة : صحيح . . ولكن ...
ودخلا دار ابن خلدون ، وراحا يتأملان المعلقات والصور والعروض السينمائية فاشتريا تذكرتين ، ثم خرجا واستمرا فى طريقهما الى مقهى باريس .
لم ينم فوزى هذه الليلة الا غرارا . فقد كان مبلبل الفكر متأزم النفس كثير المتصورات والاوهام والمخاوف . وعاودته ذكرى لقاء الامس غير المنتظر ، وما دار بينهما من حديث . واستعرض أحداث الفيلم العجيب الذي أثار فيه دفائن أحزانه . . واستحضر مشاهد البؤس فى العاصمة وخارجها وقارن بينها وبين مشاهد البذخ والنعيم فى المجتمعات الغربية التى تعيش فى ظلال الحرية والديمقراطية فآلمه ما عليه الشعب من بؤس وشقاء في بلاد مستقلة ذات سيادة وذات شخصية .
وظل هذا السؤال الخطير يراوده طوال الليل : متى يعى الشعب فيثور فيقرر مصيره ؟
انه يعرف حق المعرفة أن توعية الشعب تستدعي زمنا طويلا وعصبيا . فشباب اليوم يعوزه شئ من التروى . فهو متفتح لا شك فى ذلك . ولكن ما زال البعض منا يندفع مع التيار دون ما تفكير ولا محاولة تفهم للاسباب والمسببات الجوهرية . انه لينقصهم العقل الناقد الممحص . وهذه هي العقبة الكبرى .. بل الأدهى فى الامر هو ان هذه الحالة ليست خاصة مقتصرة على شبابنا فحسب بل هي ظاهرة عامة تشمل كل الشعوب العربية .
وتقلب فى الفراش وحاول ان يتناسي تيار تفكيره . ولكنه لم يستطع . وخطرت بباله صورة الفلاحين فى قريته . وهم يسعون الى العمل فى جد وايمان ساذج فلا يتحصلون على قوت يومهم . وحز فى نفسه ما عليه شباب قريته من خمول وسلبيه ازاء قريتهم وازاء اناسها المغلوبين على أمرهم . فقد استبد بعضهم بآرائهم حتى فى ميدان الفكر والثقافة . وزاد فى آلامه تلك القصور الباذخة القائمة فى أنحاء البلاد وتلك الاموال
الطائلة التى تنفق فى اللذة وفي أعراض الدنيا بينما يعيش السواد الأعظم من الشعب فى فقر مدقع .
وردد فى حقد ونقمة مريرين : النفاق . . النفاق . . الحياة كلها نفاق .
وتساءل فى كمد ومرارة : ألم يبق فيهم قبس من نور الضمير ؟ لقد أفلس الضمير وأفلست الروح . . وقال فى جرأة وايمان : " ينبغى أن نتجند نحن الشباب لمداواة هذه الضمائر المريضة . . " ولكن سرعان ما عاد الى تشاؤمه فتساءل . " ولكن . . هل فقدت الانسانية العقل ؟ وهل فقدت الضمير ؟ ." الواقع أنها أصبحت تعى بعض الشئ وتشعر بأنها تعيش فى برجها العالي فتوجست خيفة اثر هذه الاضطرابات . . فعادت الى نفسها تحاسبها الى حين . ولكن سرعان ما تتغلب عليها نزعه الشر . فتعود الى النفاق والاستغلال والاسراف . فالحوار اذن كفيل بان يبث الوعى كل الوعى فى هذه النفوس المريضة . اذ كلما ازداد الشباب اتصالا بها واكتشافا لمواطن الداء ازدادت تحذرا وتنبها وتداركا للاخطاء حتى لا تنكشف الاسرار وتصبح عارية مفتضخة امام الجميع الذين ائتمنوها .
وانتفض فى فراشه إذ شعر بأن كابوسا قد رفع عنه ، فأحس بأجفانه تثقل فاستسلم للنوم .
