الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

المهاجر

Share

- يا سى أحمد صباح الخير . - نهارك زين ولدى " . وجعل يتغنى بالبطاطا والطماطم والفلفل والبصل . والحرفاء يمرون على حانوته الى حوانيت غيره ، ولعروضه لا يأبهون . وماذا يهمهم نعته البطاطا بالزبدة ، والفلفل بالنار ، وتشبيهه الطماطم بالورد أو القرنفل ، ما داموا قد تعودوا الشراء من عند غيره ، وما دامت أرجلهم لا تعرف الى حانوت سى أحمد طريقا . وماذا يهم الناس فتح سى أحمد للخضرة حانوتا أو باع بأرخص مما يبيع به غيره من خضارى القرية ، ما دام فى النفس التفاؤل والتطير ، وما دامت الحياة لا تقام على غير أساس متين من الاعتقاد فى الله أو الشيطان أو فى غير هذا وذاك من المظاهر الطبيعية والنواميس .

وانكب سى أحمد على طماطمه يرصفها بعناية ، ومن الخامر والمطبوب والاخضر والدقيق ينظفها ، وقال : " الخدمة يا حسره عالخدمة كيف كانت " وتناهيت لسانه ألفاظ من قبيل : " غلو المعيشة ، صعوية الحياة ، فساد الزمن ، قلة ذات اليد ، والجفاف " . وكان سى أحمد يشترى بالغالى ويبيع بالرخيص ، وكان رأس المال فى صندوق السكر الفارغ يسير الى النفاد بخطى واسعة سريعة . وكان سى أحمد لا تزيده قسوة الظروف حواليه الا على حماسه حماسا وعلى نشاطه نشاطا ، والى قوته قوة .

من قدره ان يعمل فعمل : فلاحا ببطنه ، ثم حمالا - فوق البطن - بدرهمين ، ثم خداما فى مقطع للحجارة بظهر القرية . وتزوج فى الاثناء ، وما أنجب ، فتبنى ابنة اخت زوجته وأدخلها المدرسة فكانت - كلما تقدمت الى الامتحان - لا تترك وراءها الا الجدار .

وسمع سى أحمد بازدهار التجارة وثراء التجار ، فقبل عيون زوجته فمكنته من خرص لها فباعه وأصبح خضارا : يقوم قبل دجاجته " كحلية " ويركض الى السوق فيشترى صناديق الفلفل والطماطم والبصل . . ويفرشها فى قاع حانوت

استهلك فى كرائه نصف ثمن الخرص ، ويشرع فى المناداة على بضاعته وينش الذباب . وتقوم زوجته من نومها فتغسل وجه " ابنتها " وتدفع بها فى طريق المدرسة ، وتصلح من شأنها ، وتلتحق بزوجها فتجلس فى ركن مظلم من الحانوت ، وتشرع فى مسح الطماطم والفلفل ، عسى اشراقها يلوى - من المارة عليه الى حانوت غيره - بعض الاعناق .

وفاجأنى سى أحمد بقوله : " ها البلاد ما عادش فيها العيشة " وأضاف بعد سلسلة الالفاظ اللاعنة المتبرمة القلقة الغاضبة السابقة الحاقدة : " قلت نمشى لليبيا ، فيها الفلوس كيف التراب " ( وكان سى ) أحمد ينطق السين شينا " وباع سى أحمد بضاعته كيفما اتفق ، وتحصل على " بسبور " وذهب الى ليبيا

- شرب سى أحمد ، قبل سفره ، قارورة خمر ، وجعل يضرب فى شوارع القرية متطايحا ، ويصيح : " هجوا ! ! هجوا يا ناس "

- عندما خرج سى أحمد للسفر الى ليبيا ، خرجت وراءه زوجته تجرى وتصيح وترمى بالملح والماء فى أثره .

" - علة آش هزوا . " - كان فيه الخير راه قعد فى بلاد . "

وبدأت أخبار سى أحمد تتساقط على القرية وتؤم الحى ، فتفرح لها زوجته وتبتئس ، ويحسده من خلالها على سفرته الناس ويرثون لحاله .

قالوا : - دخل يعمل بناء فسقطت عليه حجرة فمات . - بل جرح فقط وهو الآن فى بعض المستشفيات .

- حصل ثروة كبيرة لم يجد الى ادخالها سبيلا . - لم يلائمه هواء البلد الجديد فجن .

قالوا : حصل مالا كثيرا وسرقوه .. قالوا وما أكثر ما قالوا .

وفوجئنا - ذات عشية - بسى أحمد يعود كما خرج : البذلة المرقعة الزرقاء ، الشاشنية ، صفراء الظهر سوداء الحواشى ، الحذاء المفتوق ، " الغوفة " الوسخة فى طول الشبر .

ماذا فعلت يا سى أحمد فى ليبيا ؟ - مشيت نتدهور . . عرفت البقعة . . سواح .

- خدمت فى معمل . . والفلوس لاحقة فى الثنية . - خدمت طباخ للروامة .

- خدمت بناى . - خدمت دهان - خدمت فى حانوت .

