الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

النقد الأدبي في تونس

Share

ان دراسة النقد الادبى الحديث في تونس ليست يسيرة المنال لانها تحتاج إلى جمع مستقصى للوثائق والمراجع وهي مشتتة فى الجرائد والمجلات وبعض الكتب وهي مادة غزيرة لاعداد الاطروحات وكتابة الكتب: ولكن رغم ذلك فانه يمكن بأن نجزم بأن النقد الادبى في تونس غائب لا يقوم بدوره الفعال في تقييم الادب التونسي ومقارنته بالآداب الأخرى وضبط المدارس الادبية المختلفة واعطاء دفع للادب والادباء حتى يحبب الى جماهير القراء المادة الادبية فتقوم بوظيفتها فى المجتمع.

واذا كان هذا النوع من الدراسة عسيرا لانه يتطلب الوقت والاختصاص والاناة العلمية فانى ساقتحم هذا الميدان بصورة انطباعية واستنادا الى تجربتى الشخصية وحسب طريقتى الذاتية وأخيرا احاول استقصاء العوامل التى تضافرت لاحلال غياب النقد محل حضوره مع محاولة بعض الحلول لتلافى هذا الغياب.

1) وضع النقد الأدبي في تونس:

ان ممارسة النقد الادبى فى تونس لا تخرج حسب رأيى عن أربعة أوجه فاما ان يقوم به أساطين النقد المعروفون بذلك وهم الذين جعلوا هذا الفن الادبى فرصة لابراز براعتهم الادبية وسموا به الى مقام الخلق والابتكار واما ان يختص بالنقد الادبى الاساتذة الجامعيون بدراساتهم وبحوثهم او ان يمارسه رجال الاعلام سواء فى الصحف او المجلات او الاجهزة السمعية والبصرية وأخيرا فان هذا الفن يمكن أن يجد منبرا فى النوادى الثقافية. هذه المجالات الاربعة اعتقد انها هى الوحيدة التى يمارس فيها النقد الادبى فى تونس.

1) الاختصاص فى النقد

لا اعرف فى تونس منذ الثلاثينات الى اليوم من اختص بالنقد الادبى وعرف به وبز غيره فيه. فالناقد للادب فى رأيى هو الذى يتصدى أولا وبالذات الى الكتب الادبية والدواوين الشعرية لتقييمها بصورة مطردة لا يفرق بين جيدها ورديئها ولا يستنكف من قوله الحق سواء كان صاحب الاثر صديقا أو كاتبا تحريرا مهما كان مشربه او اتجاهه أو مبتدئا فطنا أو نكرة ملححا أو دعيا اقتحم ميدان الادب عندما سدت فى وجهه ميادين الحياة الاخرى. والناقد الادبى هو الذى حذق المدارس النقدية واستنبط لنفسه اتجاها على أساسه يغربل الآثار الادبية ويقيمها ويحكم عليها أو لها وبالطبع فان هذا الناقد لا تخفى عنه خافية فى مجال تقنية الخلق الادبى ودوافعه وأساليبه ولا تغيب عنه أية جزئية فى ممارسة لغة الخلق سواء من الناحية الصوتية أو الالسنية أو المعجمية أو الاسلوبية.

هذا الناقد الادبى لم تعرفه تونس منذ الثلاثينات بل يمكن ان تجد الاديب البارع والدارس له ولكن الناقد الذى يطغى باحكامه وتقييمه للانتاج على الحياة الادبية فانه عزيز الوجود فى تونس.

لا شك ان الجامعة هى التى تحتضن العلماء والعارفين فى النقد الادبى والملمين باتجاهاته ومدارسه قديما وحديثا. ولكنه لا يصلنا من الجامعة التونسية الا اصداء باهتة لما يطبخ من آراء فى مجال النقد وما يتصارع فيها من تيارات. وعذرنا انه ليس لدينا الا بعض الاعداد من مجلة الحوليات التى تحتوى على نقد لعدد قليل من الكتب الصادرة سواء فى تونس أو فى غيرها من البلدان العربيه. ويتولى النقد أساتذة لهم باع طويل فى هذا الميدان من أمثال الدكاترة الشاذلى بويحيى والمنجى الشملى وعبد القادر المهيرى ومحمد اليعلاوى وجعفر ماجد وتوفيق بكار وغيرهم.

لكنه يحق لنا ان نطرح عدة اسئلة تجول بالخاطر ولا تجد الجواب فى الوقت الحاضر.