التقت سميرة وحميدة صديقتها به " بالبساج " بعد الزوال فتبادلوا التحية واتجهوا نحو شارع الحبيب بورقيبة متجاذبين أطرف الأحاديث الغرامية والسياسية . . وما ان دخلوا الشارع حتى فوجئوا بالبوليس يختطف كل من دلت هيئته على أنه طالب او طالبة فكان فوزى من جملة المختطفين بينما هربت سميرة وحميدة . غير أن فوزى لم يوقف بل أطلق سراحه فخرج من المركز مستبشرا بحمد الله على السلامة . وتذكر سميرة وحميدة فأسرع الى المكان الذى اختطف فيه فلم يجدهما . فتوقع الخطر وتوجس خيفة عليهما وخاصة على سميرة حبيبته وحلم حياته . وشعر بقشعريرة تسرى فى كيانه . واستأثر به الأسى حتى ضاقت به الدنيا وأصبح يعيش فى دوامة من الأفكار والهواجس . وأصبح لا يتقدم ولا يتأخر . أين عساهما تكونان ؟ أفي الشمال أم فى الجنوت فى الشرق أم فى الغرب ؟ وسار على غير منهج مفكرا ثائرا حاقدا ناقما . الناس يسيرون فى صمت متلفتين يمنة ويسرة . البوليس عابس الوجه يكاد ينفجر كالقنبلة على المارة . انه يعيش ازمة وجودية هو الآخر . لقد مل المجتمع هذا
الحياة حياة الخوف من الحاضر ومن المستقبل . وراح فوزى يبحث عن سميرة وحميدة . أخذ يتأمل المارة ويفحصهم واحدا واحدا . . فيزدادون تخوفا وهوسا . وسار مع هؤلاء المتسللين والقلب يخفق بعنف والعقل تائه يؤول تأويلا .
وشعر بلهيب فى وجهه وأحس بأذنيه تؤذيانه فتحسسهما بيده اليمنى ثم وضع راحته على جبينه السخن كالمرجل . وطال البحث وطال الانتظار حتى دبت فى العاصمة وحشة كوحشة القبور . فازدادت حيرته وخوفه وأمعن قلبه فى الخفقان . فعاد الى الحي متعثر الخطى ممزق النفس مدحور الآمال تراوده آلاف الخواطر والاوهام وتعذبه شتى الاحزان والآلام . فلم يتعش هذه الليلة ولم يحتل للتحصيل على العشاء مجانا ، فبات ليلته فى أرق وأوهام ومخاوف رهيبة .
أما سميرة وحميدة فقد اختفتا فى احدى العمارات بالعاصمة . ولكنهما ما كادتا تخرجان منها فى هرع حتى وجدتا البوليس فى انتظارهما . بيد أنه أشفق عليهما وحز فيه أن يسمع سميرة - الفتاة الجميلة - تبكى فعفا عنهما على ألا تشاركا مرة اخرى فى اثارة الشغب فى المجتمع والبلبلة فى الافكار .
وفي الغد أصدر قرار رسمى مذاع بغلق كليتى الآداب والحقوق . . فكانت صدمة شديدة زادت الحالة توترا واللازمة تعقدا . فماذا يصنع فوزى المسكين ؟ يبقى فى العاصمة مشردا يجوب الشوارع والا نهج بلا أمل بلا مال بلا قوة ؟ وهل يتسنى له ذلك فى هذه الظروف العصيبة ؟ ؟ أم يرجع الى أبيه وأمه ليشاركهما مأساة الوجود ؟ فأبوه شيخ قد بدن . وهو يعمل ليل نهار . يفلح الأرض ويظفر المعالف والقفاف لبيعها وانقاذ العائلة من المجاعة . العائلة كبيرة مرهقة والانتاج الفلاحي لا يسد حاجياتها . لقد أثقلت الديون كاهل الأب المسكين الذي باع كل شبر عزيز عليه من أجل ابنه فوزى واخوته الصغار .
- الأرض لا تنفعنا ياامرأة . المهم أن يصبحوا رجالا لا عالة علينا وعلى الناس . . وتزداد مأساة فوزى بمرض شقيقه الأكبر عضد أبيه ومواسيه فبقى الأب يعمل وحده مع ابنه الأصغر الذي أخرجه مكرها من المدرسة . ولما شعر حمادى ببعض التحسن فى حالته وجد نفسه مضطرا للعمل . فأبوه لا يستطيع مواجهة هذا العام الممطر.
ولم يكفه سوء الوضع العائلي فقد انقطعت عنه المنحة هذا العام فوجد نفسه فى أزمة شديدة . لقد أدمى قدميه جريا بين الادارات والمؤسسات والمكاتب سعيا وراء وظيفة متواضعة تخول له أن يواصل الدراسة فى أحسن الظروف .
فتمزق الحذاء وتهرأ النعل بالذهاب والاياب وتحضير الاوراق المطلوبة دونما جدوى . وغار الثقب فى أحد زوجى النعل ، وابيض سرواله الاوحد وتقطع وافتضح أمره فأصبح كلما جلس فى مقهى مضطرا يحاول جهده أن يخفى ساقيه تحت الطاولة لئلا يرى الجلساء المحترمون ذلك الثقب الهائل فى النعل والثقب الآخر فى السروال . أما إذا خرج من المقهى فانه يحمد الله ويمضى يغذ فى السير كالعادة حتى لا يلاحظ المارة تلك الثقب المخزية .