وفتح سى أحمد حانوته من جديد ، وأصبح يصيح : " طماطم ليبيا ، قرع ليبيا ، فلفل ليبيا ، بطيخ ليبيا " فما تزاحم الناس على حانوته ، ولا كثر حوله منهم اللغط والهمس والتدافع ، فصار ينادى : " بثلاثين بعد خمسن يا طماطم . . تقدموا يا ناس . " فما تقدم من حانوته الفقراء .

وقال لى سى أحمد ، وقد كنت حريقه الاوحد ، : " بلاد لسلام ، ما عادش فيها العيشه " وشنه هجوما على التونسى والليبى والجزائرى ، وقال : " اى - قلت - الواحد يغرب ، ثماش ما تدور الفلوكة ، ويقوم السعد ، الناس خرجوا زوايل ، ورجعوا سلاطين " . وسألته عن وجهته ، فتردد وقال : " طالبا .. طالبا بنت الكلب فيها الدراهم . . الليرات تطير فى الشوارع . "

وجار سى أحمد على أركان بيته ، فباع " بطانيته " وباع " سباعته " ( وقد لان جلبها من ليبيا ) ، وأعطته زوجته ما كانت ادخرته طيلة غيابه من ثمن بيض " الدجاجة " كحلية " وسافر سى أحمد الى اطاليا " .

- تخاصم سى أحمد - قبل سفره الى طاليا - مع زوجته وضربها على رأسها بالقبقاب ، وفزع على صياحها الجيران ، وسمعوه يقول : " آى تسكت والا نركزها بنت سبعطاش "

- سأل سى أحمد المعلم عن " ابنته " فقال له المعلم : "خلات وراها ثنين : فى تحسن " فضحك سى أحمد وقال : " انت فني تعرف تقرى يا سى فلان .. غير الوقت ظلمنا . . تهاك العام وانت بلاش سروال " . وكان هذا قبل سفره الى طاليا .

- دبحت زوجه سى أحمد " كحليتها " وكان هذا ليلة سافر سى أحمد الى طاليا .

وبدأ الناس يتسقطون اخبار سى أحمد : - يخدم فى معمل كراهب .

- يخدم بناى . - دخل الحبس . . مسكين . . بهيم فين يعرف القانون .

- وقع له حادث فدخل المستشفى لا ! . يزى ! ؟ كيفاش ؟ ! . . عجب ! ؟ زعمة . . آ ؟!! . . .

وقيل لزوجته انه أخذ رومية فندبت خدها وخبشت رقبتها ، وأقامت على سعدها المناحة .

وجاءها - ذات عشية - البسطاجى بحزمة من الفلوس . من أين ؟ - سى أحمد . وجاءها البسطاجى - ذات عشية أخرى - بقرطاس . من أين ؟ سى أحمد

وتقاطر على منزل سى أحمد الناس :

- عيشك قل لسى أحمد يدبر خدمة لولدى !

- وانا لراجلى ! - وانا لخوى ! - ونا لسلفى ! - وانا لحموى ! - وانا لولد عمى !

وكانت زوجة سى أحمد تعلو بقامتها وتقصر . وكانت تضحك وتضحك ثم تضحك . وكانت تقول : " هذا بعثو سيدك أحمد ! هذا شراه سيدك أحمد ! هذا عجب سيدك أحمد ! . . هذا سيدك أحمد وهذا سيدك أحمد وهذا سيدك أحمد ! هذا هو وهذا هو وهذا هو ! . "

وأفاقت القرية على سيارة " فيات " تهدر فى الدروب الناعسة ، فترك صاحب الشغل شغله ، وانصرفت المرضع عن ابنها ، وغصت الابواب بالوجوه والناس وكان فى السيارة سى أحمد يلوح بيده ويصيح : " تشاو . . تشاو " وكانت أو جانبه شمطاء " كاللفعة " الصفراء تضم الى صدرها خرقة بيضاء تلف شعر اسود .

- دهشت زوجة سى أحمد الاولى . - جنت . . ماتت .. - هربت " ابنة " سى أحمد الى والدها الاول .

- نسى سى أحمد لغته . - سى أحمد سمى ولده الجديد : " بنبينو "

- دخل سى أحمد الى مقهى القرية وقال : " ميزيريا نيرا " ( فقر أسود ) . - سى أحمد نسى اسمى . أصبح يدعونى " أميكو " ( الصاحب )

قال المؤلف ، وهو غير الكاتب ، : حدثني من بقى فى القرية قال : " ان الرومية لما عرفت حقيقة سى أحمد ، وخبروها عن زوجته الاولى بكت أحر نكاء وباتت فما أصبحت لاهى ولا الولد ولا السيارة . وافتقد الناس سى أحمد أياما ، ثم شاهدوه سكران يتطايح ويصيح : " كوستا كان دى فيتا " ( الحياة الكلبة " ، ومن وقتها ما ذكر خبره أحد .

قال الكاتب ، وهو غير الراوى : ان سى أحمد ، لما هربت عليه زوجته الثانية ، أراد أن يلتحق بها . .

قال الراوى : " أما أنا فلا أضيف شيئا . "

اشترك في نشرتنا البريدية