هل تحتضن الجامعة التونسية كل مدارس النقد المعروفة فى العالم بحيث تقام على أساسها الدراسات الادبية وتلقن للطلبة فى المحاضرات والدروس التطبيقة؟

هل ان فى صلب الجامعة التونسية مدرسة نقدية تونسية بصدد ارساء قواعدها وضبط واجباتها وتوضيح مناهجها؟

أو على الاقل هل ان من الاساتذة من اختص بالنقد الادبى وبرع فيه وبز غيره من اقرانه؟

هل ان الادب التونسي الحديث فى آثاره البارزة قد غربل على أسس علمية من النقد الادبي؟ كلها اسئلة مطروحة تحتاج الى جواب ولعل فى هذا الملتقى سنظفر بما يشفى الغليل. غير ان الذى يمكن الجزم به هو ان المنشور فى ميدان النقد الادبي والصادر عن الجامعة قليل جدا. بحيث ان تأثيره على الحركة الادبية لا يكاد يلمس ولا شك ان عدة عوامل ادت الى هذا الوضع منها ما هو يتعلق بالوضع الادبي بصفة عامة ومنها ما يرتبط بالحياة الجامعية بصفة خاصة.

ب) النقد ووسائل الاعلام:

اذا كانت المجلات كالفكر والحياة الثقافية وقصص تدرج فى صفحاتها من حين إلى آخر نقدا للكتب الجديدة يتفاوت بحسب قيمة الكتاب فان الجرائد سواء كانت باللغة العربية او بالفرنسية التزمت بالتعريف بالانتاج الجديد. ولكنه تعريف لا يتعدى العرض السريع لأهم الابواب الواردة فى الكتاب وهى تتحاشى دائما ان تقيم الاثر أو تحكم له او عليه الا فى النادر القليل. وهو عمل أولى للنقد ليس له منهج ولا أسلوب خاص به يتداوله صحفيون عديدون من دون البحث عن طابع يميز هذا أو ذاك. وغالبا ما يتم ذلك فى فترة واحدة ثم يسدل الستار عن الاثر فلا تعود تسمع عنه شيئا لان هذه الجرائد تهمل حتى التنبيه الى ما يمكن قراءته من كتب كما تفعل بالنسبة للافلام والمسرحيات.

اما الاذاعة فلها حصص عديدة تتناول فيها الآثار الادبية بالنقد ولكنها بحكم نوعيتها فانها تتوخى نفس الطريقة التى تتوخاها الصحف ولكنها تمتاز بالجراءة اذ ان اصحاب البرامج يعمدون الى التقييم ومناقشة الكتاب فى بعض الاحيان مما يعمق شيئا ما النقاش ويقربه من الروح النقدية الحقيقية. ولكن هذا العمل يفتقر ايضا الى المناهج والاساليب العلمية " رفقا بعامة المستمعين " ويتحاشى النقد الصحيح لانه ربما يثير حساسيات لا يقدر على تحمل تبعاتها اصحاب البرامج أو المسؤولون فى الاذاعة.

التلفزة التى تتناول الكتب بالنقد فهى قليلة جدا ولا استحضر في ذهنى الا برنامجا واحدا هو نادى الكتاب الذي يشرف عليه الشاعر الدكتور جعفر ماجد والذى يلتقى فيه بعض أهل الاختصاص ويناقشون صاحب الاثر الحساب. ولكن هذا البرنامج يعرض دائما فى اوقات البث " المغبونة " أى فى العشية ربما خشية اضجار النظارة اثناء السهرة فتختار لهم المنوعات الغنائية والمسلسلات المستوردة.

ج) النقد والنوادى الادبية:

النوادى الادبية كثيرة وهى منبثة فى انحاء الجمهورية تقوم بدورها للتعرف  الى الحركة الادبية ونشرها فى نطاقها الخاص بها. وهي تمارس نوعا من النقد الادبى. ولا يمكن لى ان أتبسط فى الحديث عنها لانه ليس بين يدى دراسة جاهزة اللهم الا ما يصدر عن بعض النوادى من نشريات مثل نادى القصة أو ما ينشر فى الصحف عن نادى الشعر فى دار الثقافة ابن خلدون او النادى الادبى بدار الثقاقة ابن رشيق.

ولكن الذى يمكن ان نجزم به هو انه لم تنبع من هذه النوادى حركة نقدية بينة المعالم بالغة التأثير.

2) تأثير هذا الوضع على المجتمع التونسي:

هذ الوضع الذى حاولت وصفه بتجرد وايجاز له انعكاسات على المجتمع التونسى اذ هو تسبب بالنسبة للجامعة فى عزل الاساتذة الجامعيين المختصين فى الادب عن المجتمع بينما المادة التى يمارسونها قابلة لان تروج بين الناس بشئ من التبسط خاصة ان مستوى القراء يرتفع شيئا فشيئا بحيث انهم قادرون على فهم المدارس النقدية ومناهجها.