وكاتب صديقه الذي توظف العام الفارط وكاتب ابن اخته وشقيقه العريف . ولكنه لم يتصل منهم حتى بمجرد الرد عن رسائله التى يعلم الله كيف تحصل على معلوم طوابعها وظروفها وأوراقها التى اقتناها من الطراز الانيق احتراما لشأنهم . .
أما الاكل . . فهناك المشكلة . فالتذكرة بمائة مليم بالنسبة الى الوجبة الواحدة وفي اليوم يتناول وجبتين : الغداء والعشاء . فمن اين يأتي بمائتى مليم ؟ أبواب الرزق مغلقة دونه والأموال محتكرة . انه ليشعر بأن شخصيته تذوب وهو يمد يده فى خجل الى صحن فارغ فى المطعم الجامعي لينظفه من الفضلات ملتمسا فى حياء يندى له الجبين - شيئا من المرق ومن المقرونة أو الكسكس مجانا . فتظل الانظار تحدق فيه فيشعر بذوبان شخصيته ويستبد به الألم والحزن فيلمحه أحد الطلبة يمسح ما علق فى الصحن الفارغ من الادم والفضلات فيشفق عليه ويقترب منه بصحنه الفاخر الشهى المترجرج طالبا منا مشاركته فى الاكل . فيستجيب له شاكرا باسم الثغر فى مرارة دامع العينين فى انكسار . فتخفي نظارته السوداء دموعه المترقرقة على خديه المحمرين خجلا وغضاضة . وهل يليق به البكاء وهو شاب يافع وطالب ممتاز ؟
ولكن هو الفقر وظلم السادة الاثرياء . . وثارت ثائرته : لماذا فقدت الرحمة ؟ هل مات الضمير ؟ وينظر حوله فى يأس وتمزق فلا يرى الا الافواه الجائعة والايدى الممتدة والاجسام الملقاة على الطريق مستعطفة ولا عطف . ويرى الى جانب هذا مظاهر الاسراف والترف ، فيصيح باكيا في يأس ومرارة :
- أعينى ! عذاب - ونفسى انفجار - وقلبى دماء تسيل ونار - انفسى ! تريد انمحاق الزمان وسحق المكان - وقلب الكسير - يحدق فى الكائنات
الحيارى - بطرف حسير ودمع غزير على الخد جار - والمس عطفا بأعماق نفسي - وعمق جفونى - وأرجاء غزة . . فى كل دار - فارتد . . كل تبكي حيالى - وكل على وشك الانفجار - الهى عبادك لم يحرموني - وانكرنى العطف والانكسار - وتهت بدربى - بدربى الطويل أنقب عن ذاتى . . عن كل بار - وألمس عطفا بأعماق نفسي - وعمق جفونى - وأرجاء غزة . . فى كل دار - فأرتد كل تبكى حيالى - وكل على وشك الانفجار . سأنتقم - يا الهى . سأغدو - بذى الكون رعدا . . شواظا . نابالم . . سأنتقم من جميع العباد - وأحيا عظيما كشم الجبال .
وأنشد فى قنوط : خلا الكون من كل خير وعدل - ومن كل عطف يضمد جرحا - ويرفع صرحا - لحضن الأماني - وحفظ النفوس التى قد عبدت - أأنت الهى وراء السماء ؟ وخلف الطبيعة ؟ فقد قالوا : انك في كل حدب - وفي كل قلب - فما لنا يا رب نشقى ونرفت ؟؟ بمشرقنا الغالى ظلما فنصمت ، وتزهق روح السلام بحيفا ؟ ويئدنا العبد ظلما وعسفا ؟ ألا أين إلهى أنت ؟؟
ومن الله على فوزى وعلى الاشقياء مثله بفتح الكليتين . فعاد الى دروسه وهو يغلي حقدا ويتمزق ألما وحزنا . وعاد الى مسرحيته الرتيبة المقيته القاتلة وهو عاقد العزم على الانتقام والاقتصاص متمثلا بقوله تعالى : " ولكم فى القصاص حياة " . بيد انه سرعان ما ثاب الى رشده وتمسك بمبدئه في الحياة .
لقد ادرك بعد أن حنكته التجارب وهو بعد شاب يافع - أن في الانعزال والانكماش تقوية لشوكة العدو وأن فى الاتصال والحوار اصلاحا للحال وتهذيبا للنفوس المائعة وانارة للقلوب والبصائر التي لا تبصر النور او لا تريد ابصاره ، حفاظا على ما هى عليه ورغبة فى الاستئثار بكل شئ .
وحز فى نفسه أن يسمع اخوانه ينتقدونه ويستخفون به . وليس أقسى على النفس من سخرية الصديق أو القريب .
وعيل صبر سميرة وضاقت من الهمز واللمز والقيل والقال وكثرة السؤال فحاولت أن تقنعهم . ولكن بدون جدوى . ففوزى فى نظر زملائه قد تنكر لمبادئه . لقد كان ثائرا من الثائرين فأوقف من أجل ذلك وسجن . أما اليوم فقد أصبح . . " منافقا " . . من المنافقين ، ومضللا من المضللين . .
- شخصيتنا يا فوزى . شخصيتنا ومصيرنا ؟ - نحن نفرض شخصيتنا بأعمالنا لا بمجاراة هؤلاء المغترين . - لا يا فوزى . اننا لنفقد قيمتنا كلما استمررنا على هذه الحالة . - أبدا يا سميرة . ستبدى لك الايام ما كان خافيا . - ولكن ينبغى أن نبدأ باصلاح أنفسنا قبل أن نكلفها باصلاح حالة الآخرين .
- معك حق . - وأى شئ تريد اصلاحه ؟ - العقلية . . النفس . . الروح .. - العقلية الجماهيرية فى تفتح وتبصر . - أنت تنظرين الى رجليك ولذا فلا يمكن لك أن تبصري ما فى الآفاق . - وأى شى فى الآفاق ؟ - شمس تكاد تموت خلف سحاب متراكم. - لا خير فى شمس تعيش مع الأموات . - ولا خير فيمن لا يمزق سجف الظلماء لينقذ شمس الوجود من مقبرة الأموات .
وأطرقت سميرة ثم رفعت رأسها وقالت : - ألا ترى يا فوزى أن الفلسفة لا تجدى ان توجهنا بها الى الجماهير ؟ - ولكن لكل مقام مقال ! - وكيف يمكن لنا أن نصلح الحال التى نحن عليها بالفلسفة ؟ - ولماذا تتخذ الفلسفة سلاحا ؟ - اسأل نفسك ؟ - الفلسفة هي لغة العقول . - ولكن هناك قلوب أيضا تحتاج الى النور ؟ - النور فى العقل . - العقل ذو حدين. - أعني العقل المتزن ..
- هيهات . - لماذا ؟ - نحن نعيش فى عصر السرعة . . - وفى عصر نفسيات وشعوب . - لقد شلت النفسيات . . والشعوب تعوزها قلوب رحيمة عطوفة . - تعوزها قبل كل شئ : عقول نيرة مفكرة ، فاحصه ، ناقدة فى اتزان وتحفظ - أنت تطلب المستحيل . - لم يعد شئ مستحيلا . - أنت شديد التفاؤل . - وهل هناك أحلى من التفاؤل ؟ - ولكن لنكن واقعيين ؟
الواقع يحتم علينا أن نمنطقه والا حفنا التيار . - ومن لك بهذا ؟ - الارادة . - الارادة هي أن نكون أحرارا فى هذا الواقع المزري ؟ - أجل . . طالما كنا متعقلين . ومتى جعلنا العاطفة منطقنا وأدنا فينا هذه الحرية الفكرية . - ولكن القدر جائز ؟ - العقل أقوى من الجور . - والمجتمع . . انه يموت . - الموت فى الجمود .
- والروح تحتضر . - لا روح لمن لا عقل له ، ولا عقل لمن لا دين له . - لله ما أقسى الوجود . - القساوة تخلق الشعوب . وسكتت سميرة ، فسكت فوزى فران الصمت . ومضيا ينشدان الراحة فى حديقة البلفدير .
نام فوزى هذه الليلة هانئ البال مطمئن الضمير حالما أحلاما لذيذة محفوفة بالورد والياسمين .
أفاق فى الصباح غسل وجهه واتجه مسرعا نحو المحطة .
بيد أنه لم يجد سميرة فى " الهول " كما اتفقا . فانتظرها هناك متلهيا بالحديث مع زملائه . فطال الانتظار . وفات أوان الدخول الى القسم . فحار فى أمره . وتساءل عن سبب تأخرها عن الموعد . أخذ اليأس يدب فيه وشعر بقلبه يخفق بشدة فأزمع على أن يذهب اليها فى الحى فقد تكون مريضة . فترجل اليها ثم ركب الحافلة وطارت به الى باردو .
اتصل بمدير الحى وطلب منه أن يبعث احدى العاملات بالحى الى بيت عدد (.) ففعل .