وينجر عن هذا الوضع جهل المجتمع بادبائه وانكاره لهم وازوراره عن متابعة نتاجهم وعدم تشوقه الى معرفة الجديد منه لان النقد اذا هو لا يثير رغبة القراء فى المطالعة بابراز النواحى المهمة التى من شأنها أن تزيد فى معارفهم أو ترفع من مستواهم فانه لا يكون قد أدى دوره على أكمل وجه.

وينشأ عن هذا الوضع ايضا ان المجتمع يفقد التطلع الى القيم لان النقد سواء كان ادبيا أو غيره هو الذي يقيم ما ينتجه المجتمع فى جميع المجالات فيهدى بذلك الناس الى مواطن الجمال والخير والمعرفة ويبرز بشجاعة القبح

والشر والجهل وكل ما يضر بالمجتمع. فاذا خلا المجتمع من الناقد الحصيف يبقى أفراده مذبذبين لا يتعلقون بسلم قيم واضح وتطغى النقائص التى لا يستقيم بها حال على الناس فينحطون الى دركات الانانية والاستهتار بالقيم والازورار عن الخصال الحميدة التى بها يرتفع مستوى الافراد للعيش فى تضامن وتآلف وتعاطف بعيدين عن كل حسد وبغضاء ليس لهم من حرص الا تقدمهم فى كنف تقدم المجتمع وارتقائه الى الافضل والاعدل.

والنتيجة الحتمية لكل هذا هو انحطاط وضع الادب واعتباره فنا ليس من ورائه فائدة ترجى خاصة إذا تفاقم طغيان المادة والكسب على الافراد ويا حبذا لو ان المجتمع التونسى الذى بات ينحدر شيئا فشيئا الى فصيلة مجتمع الاستهلاك أقبل يستهلك أيضا المادة الادبية ولكن لا شئ من هذا بصدد الوقوع بل ان التفاوت يكبر ويعظم فى اطراد وبالطبع فان مكانة الكتاب والادباء لا يحسدون عليها اذ بينما كان مجتمع الثلاثينات والاربعينات والخمسينات يبجل الشاعر والاديب ويضعه فى المرتبة الاولى فانه أصبح اليوم لا يبالى بهما ولا بما ينتجان.

هذه الاعتبارات تجرنا إلى البحث عن العوامل التى أدت الى غياب النقد وهى عوامل تاريخية ولغوية وثقافية واعلامية واجتماعية ونفسانية.

3) عوامل غياب النقد: أ) العوامل التاريخية:

لا يخفى ان المجتمع التونسي الحالى هو نتيجة حتمية لما تداول عليه من احداث ابتداء من خير الدين التونسى. ولقد ظهرت ملامح المجتمع التونسى بينة فى الثلاثينات عندما تبلورت حركات ثلاث: - الحركة السياسية. - والحركة النقابية والاجتماعية. - والحركة الادبية.

فالحركة السياسية لاقت من المواطنين الاهتمام الاول نظرا الى خضوع الاستعمار فى أبشع مظاهره واوجدت هذه الحركة بقيادة الحبيب بورقيبة طريقتها فى الكفاح على الصورة السليمة التى مكنت تونس من الاستقلال فأصبحت السياسة لها الاعتبار الاول والمكانة الفضلى بها تحقق الرغائب وتفتح الابواب ولها من قبل ومن بعد السلطة الظاهرة البارزة القادرة عن طريق الحكم على تغيير الاوضاع والتأثير الفعلي في شؤون الناس.

اما الحركة النفسانية والاجتماعية التى ظهرت أيضا فى نفس الفترة اى أواخر العشرينات على يد محمد على والطاهر الحداد فى نفس القوة التى ظهرت فيها الحركة السياسية فانها سارت سيرها الطبيعي تكتنفها الازمات ولكنها بقيت على قوتها.

غير ان الحركة الادبية التى تفاقمت فى نفس الفترة وبحدة ربما تفوق الحركة السياسية وتزعمها أبو القاسم الشابى وزين العابدين السنوسى وسعيد أبو بكر ومحمد الحليوى ومحمد البشروش وغيرهم لم تثبت امام الاحداث وتعثرت تعثرا لم يمكنها من ان تقف قوية الاركان امام الحركة السياسية والنقابية.