وبعد برهة عادت ولكن دون جدوى . وخرج فوزى حيران ذاهلا تراوده الاف الهواجس . وبينما هو واقف فى الطريق المعبد تائه النظرات اذ بها تناديه . فانتبه من ذهول له ونظر باحثا . فاذا هي سميرة موفورة الصحة ، فأشرق وجهه وأحس باطمئنان . وحدق فى وجهها فاذا هي في حالة غير اعتيادية . فسقط قلبه بين ضلوعه وأحس بجسمه ينهار وبنفسه تضطرب اضطرابا لا يدرى مأتاه ، فبادرها قائلا مرتجفا :
- سميرة . . ماذا ؟ - فوزى . . - ماذا ؟ تكلمي ؟ افصحى أرجوك ؟ - أنت يا فوزى . . - وبعد ؟ . . ماذا وقع ؟ - أرجو أن تعذرني . . فأنا . . - أفصحى ؟ . . افصحى أرجوك . . أرجوك يا سميرة ؟ . . اني اكاد أخرج من جلدى . - لقد . . أوه . . لا استطيع . . لا استطيع .. - أرجوك يا سميرة . . لا تعذبيني ؟ . . قول الحقيقة ؟ ما هو السر ؟ . .
. . كلنا . . يا فوزى .. - أبى مات ؟ ؟ . - أجل يا فوزى .
وما كادت تنهى كلمتها حتى أغمى عليه فتلقفته سميرة فى جزع وحضنته لكل ما أوتيت من قوة وشجاعة . ونظرت حولها ونادت بأعلى صوتها : تاكسي. فوقفت غير بعيدة عنها ثم اقتربت وخرج السائق وأركباه ومضت السيارة الى المستشفى تطوى الارض طيا .
ادخل فوزى القسم الاستعجالى فأجرى عليه فحص طبى ثم حمل الى سريره المخصص .
انتظرت سميرة على حافة سريره قليلا ثم اخذت ورقة من محفظتها وكتبت له رسالة تطمئنه فيها وتعلمه بالذهاب الى أهله لاعانتهم فى جهاز الميت وأخذ العدة لدفنه .
فلما أفاق فوزى نظر حوله باستغراب وحيرة فوجد نفسه فى قاعة غريبة وأمامه امرأة غريبة ، باسمة الثغر ، ضاحكة الوجه بيضاء الثياب ، فبادرته قائلة فى رقة وحنان :
- كيف حالك الآن ؟ غير أن فوزى سرعان ما اصطدم بالواقع المرير فثارت ثائرته وصاح : - لا ٠٠ لا ٠٠ مستحيل . . أبى لم يمت . . أبى ما زال حيا . . وسميرة ؟ أين أنت ؟ . . أبى ؟ لا . . لم يمت . . أنت ؟ ابتعدى عني ؟ ابتعدى عنى ؟ . .
- لا تجزع يا أخي . . اطمئن أرجوك . . أنا جئت لأرعاك . - ترعانى ؟ لماذا ؟ وأبى ؟ أين أبى ؟ - أبوك ؟ هو غائب الآن . ولكن قليلا من الصبر ؟ - لا . . لا . . أبى مات . . نعم أبي مات . . آي . . ماذا فعلت يا إلهي ؟. وانفجر باكيا فى مرارة .
فحاولت الممرضة اسكانه ، ولكنه ازداد عويلا . فمضت وجاءت بحقنة فحقنته وناولته ، بعد أخذ ورد ، قليلا من الدواء فلم يشعر فوزى إلا وأجفانه المقرحة تثقل وتطبق والنوم يستأثر به استئثارا .
وصلت سميرة الى مسقط رأسه ، فوجدت أهله فى ازمة مالية وحيرة شديدة ، فأسعفتهم ببعض المال . وعادت حالا الى المستشفى . وحاولت أن تنسيه المأساة بشتى الوسائل . ولكن فوزى لم يستطع . فالمأساة أقوى من أن تتحمل .
وظلت تتردد عليه وتواسيه وتبعث فيه نور الامل ، حتى اطمأن بعض الشئ وشعر بحالته تتحسن ، فطلب من الطبيب أن يغادر المستشفى فسمح له بعد أن أوصاه بالحاح ألا يرهق نفسه والا يجزع . وطلب من سميرة أن توصي أهله وخاصة أمه أن يستقبلوه كالعادة بابتهاج . فتم كل شئ على أحسن ما يرام ..
واستأنف فوزى معركة الحياة بقلب جريح ونفس ممزقة . فوجد سميرة فى طريقه نورا يشع ويهديه سواء السبيل ، فأحس بالهدوء . فعاد اليه ايمانه وتفاؤله وعادت اليه ثورته ونقمته على الاموات والاحياء . وعاودته الذكريات الالييمة فى الحى الجامعى حيث كان يريق ماء وجهه للتحصيل على الغداء والعشاء . وتذكر أعماله الطيبة مع أصدقائه - أحب أصدقائه وأخلصهم في نظره - وما كان منهم من تنكر للعهود وابتعادهم عنه فى أعصب الظروف واقساها .
لقد كان يعيش مع صديقه الهادى فى معهد نابل عيشة الكفاف بل عيشة الدون والذل . فكانا اذا خرجا يوم الأحد من المبيت يشتركان في شراء الحمص يقضماه قضاء للوقت . فمرة يشترى صديقه الهادى بخمس مليمات وأخرى فوزى . وفى بعض الأحيان عندما تفرغ الجيوب ، تدعوهما الضرورة الى الاشتراك فى كاس حمص بينما كان زملاؤهما أبناء الاثرياء يعيشون فى ترف ورخاء ، فيذهبون الى السينما ويدخلون حوانيت المرطبات والحلويات والمبردات ليقتنوا ما طاب لهم . ثم يذهبون الى المقاهى او الملاعب الرياضية والمراقص بالعاصمة أحيانا . فى حين كانا هما يكتفيان بكأس حتمص ويظلان يتجولان فى صبر وايمان . أما اليوم فأين الهادى ؟؟
تقدم مع فوزى وسميرة الى امتحان الباكالوريا فنجح فوزى وسميرة وأخفق الهادى .. فحز فيه ما أصبح عليه صديقة المسكين بل أخوه الوفي المخلص . فقرر أن يسعفه ببعض الحوالات البريدية فى موفى كل ثلاثة أشهر . وبسط
فوزى يديه كل البسط حتى أصبح هو كل شئ ، فاغتر المسكين غير حاسب للعواقب حسابها . حتى اذا حم القضاء بفشله انفض الجميع من حوله ، فوجد نفسه مشردا يتخبط وحده في مأساته الوجودية .
وسمع عن سميرة أشياء وأشياء ولاحظ هو انحرافها . فاحتمل كاظما وواصل الجهاد .
وبحث عمن يحمل روحه فلم يجد الا شياطين الشر والذئاب تتعاوى فى مجتمع منهوك . فضاقت نفسه بهذا الوضع وازدادت نقمته على الاحياء ، ولكنه لم يجد الا الصمت ثم تساءل ذات مرة :
- أليس الشر هو أن ننتحر فى مجتمع يبحث عمن ينقذه وينتشله من الضياع والظلام ؟
ولكن . . سأنتقم . . سأنتقم لاريح الوجود من الشر لتتفجر الارض خيرا وعدلا . وأنا ؟ من أنا ؟ هل أنا برئ من الشر ؟ ولكن أنا شرير ايضا ؟ ..
هل أنا برئ من الشر ؟
الناس كلهم أشرار . . لقد ولدتنا أمهاتنا اشقياء وسنموت أشقياء . وفي هذا الشقاء ظلمنا وظلمنا تعلقا بالحياة وحبا للذة فيها . ولكن ماذا صنعت حتى أولد شقيا وأعيش شقيا كما مات أبى المسكين ؟
فهل أنا اذن شرير منافق ؟ لست أدرى ..
الشرير هو الذي ولدته أمه غنيا بورجوازيا ، فأراد أن ينفرد بغناه وان يستبد ويظلم حفاظا على منصبه الذى اغتصبه اغتصابا بحد السيف وبالنميمة والدس والتملق .
ليتنى استطيع . . فأمحق العالم محقا لأنقذ الانسانية من الشر . . ولكن انا ؟ . . من أنا ؟ أنا حلم الضعفاء ، وكلمة الحق تجلجل في آذان الجبابرة . أنا سر من أسرار الخلود . ولكن يقظة الحس ستعلن وجودى وستكشف حقيقتى ، ليتني أحيا حلما أبديا حتى أذوق لذة الخلود . . فالحلم حقيقة الضعفاء . . واليقظة هي الوعى ومتى عشت الحلم طمعت في اليقظة ، اذ لأمر ما جعل الله الحياة حلما لنخلق نحن يقظتنا . . وسميرة . .
لقد أصبحت هى الاخرى شريرة . . أنا لا اقبل الاشفاق والعطف . أنا قلب يريد أن يحب وعقل يريد أن يعيش حرا فى عالم اليقظة . أما سميرة فليست كذلك . . انها تضحك لى ، ولكنها تنافق . . انها لا تحبنى . . ولعلها ترب الانتقام منى .