وليس معنى هذا ان الادب لم يقم بدوره فى ترقية المجتمع التونسي والمساهمة فى الكفاح التحريرى بل الذى اعنيه هو فاعلية الحركة الادبية وقوتها امام الحركة السياسية والنقابية. ففي حين طغت السياسة والعمل النقابى فى مجتمعنا الحالى بقى الادب مغمورا ليس له الاعتبار الذى كان له فى الثلاثينات.

وانجر عن كل هذا تدهور وضع الادب ومكانته وبالتالى غياب النقد اذ هو نرع منه واداته الاصلية فهل التبعة ترجع الى ظروف قاهرة خارجة عن الادب أم الى خفوت الحركة الادبية وتقهقر رجالها وتشتتهم وعدم تبينهم لخطورة الرهان؟

الجواب عن هذا السؤال يحتاج الى دراسة على حدة. وعلى كل فان السياسة وأساليبها وتأثيرها كل هذا طغى على الادب والادباء والنقد ناهيك ان بعض الادباء الشبان توخوا فى الادب الاساليب السياسية لفرض انتاجهم ونظرتهم مما ادخل على الحركة الادبية التى يجب ان تكون لها طرقها ووسائل عملها النوعية اختلالا زادها تهافتا وضعفا.

ب) العوامل اللغوية والثقافية:

ويجب ان لا نهمل عوامل أخرى لها ضلع كبير فى تدهور الادب فى تونس وبالتالى النقد الادبى وهو الوضع اللغوي والثقافى ولا يخفى ان تونس بليت منذ ان حل نظام الحماية سنة 1881 ازدواجية منحرفة تغلب لغة أجنبية على لغة القوم وهى فى الواقع ليست ازدواجية حقيقية بل مما اسميته الغربة اللغوية اى احتلال لغة الغالب محل لغة الوم. وبالفعل فان اللغة الفرنسية سيطرت

السيطرة التامة على عقول التونسيين بحيث ان التخلص من هذا الوضع بسرعة أمر كاد يكون مستحيلا وانجر عن هذا نوع من الاستعمار الثقافى مازلنا نعانية.

نعم هناك محاولات تقوم بها وزارة التربية للخروج من هذا المأزق ولكن القطاعات الاخرى لا تساير هذه السياسة.

وانجر عن هذا ان القراء التونسيين يستهلكون من الجرائد والمجلات والكتب الاجنبية اضعاف ما يستهلكون باللغة العربية حتى ان عدد الجرائد اليومية باللغة الفرنسية يفوق مثيلاتها باللغة العربية.

ج) العوامل الاجتماعية والنفسانية:

لا يمكن ان نغفل ايضا عن العوامل الاجتماعية والنفسانية التى تجعل المواطن التونسي ينصرف عن الاهتمام بالادب وبالتالى النقد الادبي. وهنا يتحتم الغوص فى تحليل المجتمع التونسي من الوجهة السوسيولجية والشخصية القاعدية. واذا كانت التحاليل التى اهتمت بالمجتمع التونسي قليلة نسبيا فانها تشير إلى ان التونسي قليل المطالعة منصرف الى الكسب ميال أكثر الى الربح العاجل مهتم بالسياسة حتى انه  " يسيس " كل شئ ولكنه الى جانب هذا شديد على نفسه تواق الى الكمال مما يحبط نوازع الخلق والانتاج فيه وهو إلى ذلك حساس يخاف من النقد ويعتبره طعنا فى مواهبه لان المجتمع أيضا يرى أن الحديث عن مواطن الضعف هو معناه سلب كل قيمة وتحطيم مطلق ليس الا.

4) بعض الاقتراحات

ان هذه العوامل التى ذكرتها بعجالة تتصل بالسياسة الاعلامية والثقافية وهى على وضعها الحالى لا يمكن لها ان تصلح البتة من شأن الادب والادباء ولا ان تدخل روحا جديدة فى ميدان النقد. فضبط سياسة اعلامية وثقافية تحل مشاكل النشر والتوزيع والترويج وممارسة حرية التعبير والتفكير امر لا مناص منه اذا اردنا لمجتمعنا الخير والتقدم والتطور السليم. وهذا يتطلب اعداد برنامج عمل قابل للتطبيق على مراحل للخروج مما ذكرته من آفات وهذا البرنامج يجب ان يهتم باصلاح الوضع اللغوى والثقافى والاعلامى والجامعى على النسق الذى اثبت فيه العيوب. ولعلى بهذه العجالة الانطباعية قد ساهمت فى النقد بنقد النقد الادبي.

اشترك في نشرتنا البريدية