الشر . . سأسحق الشر . . سحقا . . لن أتردد . . الشر مأساة الوجود فى قلبى الكليم . . الشر عذاب ينخر القلب والضمير . . الشر كفر ، قتل الايمان فى القلوب الضعيفة ، والطمأنينة فى النفوس السمحاء والطيبة فى قلوب الأبرياء . . سألاحق الشر اينما وجد لأحقق السلام وأبعث السعادة الابدية فى قلوب الأشقياء . .
وسار فى الطريق . . هذا مجرم أتخمته حياة الترف فحمل الدنيا فى بطنه المفضوحة . آه . . لو كان لى سيف . . لو كان لى أى شئ امزق به هذه البطون المتخمة البطرة التى خلقت الشر . . آه لو كان فى استطاعتي أن ادمر وأخرب لأخلق الحياة من عدم فالحياة غير جديرة بأن تعاش . . ومن أدرانى ؟ فلعل سميرة تتنكر هى الاخرى ؟ فالثقة قد افتقدت في هذا العالم الشرير . ولكن ، من خلق الشر ؟ المستضعفون فى الأرض ؟ انهم لا يعرفون كيف يجرمون . انها يخبطون خبط عشواء . الجبابرة ؟ انهم يعرفون كيف يسفكون دماء الاشقياء . انهم لا يفهمون الا بلغة الرصاص . .
الناس . . اه من الناس . . الناس قتلوني ومزقوني وعاثوا فى كما شاؤوا وأرادوا . . هذا ظلم يا الهى . . ماذا صنعت حتى أجازى بالقتل ؟ سأمشى في طريقى ، وسأظل احب الناس لانهم قتلوني بغير حق . . بل لعلهم محقون في ذلك . . فأنا أشك حتى فى نفسي . . الناس وأنا شئ واحد . . كلنا آتون من الرحم ، أصلنا شرير ، وكلنا أشرار . . الدنيا كلها شر وشقاء ولوم وعبث ونفاق . . سأمشى فى طريقي حاملا المشعل ، ولكن سينطفىء المشعل . . سأصمد رغم الظلمات . . سأتحمل الشر لأسحقه سحقا وأخلق الحياة . . سأحطم كل ما يعترضني . . سأمزق هذه البطون المتخمة . . فانا جوعان ونعلي مهترئ وثيابى المبيضة المثقوبة تجعلنى أعيش شقيا يشار اليه بالبنان : هذا شقى رقم كذا . . ولكن ، هل أنا اعيش وحيدا فى شقائى وفي مذلتى وفى ثورتى وحقدى ؟ هل كل الناس يتصلون على الغداء والعشاء بالحيل التى يندى لها الجبين مثلى ؟؟
وأمر في الطريق حثيث الخطى فأسمع الناس ينادون ساخرين ضاحكين : يا شقي ؟ يا تعس ؟ فأصمت ، وأحمل مأساتى الوجودية مبتسما ابتسامة مريرة . فتثور ثائرتى وأتوجه اليهم أقذف الحمم والصواعق ، ولكن فى صمت . انني لا استطيع الجهر بذلك . فتبقى الكلمات فى أعماقى كالبركان ..
وخرجت ذات يوم كعادتى من الكلية ذهلا حائرا مفكرا منهارا ، فشاهدت سميرة صحبة شاب أعرفه فى نهج القصبة . فلم اضطرب . بل تقبلت الحدث باستياء وامتعاض فأنا لم أعد أثق فى شىء حتى فى نفسي .. وقبست من نور الشمس ، لأن الشمس وحدها تدرك ما فى الضمائر ، فتحرقها شوقا ولا تموت الا ليفني الضمير ويخلق العدم . . فملتني الشمس وهجرنى الضياء . .
واشتاق الى النور يوما ، فنفثتني الحياة الى الوجود . فرأيت الناس يتهربون من لهيب الشمس ويتحرزون بالأفياء والظلال لاهثين لهات القدر . ولا يسكنون فتتلون الشمس كالافعى تطل من حجرها لتلدغ الوجود فاذا به يغرق فى مأساة . فيقفز القلب عطفا يريد العوم . . ولا يحسن الا الحب عاشق أحمق . . ولكن ربان السفينة شديد رغم المأساة ..
فقلت لنفسي : لعل الوجود فى قبضة هذا الربان . فلأصارع . . فعسى أن تكون النجاة .
وجئتهم مهيبا ، أحمل الشمس فى يد وأدفع الظلام بالاخرى وأسوقهم أمامى كالقطيع ، فعساهم يفقهون . فيتلفتون الى قائلين : اسكتوا عنه ولا تتكلموا . . انه مجنون . .
ولكن أنا انسان . . انا عاقل . . أنا قلب متعطش اليكم يا ناس ، وروح تريد أن تقتبس منكم وتتغذى من معينكم الذي تتغذون منه .
كلمة واحدة يا ناس . . أريد ان أقول كلمة واحدة . اسمعوني لا تسخروا مني . لا تنظروا الى هكذا بعيون لا تعرف الضياء . أنا ابنكم يا ناس . لماذا تفرون منى ؟ هل كلامي يخيفكم ؟ هل لساني يؤذيكم ؟ ولماذا أنتم لا تسكتون ؟؟ الكتاب . . وهل ينفعني الكتاب عندما أريد أن أقول كلمة للناس ؟ كلا . . انا اريد أن يخاطبوني . . أن يناقشوني . . أن ينقدوني . . أريد الكلام .. الكلام مع الناس . ساقتل مقابل كلمة أقولها اذا امكن . سأختلس من جيوب الأغبياء لاقف أمام العدالة وأقول كلمة . . لا.. لن افعل . سيلقى بى فى السجن ، وأخسر الكلمة وأخسر أكثر من كلمة . . أخسر الناس . . الناس الاشقياء مثلى . . الناس الذين يضحكون على لأني لا أحسن الكلام معهم . .
النور ؟ . . النور يشع بعيدا . . ما هذا ؟ هذا امر غريب . . هذا الجعل مقبل من بعيد . . الجعل يريد أن يحدثكم عوضا عني أتصمتون الآن ؟ اتخافون من جعل من صوت جعل صغير ضعيف حقير ، عجبا يا ناس ؟ النور يقترب شيئا فشيئا . . ولكن ما هذا ايضا ؟ انها النملة . سكوتا ، انصتوا الى من فضلكم . الجعل يغيب عن العيون ، أتضحكون ؟ أتتهامسون ؟ تكلموا ؟ ماد دهاكم ؟ هل النملة تضحككم أيضا ؟ لا يهم . . ستعرفون قيمة الهوام والحشرات والحيوانات الحقيرة الضئيلة . . ستعرفون . . ماذا ؟ أتبكون ؟ ما هذه المناديل على وجوهكم ؟ ما هذه الدموع الهاطلة من محاجركم ؟ أتندمون ؟ . . شكرا ، ،ما زالت فيكم ذرة من الانسانية . الآن اشعر بوجودى . الآن أحس بأنى أعيش فى قوم يفهمون صوت الهوام ونداء القلوب . الآن أتندم أنا ايضا . ماذا ؟ ماذا اتصفقون ؟ أتبكون ؟ أتضحكون ؟ أتترنحون ؟ ماذا أصابكم ؟ يا الهى . . اني أكاد أجن .... . رأسى يؤلمني . عيناى تؤذياننى . . بخ . . بخ . . أين الناس الذين كنت معهم ؟ أنا أحلم ؟ . . سأتكلم لا محالة . . ولكن أنا أريد ان أراهم ويروني وأسمعهم ويسمعوني وأضحكهم ويضحكوني وأبكيهم ويبكونى وأسخر منهم ويسخروا منى . .
أمي ؟ . . أنت هنا ؟ مرحبا بك يا أماه . . أنا لست مريضا . . أنام ، كلا ، أنا لا أريد النوم . . أريد البكاء . . وأريد الصراخ ملء حنجرتى . احسبينى طفلا صغيرا يا أماه . . ألم أكن أبيت هكذا ؟ . . لا يا أماه ، السهاد رمز الخلود . . أنا أريد أن أعيش . . أريد أن أصرخ كما لو كنت صبيا .. سأتكلم . وسأقاتل النوم حتى أنتصر . أنا لا أريد الهزيمة . . الهزائم ليست من شيم الرجال الذين لا ينامون . . الهزيمة مرة كالنوم ، كالصمت ، الهزيمة قاسية قساوة الركود ..
تصلين يا أماه ؟ أدعى لي بالخير يا أماه . . دقيقة صمت من فضلكم ، دعينى يا أماه ، دعيني أكلمهم . . دعينى أرهم الضياء . . فقد ضلوا السبيل ، دعينى أمسح عن عيونهم غشاوة الظلام . . فقد اعماهم الغرور ، وحب الذات , دعينى يا أماه . . دعيني . . ماذا ؟ . . انت تبكين يا أماه ؟ . .
لا عليك ، سأموت ليحيا الحق . . سأموت ليسود العدل ، وليسعد البؤساء . . هيا هيا يا أماه . . قبلينى قبلة الوداع ، فالموت سيحملني إلى حيث لا ظلم ولا عبث ولا فساد . . سأموت . . ولكن ، ادعى لى بالخير يا أماه . .

